تأويل التردُّد المُسند لله في الدعاء

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

شيخنا ما هو تأويلُ الدعاء الذي يُقرأ في التعقيبات وهو: "ما تردَّدتُ في شيءٍ أنا فاعلُه كتردُّدي في قبضِ روح عبديَ المؤمنِ يَكرهُ الموتِ وأكرهُ مساءتَه .. إلى آخره(1)؟

كيف تصحُّ إضافة التردُّد لله جلَّ وعلا؟ وهل سندُ هذا الدعاء تامٌّ؟

الجواب:

منشأ التردُّد عند الإنسان:

لا ريب في استحالة التردُّد -بمعناه المعهود عند الإنسان- على الله تعالى لأنَّه إنَّما ينشأ عن جهل الإنسان بالعواقب المترتِّبة على الفعل أو ينشأ عن عدم الثقة بالقدرة على الإتيان بالفعل، وقد ينشأ عن الرعاية للآخرين والحذر من انزعاجهم واستيائهم.

فالإنسان إنَّما يتردَّد بين فعل شيءٍ أو تركه لأنَّه يجهلُ عاقبة الفعل وعاقبة الترك للفعل، فيخشى أنَّه إذا فعله يقعُ في محذور، ويخشى إذا تركه أن يكون قد فوَّت على نفسه مصلحة، لذلك فهو يتردَّد، وكذلك هو يتردَّد لأنَّه يجهلُ بمقدار المصلحة التي سوف يجنيها مِن الفعل ومقدار المفسدة أو المضرَّة التي سوف تُصيبُه من الفعل، فهل مصلحة الفعل أكبر من مفسدته فيكون الأرجح هو الإقدام على الفعل أو أنَّ المفسدة من الإقدام على الفعل أكبر فيكون الأرجح هو الترك للفعل، لذلك هو يتردَّد.

وقد يُدرك الإنسان أنَّ هذا الفعل فيه مصلحة تامَّة ولكنَّه يتردَّد في القيام به لعدم ثقته بالقدرة على أدائه كما لو أدركَ أنَّ في تعلُّمه للطب مصلحةً تامَّة له ولمجتمعِه ولكنَّه غيرُ واثقٍ بقدرته على استيعابه، لذلك فهو يتردَّد في اتِّخاذ قرار التعلُّم وعدمه.

وقد يُدرِكُ أيضاً أنَّ في الفعل مصلحة تامَّة ولكنَّه يتردَّد في القيام به لأنَّه يخشى من استياء الآخرين لفعله أو عدم تفهمهم لمغزى فعله، لذلك فهو يتردَّد رغم إدراكه لمصلحة الفعل في نفسه، وقد ينشأ التردُّد عن نحوِ هذه الأسباب.

استحالة التردُّد على الله تعالى:

والتردُّد أيَّاً كان منشأه مستحيلٌ على الله تعالى، وذلك لعلمِه المُطلق بعواقب الأمور وعلمِه المُطلق بأوجهِ المصالح والمفاسد، ولقدرتِه على كلِّ شيء، وعلمِه بأنَّه لا يمتنعُ منه شيء، وأنَّ إرادتَه ماضية وقضاءَه حتمٌ، فلا مسرحَ ولا مساغَ للتردُّد في أفعاله جلَّ وعلا، ولهذا يتعيَّن حمل التردُّد في هذا الدعاء المأثور على معنىً لا ينافي المعلوم من كمال الله المطلق وعلمِه بكلِّ شيء، وقدرته على كلِّ شيء، وأنَّ قضاءَه حتمٌ وإرادته حقٌّ مطلق: ﴿وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ﴾(2) ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾(3) ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾(4).

الوجوه المحتملة لتأويل الحديث:

ولهذا تصدَّى العلماء لتأويل هذا الحديث فذكروا لذلك أوجهاً عدَّة لمعنى الحديث أهمُّها:

في الحديث كناية عن عظيم منزلة المؤمن:

الوجهُ الأول: أنَّ المراد من التردُّد في الدعاء المأثور هو الكناية عن عظيم منزلة المؤمن عند الله تعالى وأنَّه لعظيم منزلته عنده لا يرضى له الشعور بالمساءة والحزن، فاستعمل الدعاء الملزوم وأراد اللازم كما هو الشأن في مطلق الكنايات.

