﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ

أعوذُ بالله من الشيطانِ الرجيم

بسم اللهِ الرحمنِ الرحيم

الْحَمْدُ لِلَّه الْعَزِيزِ الْجَبَّارِ الْحَلِيمِ الْغَفَّارِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ، أَحْمَدُه وأَسْتَعِينُه، وأُومِنُ بِه، وأَتَوَكَّلُ عَلَيْه، وكَفَى بِاللَّه وَكِيلاً، مَنْ يَهْدِ اللَّه فَهُوَ الْمُهْتَدِي ولَا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَه، ولَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِه وَلِيّاً مُرْشِداً، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه، لَه الْمُلْكُ، ولَه الْحَمْدُ، وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً (ص) عَبْدُه ورَسُولُه، بَعَثَه بِكِتَابِه حُجَّةً عَلَى عِبَادِه، مَنْ أَطَاعَه أَطَاعَ اللَّه، ومَنْ عَصَاه عَصَى اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وآلِه وسَلَّمَ كَثِيراً، إِمَامُ الْهُدَى والنَّبِيُّ الْمُصْطَفَى، ثُمَّ إِنِّي أُوصِيكُمْ -ونفسي- بِتَقْوَى اللَّه، فَإِنَّهَا وَصِيَّةُ اللَّه فِي الْمَاضِينَ والْغَابِرِينَ ولَا حَوْلَ ولَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّه الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.

سياق الآية ومفادها:

يقولُ اللهُ تعالى في مُحكم كتابِه المجيد: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ(1).

هذه الآيةُ من سورة "المؤمنون" جاءتْ في سياق التَعدادِ لصفاتِ أهلِ الفلاح مِن المؤمنين، ومؤدَّى مجموعٍ الآياتِ الواقعة في هذا السياق من هذه السورة المباركة هو أنَّه ليس كلُّ مَن تلبَّس بالإيمان صارَ مِن أهلِ الفلاح بل إنَّ أهلَ الفلاح هم المستجمِعون لخصالٍ سبعٍ عدَّدتها سورةُ "المؤمنون" فكان منها قولُه تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وقد وردت هذه الآيةُ بنصِّها في سورةِ المعارج في سِياق التَعداد لمَن استثنتهم سورةُ المعارج من قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا / إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا / وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا(2) ثم قالت: ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ(3) إلى أنْ قالت: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ(4).

ومفادُ الآيةِ المباركةِ مِن سورة "المؤمنون" أنَّ المؤمنَ لا يحظى بالفلاح -والذي هو الظفرُ والفوزُ برضوانِ الله تعالى وجنَّتِه- ما لم يكن من صفاتِه الرعايةُ لما استُؤمن عليه، والأمانةُ هي مطلقُ ما يقعُ في عُهدةِ المكلَّفِ فيكونُ مسئولاً عن حياطتِه وصيانتِه واستصلاحِه وإيفائِه كما هو إلى مقرِّه، فالمقصودُ ظاهراً من الأمانةِ هو الشيءُ المُؤتَمنُ عليه، إذ هو الذي يُتعقَّلُ أداؤه، وأمَّا لفظ الأمانة فهو مصدر، ومدلولُه من سنخ المعاني التي لا يُتعقل فيها الأداء أو الخيانة، فأداءُ الأمانة معناه أداءُ الشيء المُؤتَمنِ عليه، وخيانةُ الأمانةِ معناه التفريطُ بالإضرارِ أو بالتضييع للشيءِ المُؤتَمنِ عليه.

المراد من الأمانةِ في الآيةِ المباركة:

ثم إنَّ عنوانَ الأمانةِ في الآيةِ المباركة، وفي مثلِ قولِه تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا(5) وقولِه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(6) هذا العنوان يحتملُ من حيثُ السعة والضيق معنيين:

المعنى الأول: هو أنَّ المرادَ من الأمانةِ هو مطلقُ الأشياءِ التي أُنيط بالإنسانِ مسئوليةُ الرعايةِ لها، وبناءً على ذلك تكون متعلَّقات مطلقِ التكاليف الإلهيَّة من عباداتٍ وغيرها مشمولةٌ لعنوان الأمانة.

المعنى الثاني: هو أنَّ المرادَ من الأمانةِ هو خصوصُ ما وقع في يدِ الإنسان من أموالِ الناس ومصالحِهم، فصارَ مسئولاً عن رعايتِها إمَّا لمعاقدةٍ على ذلك أو لأنَّ الشارع كلَّفه ابتداءً برعايتها ووضْعِ اليدِ عليها أو كلَّفه برعايتِها بعد أنْ صارت في يده. فهذه أقسام ثلاثة:

فالقسم الأول: هو مثلُ الودائعِ والعارياتِ والإجاراتِ والأوقافِ والوصايا، فإنَّ المكلَّفَ يُصبحُ مسئولاً عن حفظِها بعد قبضِها عن عقدٍ بينه وبين أربابِ الأموالِ والمصالح، ويَدخلُ في هذا القسم الأموالُ والمصالحُ التي يُكلِّفُ أربابُها آخرين بإدارتِها، فمَن له الإدارةُ العامَّة على تلك الأموالِ والمصالح فهو مُستأمَنٌ، والموظَّفُ الكبيرُ والصغيرُ كلٌّ منهما مُستأمَنٌ على ما تحتَ يدِه وما هو داخلٌ في دائرة مسئوليتِه.

وأمَّا القسم الثاني: فهو مثلُ أموالِ القاصرين، وأموالُ اليتامى والأطفال والسفهاء، وأموالُ الغائب، فإنَّ الله تعالى قد جعلَ ابتداءً الولايةَ لأصنافٍ من الناس على أموالِ هؤلاء فقال تعالى: ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ(7) وقال تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا(8) فجعل للأبِ والجدِّ مثلاً ولايةً على أموالِ القاصرين، وجعل الجدَّ وليَّاً على أموالِ اليتيم، ومع فقدِه تكونُ الولاية للمجتهد ثم لعدولِ المؤمنين إنْ لم يكن لأموال اليتيم وصيٌّ من قبل أبيه أو جدِّه لأبيه، واعتُبر التعدِّي على أموال اليتيم والذي هو القاصرُ من حيث السنّ والرشد من الحُوب والإثم الكبير والظلمِ الشنيع قال تعالى: ﴿وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا(9).

وأمَّا القسم الثالث: فهو مثلُ اللُّقطةِ والأموالِ مجهولةِ المالك والمظالمِ والأموالِ المحترمة التي يتَّفق صيروتُها في يَدِ أجنبيٍّ دون أن يكون ذلك عن عقدٍ بينَه وبين أربابِها.

فكلُّ هذه الأقسامِ من الأموالِ والمنافع تدخلُ تحت مسمَّى الأمانات التى يجبُ على كلِّ مكلَّفٍ -تصيرُ إلى يده- رعايتُها ويكون التفريطُ في حفظِها والرعايةِ لها من الخيانةِ التي حذَّرتِ الآياتُ والروياتُ مِن الوقوعِ فيها.

وبتعبيرٍ جامعٍ للأقسام الثلاثة هو أنَّ كلَّ مالٍ حقيرٍ أو خطيرٍ صارَ في يدك وأنتَ لا تملكُه فهو أمانةٌ في يدِك، فإتلافُه أو الاِنتفاعُ به دون إذنٍ مِن ذوي الحقِّ أو التفريطُ في رعايتِه أو حجبُه عن مستحقِّه دونَ مسوِّغٍ شرعي يكونُ مِن الخيانة.

المعنى المستظهَر من الآية المباركة:

إذنْ فثمة احتمالانِ لِما هو المرادُ من عنوانِ الأمانةِ في مثل قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ.

الاحتمال الأول: هو إرادةُ متعلَّقاتِ مطلقِ التكاليف الإلهيَّة، وعليه فالصلاةُ مثلاً أمانة، والزكاةُ والصومُ أمانة، كما أنَّ الوديعةَ أمانةٌ والعاريةَ أمانة.