وبيان ذلك:

أنَّ الكناية تعني استعمال الملزوم وإرادة اللازم، فيقال: -مثلاً- "زيدُ كثيرُ الرماد" ويقصدُ المتكلِّم من ذلك أنَّ زيداً كريمٌ جواد، فهو قد استعمل الملزوم وهو كثرة الرماد في بيت زيد لكنَّ ذلك لم يكن هو مقصودَه بل إنَّ مقصودَه هو اللازم وهو أنَّ زيداً كريم، فلأنَّ كثرةَ الرماد في البيت تكونُ عادةً لكثرة الطبخ والطهْي للطعام لتقديمه للضيوف لذلك استعملَه المتكلِّم للانتقال منه إلى إفادة أنَّ زيداً كريم.

فإذا كان زيدٌ كريماً واقعاً فإنَّ المتكلِّم يُعدُّ صادقاً حتى لولم يكن في بيت زيد رمادٌ كثير أو لم يكن فيه رمادٌ أساساً، وذلك لأنَّ المتكلِّم لم يقصد من قوله: زيدٌ كثير الرماد الإخبار عن كثرة الرماد في بيت زيد وإنَّما قصد الإخبار عن لازم ذلك وهو كرم زيد والمفترض أنَّ زيداً كريم واقعاً. فقد يكون السامع على علمٍ بأنَّ زيداً ليس له بيتٌ أساساً ليكثر فيه الرماد ومع ذلك لا يرى أنَّ المتكلم قد كذب فيما قال لأنَّه علم أنَّه يقصد -من قولِه أنَّ زيداً كثير الرماد- الكنايةَ عن أنَّ زيداً كريم. فالمقصود في الكنايات ليس هو المدلول الحرفي للمنطوق بل المقصود هو لازم المنطوق.

تماماً كما هو مدلول قوله تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾(5) فإنَّ المقصود من الآية هو نسبة الكرم وكثرة العطاء لله تعالى وليس المقصود منها المدلول الحرفي للكلام فإنَّ الله جلَّ وعلا ليس له يد -تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا- فلأنَّ العطاء يكون عادة باليد، ولأنَّ يد المُعطي تكون حين العطاء مبسوطة عادةً وليست مقبوضة لذلك أرادت الآية الانتقال من هذا المدلول إلى لازمه وهو الكرم وكثرة العطاء، فالآية أرادت الإخبار عن اللازم بواسطة استعمال الملزوم أي أرادت الإخبار عن كثرة العطاء عن طريق ما يتمُّ به الإعطاء عادةً.

ومن ذلك يتَّضح المراد من قوله: "ما تردَّدتُ في شيء" فإنَّه أراد من ذلك الكناية عن عظيم منزلة المؤمن عند الله تعالى.

فلأنَّ العادة جرت أنَّه إذا أراد إنسان أنْ يفعل شيئاً يراه صالحاً ولكنَّه يتسبَّب في دخول الأذى على عزيزٍ له فإنَّه يتردَّد في الإقدام عليه رغم إدراكه أنَّه عملٌ صالح لكنَّه يتردَّد رعايةً لمشاعر هذا العزيز، فمثلاً حينما تقتضي المصلحة التامَّة أنْ يأمر الولدُ الطبيبَ ببتر يد والده فإنَّه يتردَّد طويلاً في الأمر بذلك لا لأنَّه يشكُّ في المصلحة من هذا القرار بل لأنَّه يخشى أنْ يتأذَّى والده من هذا القرار ولا يتفهَّم مغزاه. وعلى خلاف ذلك لو أنَّه وجد من المصلحة التامة في قتل هذا الحيوان فإنَّه يُبادر إلى قتله دون تردُّد رغم أنَّ الحيوان سيتأذى أيضاً من ذلك إلا أنَّه لا يعبأ بأذيته لأنَّه لا موقعَ له في نفسه.

فالتردُّد في الفرض الأول نشأ عن منزلة والده في نفسِه لذلك يشقُّ عليه أنْ يشعر بالأذى تجاهه وأنْ لا يتفهَّم مغزى فعله.

فالحديثُ المذكور استعملَ التردُّد وأضافه لله تعالى للانتقال منه إلى لازمه، فالتردُّد في الحديث ليس مقصوداً بمدلوله الحرفي وإنَّما المقصود منه التعبير به عن لازمِه، فهو قد أضاف التردُّد لله تعالى وقصد منه الكناية عن منزلة المؤمن عند الله.

فقوله: "ما تردَّدتُ في شيء أنا فاعله كتردُّدي في قبض روح عبدي المؤمن" ليس المقصود منه أنَّ الله تعالى يتردَّد فيما يفعل بل المقصود من ذلك بيان منزلة العبد المؤمن عند الله فهو قد جاء بالملزوم وهو التردُّد وقصد من ذلك لازمه وهو بيان منزلة المؤمن عند الله تعالى.