والاحتمالُ الثاني: هو إرادةُ خصوصِ متعلَّق التكاليف الإلهيَّة الناشئة عن صيرورةِ أموال الناسِ ومصالحِهم في يدِ المكلَّف، فيكونُ عنوانُ الأمانات مختصّاً بما يصير في اليدِ من أموال الناس ومصالحِهم.

والظاهرُ أنَّ ذلك هو المرادُ من مثل قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} ويُؤيِّدُه أنَّ الصلاة والزكاة ذُكرا في عَرض الأمرِ بالرعاية للأمانة في كلٍّ من سورة المؤمنون وسورةِ المعارج، وكذلك فإنَّ المتبادَر عُرفاً من الأمر بأداءِ الأمانة هو الأمانةُ المتعلِّقة بأموالِ الناس ومصالحِهم ما لم تقم قرينةٌ على إرادة الأعم، وكذلك فإنَّ الرواياتِ المتصدِّية للحثِّ على أداءِ الأمانة والتشنيعِ على مَن يخونُها ظاهرةٌ في معظمِها بل هي صريحةٌ في إرادة الأمانةِ المتعلِّقةِ بأموالِ الناس، نعم ثمة رواياتٌ أُخرى استعملت الأمانةَ في معناها الواسعِ، لكنَّ ذلك قد عُرف من طريقِ القرائنِ الخاصَّة.

اخْتَبِرُوهُمْ عِنْدَ صِدْقِ الْحَدِيثِ وأَدَاءِ الأَمَانَةِ:

وكيف كان فإنَّ ممَّا يُلفتُ نظر المطالِع في الروايات الواردة عن الرسولِ (ص) وأهل بيتِه (ع) تأكيدُ عددٍ منها على أنَّ أداءَ الأمانةِ بالمعنى الثاني وصدقَ الحديث هما المعيارُ الذي به يتميَّزُ المؤمنُ الحقيقيُّ من غيرِه.

فمِن ذلك ما رواه الشيخُ الصدوقُ في عيون الأخبار وفي الأمالي بسندٍ له عن أبي جعفرٍ الجواد عن آبائه (عليهم السلام) عن النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) قال: "لا تنظروا إلى كَثرةِ صلاتِهم وصومِهم، وكَثرةِ الحجِّ والمعروفِ، وطنطنتِهم بالليل، ولكنِ انظروا إلى صدقِ الحديثِ وأداءِ الأمانة"(10).

وكذلك أورد الشيخُ الكليني بسندٍ معتبرٍ عن إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ وغَيْرِه عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: "لَا تَغْتَرُّوا بِصَلَاتِهِمْ ولَا بِصِيَامِهِمْ، فَإِنَّ الرَّجُلَ رُبَّمَا لَهِجَ بِالصَّلَاةِ والصَّوْمِ حَتَّى لَوْ تَرَكَه اسْتَوْحَشَ ولَكِنِ اخْتَبِرُوهُمْ عِنْدَ صِدْقِ الْحَدِيثِ وأَدَاءِ الأَمَانَةِ"(11).

فالالتزام بالصلاةِ والصيامِ ليس معياراً بحسبِ الرواية الثانية للكشف عن الصلاحِ والإيمانِ الصادق، بل إنَّ كثرةَ الصلاة والصيام، وكثرةَ الحجِّ، واسداءَ المعروف وتلاوةَ القرآن وقيامَ الليل كلُّ ذلك بحسبِ الرواية الأولى ليس معياراً للكشفِ عن الصلاح والإيمانِ الصادقِ بل المعيارُ الذي لا يَخدَعُ ولا يتخلَّف، ويكشفُ دقيقاً عن مخبوءِ الرجل وحُسنِ سريرتِه هو صدقُ الحديثِ وأداءُ الأمانة، فهل معنى ذلك أنَّ صدقَ الحديثِ وأداءَ الأمانةِ أفضلُ مِن مثلِ الصلاةِ والتي هي عمادُ الدين؟!