تماماً كما هو الغرض من قوله: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ فهو لم يقصد أنَّ لله يداً وجارحة بل قصد من ذلك الكناية عن كرمِه وكثرة عطائه، فاستعمل الملزوم وأراد اللازم.

والذي يؤكد أنَّ الحديث بصدد التعبير عن منزلة العبد عند الله وليس المقصود منه التردُّد المعهود هو قوله بعد ذلك: "يكرهُ الموتَ وأكره مساءتَه" فإنَّ الإنسان إنَّما يكره الإساءة إلى مَن له منزلة في نفسه ويُحبُّه ويعزُّ عليه. فالحديثُ أراد التعبير عن عظيم منزلة العبد المؤمن عند الله من طريق استحضار الحالة المعهودة عند الإنسان حينما يضطر للإساءة إلى محبوبه، فهو -أي الحديث- أراد تقريب هذا المعنى لذهن السامع من طريق استحضار هذه الحالة المعهودة.

في الحديث استعارة تمثيليَّة:

ويُمكن تقريبُ هذا الوجه ببيانٍ آخر وهو أنَّ في الحديث استعارةً تمثيليَّة والتي تعني تشبيه مركبٍ بمركبٍ آخر لوجود علاقة المشابهة بينهما مع حذف المشبَّه والتصريح بالمشبَّه به.

فالحديث يُشبِّه قضاءَ الله بإماتة المؤمن بتردُّد الانسان حين يريد القيام بفعلٍ صالح يتسبَّب في دخول الأذى على محبوبه، فلأنَّ التردُّد عند الانسان في هذا الفرض ينشا عن منزلة المحبوب في نفس محبوبه، لذلك استعار الحديث هذا المعنى للتعبير عن منزلة العبد المؤمن عند الله تعالى، وأنَّ قضاءه بإماتته ليس لأنَّه هيِّنٌ عنده بل لأنَّ مصلحتَه اقتضت إماتته، فالحديث لا يقصدُ وقوع التردُّد من الله تعالى وإنَّما قصد الإشارة الى منشأ التردُّد عند الانسان حين يُريدُ فعل ما يُؤذي محبوبه، هذا المنشأ هو منزلة المحبوب في نفس هذا الإنسان، فهذه المنزلة هي التي أراد الحديث الإخبار عن وجودها عند الله تِّجاه عبده المؤمن.

ويُمكن التمثيل لذك بقول المتنبي:

 ومَن يكُ ذا فمٍ مرِّ مريضٍ ** يجدْ مرَّاً به الماء الزُلالا(6)

 

ومعنى ذلك أنَّ المبتلى بمرض المرارة في فمِه يشعرُ أنَّ كلَّ ماءٍ يشربُه فهو مرُّ المَذاق حتى وإنْ كان هذا الماء عذباً زُلالاً. هذا البيت جاء به المتنبِّي ليردَّ به على مَن يعيبون شعره، فهو يُريد القول إنَّ شعري ليس سيئاً كما يقولون بل لأنَّهم لا يتذوقون الشعر، فهم أشبهُ شيءٍ بالمريض بمرارة الفم، فإنَّه لا يتذوقُ حلاوة الماء بل إنَّ كلَّ ماءٍ يدخلُ في فمِه يجده مرَّاً وإنْ كان هو في الواقع عذباً، فالشاعرُ لا يقصدُ من هذا البيت وصف الذين يعيبون على شعره أنَّهم مبتلون بمرض المرارة بالفم وإنَّما يقصد من ذلك تشبيه حالتهم بحالة المُبتلى بمرض مرارة الفم، ووجه الشبه بين الصورتين هو فقدان الذائقة السليمة. فغرض الشاعر هو الإشارة إلى وجه الشبه وعلاقة المشابهة بين الصورتين.

كذلك المقام فإنَّ الحديث لا يقصدُ من إضافة التردُّد لله تعالى أنَّه يتردَّد واقعاً بل قصد الإشارة إلى أنَّ المؤمن عظيمُ المنزلة عند الله تعالى فكما أنَّ الإنسان يكرهُ إدخال الأذى على مَن يُحب لعظيم منزلتِه في نفسه كذلك فإنَّ الله تعالى يكرهُ إيذاء المؤمن لعظيم منزلته عنده، فالحديث قصد التعبير عن وجه الشبه بين الصورتين وهو المنزلة ولم يقصد نسبة التردُّد لله تعالى.

في الحديث إضمارٌ مقدَّر:

الوجهُ الثاني: أنَّ في الحديث إضماراً مقدَّرا، فتقدير قوله: ما تردَّدتُ في شيءٍ كتردُّدي في قبض روح عبدي المؤمن .." هو أنَّه لو جاز عليَّ التردُّد لمَا ترردتُ في شيء كتردُّدي في قبض روح المؤمن رعايةً لمشاعره وكراهته للموت.