هل أداءَ الأمانةِ وصدقَ الحديثِ أفضلُ من الصلاة:

ليس معنى ذلك أنَّ أداءَ الأمانةِ وصدقَ الحديثِ أفضلُ من الصلاة بل معناه أنَّ الصلاة التي لم تنهَ صاحبَها عن الكذبِ والخيانة ليست هي الصلاة التي أرادها اللهُ تعالى مِن عبادِه، فالصلاةُ التي هي عمادُ الدين هي الصلاةُ التي تنهى فاعلَها عن الفحشاءِ والمنكر، وأيُّ فحشاءَ أشنعُ من أنْ يعتادَ الإنسانُ الكذبَ في حديثِه، وأيُّ منكرٍ أقبحُ من أنْ يخونَ الإنسانُ ما أُئتُمنَ عليه، فما هي قيمةُ هذه الصلاة التي يُؤدِّيها ويُكثرُ منها في الليلِ والنهار إذا لم يكنْ مِن أثرِها تطهيرُ قلبِه وجوارحه من الخيانة والكذب، مثلُ هذه الصلاةِ حقُّها أنْ تُلفَّ ويُرمَى بها عرضَ الجدار.

ولذلك وردَ عن النبيِّ الكريم (صلى الله عليه وآله) قولُه: "من لم تنهَه صلاتُه عن الفحشاءِ والمنكر لم يزددْ من اللهِ إلا بُعدا"(12) وورد عن الإمام الصادقِ (ع) أنَّه قال: "اعلَم أنَّ الصَّلاةَ حُجزَةُ اللهِ فِي الأَرضِ، فَمَن أحَبَّ أن يَعلَمَ ما أدرَكَ مِن نَفعِ صَلاتِهِ فَليَنظُر، فَإِنْ كانَت صَلاتُهُ حَجَزَتهُ عَنِ الفَواحِشِ والمُنكَرِ فَإِنَّما أدرَكَ مِن نَفعِها بِقَدرِ ما احتَجَزَ"(13).

إذن فليس معنى قولِه: "لا تغتروا بصلاتِهم.. ولَكِنِ اخْتَبِرُوهُمْ عِنْدَ صِدْقِ الْحَدِيثِ وأَدَاءِ الأَمَانَةِ" أنَّ الأمانةَ أفضلُ من الصلاة، نعم هي أفضلُ من الصلاةِ التي لا تردعُ فاعلَها عن الخيانةِ والكذب، فإنَّ مثل هذه الصلاةِ لا وزنَ لها في دينِ الله تعالى، وأمَّا الصلاةُ التي أرادَ اللهُ تعالى لعبادِه الإقامةَ لها فهي التي يكون من أثرِها التقيُّدُ بأداءِ الأمانة وصدقِ الحديث، مثلُ هذه الصلاةِ لا يوازيها في الفضلِ من شيءٍ، فهي خيرُ العمل، ذلك لأنَّها منبعُ كلِّ خير، فهي الرافدُ والباعثُ على التحلِّي بمكارمِ الأخلاق ومحامدِ الخِصال، وهي الرادعُ عن مقارفةِ الشرور والمخازي والسيءِ من الخِصال.

المعيار المذكور مختصٌّ بالملتزم بالصلاة: 

ومن هنا لابدَّ من التنبُّه إلى أنَّ غير الملتزِم بأصلِ الصلاة لا نكونُ بحاجةٍ إلى البحث عن صلاحِه وعدمِه من طريق امتحانِه في صدقِ الحديث وأداءِ الأمانة، فإنَّ الصلاة كما ورد عن أمير المؤمنين (ع)(14) هي أجلى مصاديقِ ما قال اللهُ تعالى عنه: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ(15) فمن فرَّط في هذه الأمانةِ الكبرى لا يكون صلاحُه من عدمِه مستوراً، ولهذا لا يكونُ صدقُه في الحديثِ وأداؤه للأمانةِ لو اتَّفق كاشفاً عن صلاحِه، فمثلُه يكونُ العاقلُ منه على حذر، فصدقُ أمثالِه في الحديث وأداؤه للأمانةِ يخضعُ غالباً لمقتضياتِ المصلحة، وذلك يسترعي ممَّن يعاملُه الضبطَ لمواطن المصلحةِ عنده.