فمساقُ الحديث كمساق ما قيل: "لو كان الفقرُ رجلاً لقتلتُه" فالمتكلِّم لم يقصد أنَّ الفقر رجلٌ وإنَّما أراد القول إنَّ الفقر شيءٌ سيء بحيث لو كان رجلاً لكان مستحقَّاً للقتل، وكذلك هو معنى لو جاز علي التردُّد لما تردَّدتُ في شيءٍ كتردُّدي في إماتةِ المؤمن، فالحديثُ لا يقصد من ذلك أنَّ التردُّد جائزٌ على الله -تعالى الله عن ذلك- بل أراد القول إنَّ المؤمن عظيمُ المنزلة عند الله بحيث لو جاز على اللهِ جلَّ وعلا التردُّد لتردَّد في اماتته.

فالغرض من سَوق الحديث هو التعبير عن منزلة المؤمن عن الله، تماماً كما لو قال الفقير: لو كنت ثريَّاً لكنتُ أول من أُغدق عليه المال هو ابنتي، فهو بهذا الكلام أراد القول بأنَّ ابنته هي أحبُّ الناس إليه. كذلك الحديث أراد القول بأنَّ المؤمن هو أحبُّ خلق الله إلى الله تعالى.

في الحديث مجازٌ مرسَل:

الوجهُ الثالث: أنَّ الحديث استعمل التردُّد وأراد نتيجته فهو لم يقصد من نسبة التردُّد إلى الله تعالى إثبات أنَّ الله تعالى يتردَّد بل قصد إثبات نتيجة التردُّد إلى الله تعالى تماماً كما هو الشأن في نسبة الغضب والحبِّ إلى الله، فالغضبُ والحبُّ من شؤون النفس التي تنتابها مشاعرُ الغضب والحبِّ وتنفعلُ بهما، والله تعالى منزَّهٌ عن ذلك، فالمقصودُ من نسبة الغضب إلى الله هو أثره، والمقصودُ من نسبة الحبِّ إلى الله هو أثر الحب، فأثرُ الغضب -مثلاً- هو الخذلان وسلب التوفيق وإيقاع العقوبة، فحينما يغضبُ الإنسان على أحد فإنَّه يخذله ولا يُعينُه وقد يُؤذيه ويُعاقبه، وحيث إنَّ الغضب بمعنى الانفعال النفسي مستحيلٌ على الله تعالى لذلك يكونُ معنى أنَّ الله غضبَ على زيد هو أنَّه خذله وسلبَ التوفيق عنه وأنَّه سيُعاقبه، فالمراد من نسبة الغضب إلى الله تعالى هو نسبة آثار الغضب إلى الله، وليس المقصود من ذلك هو نسبة الغضب نفسه إلى الله تعالى، وهكذا حين يُقال إنَّ الله يحب زيداً فإنَّ معنى ذلك أنَّه يرعاه ويرحمه ويُحسنُ إليه، فليس المقصود من نسبة الحبِّ إلى الله هو نسبة الانفعال النفسي إلى الله، فإنَّ ذلك مستحيلٌ على الله تعالى بل إنَّ المقصود من ذلك هو نسبة آثار الحبِّ إلى الله وهي الرحمة والرعاية والإحسان. وكذلك حينما يُنسب المكر إلى الله فإنَّ المقصود من ذلك هو نسبة آثار المكر ونتيجته إلى الله وهي الاستدراج والإيقاع المفاجئ، فنسبة المكر إلى الله لا تعني نسبة الخديعة إليه فهو تعالى غنيٌّ عنها بل إن المقصود من ذلك هو أنَّ الله يستدرج ويباغِت العُصاة بالعقوبة.

وهكذا هو الشأن في نسبة التردُّد إلى الله تعالى، فإنَّ المقصود من ذلك هو نسبة آثار التردد إلى الله، فلأنَّ الإنسان إذا أراد القيام بفعلٍ صالح تجاه عزيزٍ له وكان هذا الفعل يؤذيه فإنَّه يتردَّد ولذلك يحاول أن يتلطَّف بهذا العزيز ويبشِّره بأنَّ هذا الفعل وإنْ كان صعباً ولكن عاقبته خيرٌ وصلاح ويظلُّ يُبشِّر عزيزه بذلك إلى أنْ يُقنعه، فأثرُ التردد هو التلطُّف والتخفيف والتبشير بالعاقبة الحسنة.

فالحديث أراد مِن نسبة التردُّد إلى الله عند قبض روح المؤمن أراد من ذلك نسبة آثار التردُّد إلى الله تعالى وهو التلطُّف والتبشير، فمعنى الحديث أنَّ الله إذا أراد قبض روح المؤمن فإنَّه يلطفُ به ويُبشِّره بواسطة ملائكته بالعاقبة الحسنة وأنَّ الآخرة خيرٌ له من الدنيا فإذا ارتفعت كراهة الموت من نفسِه وأحبَّ لقاء الله تعالى بعد ذلك يقبضُ روحه. فالحديث استعمل التردُّد وأراد نتيجته يعني أنَّه استعمل السبب وهو التردُّد وأراد المسبَّب وهو آثار التردُّد وهو استعمال مجازي يعبَّر عنه بالمجاز المرسل لعلاقة السبَّبيَّة.

تعدُّد روايات الحديث القدسي المتضمَن في الدعاء:

هذا هو شرح أهمُّ الوجوه التي ذُكرت لتفسير الدعاء المأثور، وأما سنده فقد أورده الشيخ الطوسي (رحمه الله) في مصباح المتهجِّد، ونصُّه: اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، اللهمَّ إنَّ الصادق الأمين (عليه السلام) قال: "إنَّك قلتَ ما تردَّدتُ في شيءٍ أنا فاعلُه كتردُّدي في قبضِ روحِ عبدي المؤمن، يكرهُ الموتَ وأكرهُ مساءتَه، اللهم! فصلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل لوليِّك الفرجَ والعافية والنصر ولا تسؤني في نفسي، ولا في أحدٍ من أحبَّتي"(7).

فالدعاء وإن كان مرسلاً إلا أنَّ ما تضمَّنه هذا الدعاء من حديثٍ قدسي قد ورد في رواياتٍ عديدة وفيها ما هو صيح السند:

منها: صحيحة أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ (ص) قَالَ يَا رَبِّ مَا حَالُ الْمُؤْمِنِ عِنْدَكَ - قَالَ يَا مُحَمَّدُ مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيّاً فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وأَنَا أَسْرَعُ شَيْءٍ إِلَى نُصْرَةِ أَوْلِيَائِي ومَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُه كَتَرَدُّدِي عَنْ وَفَاةِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَه الْمَوْتَ وأَكْرَه مَسَاءَتَه"(8).

ومنها: صحيحة مُعَلَّى بْنِ خُنَيْسٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه (ص) قَالَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ: مَنِ اسْتَذَلَّ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنَ فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ ومَا تَرَدَّدْتُ فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُه كَتَرَدُّدِي فِي عَبْدِيَ الْمُؤْمِنِ إِنِّي أُحِبُّ لِقَاءَه فَيَكْرَه الْمَوْتَ فَأَصْرِفُه عَنْه - وإِنَّه لَيَدْعُونِي فِي الأَمْرِ فَأَسْتَجِيبُ لَه بِمَا هُوَ خَيْرٌ لَه"(9).

ومنها: معتبرة مَنْصُورٍ الصَّيْقَلِ والْمُعَلَّى بْنِ خُنَيْسٍ قَالا: سَمِعْنَا أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّه (ص) قَالَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ: مَا تَرَدَّدْتُ فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُه كَتَرَدُّدِي فِي مَوْتِ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنِ إِنَّنِي لأُحِبُّ لِقَاءَه ويَكْرَه الْمَوْتَ فَأَصْرِفُه عَنْه وإِنَّه لَيَدْعُونِي فَأُجِيبُه وإِنَّه لَيَسْأَلُنِي فَأُعْطِيه ولَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا إِلَّا وَاحِدٌ مِنْ عَبِيدِي مُؤْمِنٌ لَاسْتَغْنَيْتُ بِه عَنْ جَمِيعِ خَلْقِي ولَجَعَلْتُ لَه مِنْ إِيمَانِه أُنْساً لَا يَسْتَوْحِشُ إِلَى أَحَدٍ"(10).

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

5 / ذو الحجَّة / 1443ه

5 / يوليو / 2022م


1- مصباح المتهجد -الطوسي- ص58.

2- سورة الأحزاب / 53.

3- سورة النساء / 47.

4- سورة الأحزاب / 38.

5- سورة المائدة / 64.

6- خزانة الأدب -ابن حجة الحموي- ص84.

7- مصباح المتهجد -الطوسي- ص58، الدعوات -قطب الدين الراوندي- ص134.

8- الكافي -الكليني- ج2 / ص352.

9- الكافي -الكليني- ج2 / ص354.

10- الكافي -الكليني- ج2 / ص246.