وخلاصةُ القول: إنَّ معياريَّةَ الأداءِ للأمانةِ وصدقِ الحديث إنَّما هي لمَن يُنتظرُ من مثلِه الخوفُ من الله والورعُ عن محارمِه، والمفرِّطُ في أداءِ الصلاة لا يُنتظر منه ذلك حتى نبحثَ عن فعليَّة الخشيةِ في قلبِه من طريق امتحانِه في صدقِ الحديث وأداءِ الأمانة، نعم حين يكونُ الانسان مُلتزماً بالفرائض العامَّة ثم يكونُ مِن ديدنه الكذبُ في حديثِه ويكونُ متهاوناً في أداءِ ما اُئتُمن عليه فذلك يكشفُ عن عدم صدقِه في تديُّنه بمقتضى مثل قولِه (ص): "لا تنظروا إلى كثرةِ صلاتِهم .. ولكن انظروا إلى صدقِ الحديث وأداءِ الأمانة".

وهذا الحديث الشريفُ أكَّدت مؤدَّاه رواياتٌ أخرى كمعتبرة أبي بصير عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: قال أميرُ المؤمنين (عليه السّلام): "إِنَّ لأَهْلِ الدِّينِ عَلَامَاتٍ يُعْرَفُونَ بِهَا -فذكر منها- صِدْقَ الْحَدِيثِ وأَدَاءَ الأَمَانَةِ ووَفَاءً بِالْعَهْدِ"(16).

ومِن الروايات التي تكشفُ عن الموقع المتقدِّم لفريضةِ الأداءِ للأمانة ضمن فرائضِ الله تعالى ما ورد بسندٍ معتبر عن حنَّان بن سدير عن أبيه، عن أبي جعفرٍ (عليه السلام) قال: قال أبو ذر: سمعتُ رسولَ الله (صلى الله عليه وآله) يقولُ: حافَّتا الصراطِ يومَ القيامة الرحِمُ والأمانة، فإذا مرَّ الوَصولُ للرحِم المؤدِّي للأمانة نفذ إلى الجنَّة، وإذا مرَّ الخائنُ للأمانةِ القَطوعُ للرحِم لم ينفعْه معهما عملٌ وتكفأ به الصراطُ في النار"(17).

فهذا الحديثُ الشريف يكشفُ عن أنَّ الخائنَ للأمانةِ لا تنفعُه الصالحاتُ من الأعمال، ولا تحميه من التعثُّر مِن على الصراطِ يومَ القيامة، فإذا تعثَّرَ مِن على الصراط فمسقطُه النارُ وبئسَ القرار.

وكذلك وردَ في وصيِّة أميرِ المؤمنين (ع) لكُميل بنِ زياد قال: "يا كميل افهمْ واعلم أنَّا لا نرخِّصُ في تركِ أداءِ الأمانةِ لاحدٍ من الخلْق. فمَن روى عنِّي في ذلك رُخصةً فقد أبطلَ وأثِم وجزاؤهُ النارُ بما كذَب، أُقسمُ لسمِعتُ رسولَ الله (صلَّى الله عليه وآله) يقولُ لي قبلَ وفاتِه بساعةٍ مراراً ثلاثاً: يا أبا الحسن أدِّ الأمانةَ إلى البَرِّ والفاجر فيما جلَّ وقلَّ حتَّى الخيطَ والمِخْيَط"(18).

فلماذا كلُّ هذا التشديد على أداء الأمانة؟

إنَّ أداء الأمانة هو أحدُ أهمِّ الغاياتِ الكبرى مِن بعثةِ الأنبياء بمقتضى ما أفادتْه العديدُ من الآياتِ كقوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ(19) ومقتضى أنْ يقومَ الناسُ بالقسط هو أنْ لا يتظالموا فيما بينهم، فلا يعتدي أحدٌ على أحدٍ فيقتطعَ شيئاً من مالِه بغيرِ وجه حقٍّ أو يُتلفَه أو يَضرَّ به أو يحجبَه عنه أو يبخسَه في أجرِه أو في نفقتِه أو يُنقِصَه في مكيالٍ أو ميزان أو يَجحد دَينه أو يُماطلَ في أدائه أو يَغشَّه في بيعٍ أو شراء أو يغبنه أو يحتالَ عليه في معاملةٍ أو يبتزَه أو يستطيلَ عليه بولايةٍ أو وصاية أو وكالة، فكلُّ ذلك وشبهِه من الخيانةِ في الأمانة، فالخيانةُ للأمانةِ لا تنحصرُ في التفريط والتضييع للوديعة والعارية، بل هي تستوعبُ كلَّ المعاملات الماليَّة، فإما أنْ تقومَ على قاعدة العدل والقسط أو هي الخيانةُ للأمانة.

فحين يقومُ الإنسانُ فيها بالقِسط يأمنُ الناس على أموالِهم ومصالحِهم فتتنظمُ الحياة ويستقيمُ المعاش. فما مِن أحدٍ إلا وهو مبتلى بهذا التكليف أعني الأمرَ بأداءِ الأمانة والنهيَ عن خيانتِها، فليس مِن أحدٍ إلا وهو أجيرٌ أو مستأجِر أو بائعٌ أو مشترٍ أو دائنٌ أو مدين أو شريكٌ أو قيِّمٌ أو وليٌّ أو وكيلٌ أو وصي، وعلى كلِّ هؤلاءِ تقوم حياة الإنسان، فإمَّا أنْ يسودَها القِسطُ والعدلُ والرعايةُ لأموال الناس وحقوقِهم ومصالحِهم فيأمنُ الناسُ على أموالِهم ومصالحِهم ومقدراتِهم وذلك هو سرُّ التعبير عن الأمانة بالأمانة فبها يأمنُ الناس على أموالهم ومنافعِهم، وهي مِن أعظمِ الغاياتِ الإلهيَّة مِن بعثة الأنبياء، ولهذا شدَّد القرآنُ والأنبياءُ والأوصياء على ما يُفضي لتحقُّق هذه الغاية والتي بها ينشطُ الإنسان فيما خُلق له من عُمرانِ الأرض والسعيِِ لتحصيل الكمال الشخصي والمجتمعي المنتِج في المآل للسعادةِ في العالَم الآخر والذي هو غايةُ الغايات، وأمَّا لو كان السائدُ هو التظالُمَ والتعدِّي على أموالِ الناس وحقوقِهم فإنَّ الفسادَ سوف يستوعبُ كلَّ مفاصلِ الحياة، وبذلك يشتغلُ الإنسان عن الغايةِ مِن وجوده على هذه الأرض فيكون مآلُه الخُسران والفشل.

فذلك هو منشأُ ما نجدُه من تشديدٍ على لزوم الرعاية للإمانةِ والتحذيرِ المشدَّدِ من الخيانةِ لها، ولذلك قال الله تعالى: ﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ(20) فإنَّ في الخيانة للأمانة تحدِّياً لله تعالى وتمرُّداً على إرادتِه، ذلك لأنَّها نقضٌ لواحدٍ من أعظم غاياتِه جلَّ وعلا.

اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ الطيبينَ الطاهرينَ الأخيارِ الأبرار

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ / مَلِكِ النَّاسِ / إِلَهِ النَّاسِ / مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ / الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ / مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ(21).

والحمد لله ربِّ العالمين

 

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

15 من ذي الحجَّة 1443هـ - الموافق 15 يوليو 2022م

جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز


1- سورة المؤمنون / 8.

2- سورة المعارج / 19- 21.

3- سورة المعارج / 22.

4- سورة المعارج / 32.

5- سورة النساء / 58

6- سورة الأنفال / 27.

7- سورة النساء / 127.

8- سورة النساء / 5.

9- سورة النساء / 2.

10- عيون أخبار الرضا (ع) -الصدوق- ج2 / ص56، الأمالي-الصدوق- ص379.

11- الكافي -الكليني- ج2 / ص104.

12- بحار الأنوار -المجلسي- ج79 / ص198.

13- معاني الأخبار-الصدوق- ص237.

14- مستدرك الوسائل -النوري- ج4 / ص99.

15- سورة الأحزاب / 72.

16- الكافي -الكليني- ج2 / ص239.

17- الكافي -الكليني- ج2 / ص152.

18- تحف العقول -ابن شعبة الحراني- ص157.

19- سورة الحديد / 25.

20- سورة البقرة / 283.

21- سورة الناس / 1-6.