ما قيل في ملابسات التحاق حبيب بالحسين (ع)
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
في ذكر مصيبة حبيب بن مظاهر تُنقل قصة ملخصها أنَّ زوجته رأت الزهراء (ع) في المنام عند طرف نهر تحملُ قميصين تضعُ الأول في الماء فينقلبُ لونه إلىٰ الخضرة ثم تضع الآخر فينقلبُ إلىٰ الحمرة ثم خاطبتها قائلة قولي لحبيب أنَّه قد آن أوان الخضاب فليشترِ لشيبته خضاباً فتُخبره فيهرع إلى السوق لشراء الخضاب، وهناك يلتقي بمسلم بن عوسجة عند العطار فيخبره عن أنَّ الكوفة تعدُّ العدَّة لحرب الحسين (ع) فيعقد العزم على أنْ يخضب شيبته من دم نحره.
ويُنقل أيضاً في تتمَّة القصَّة أنَّ زوجته الأسدية وأثناء تناولها للطعام تغصُّ بلقمتها فتقول إنْ صدق ظنِّي يأتيك كتابٌ كريم من رجل عظيم وبالفعل تصل رسالة الحسين(ع) والتي قد كتب فيها: -"من الحسين بن علي إلىٰ الرجل الفقيه حبيب أما بعد فقد خيمنا في كربلاء وقطعوا دوننا الشوارع والمشارع وانت تعلم قرابتنا من رسول الله (ص) فإن كنت تريد السعادة الأبدية والدولة السرمدية فعجل علينا قدومك.
فهل هذه القصَّة صحيحة وهل لها ذكر في الكتب المعتبرة؟
الجواب:
الأخبار التي يتمُّ تداولُها في بعض مجالس التعزية حول كيفيَّة وصول الشهيد حبيب بن مظاهر (رحمه الله) إلى كربلاء، وما سبق ذلك من قصَّة المنام الذي رأته زوجتُه الأسديَّة وذهاب الشهيد حبيب على إثر ذلك لسوق العطارين في الكوفة ليَبتاع لنفسِه خضاباً لشيبته والتقائه بالشهيد مسلم بن عوسجة (رحمه الله) وسؤال حبيبٍ لمسلم عن سبب جمع أهل الكوفة للخيل والسلاح فيُخبره مسلمٌ أنَّ الكوفة تُعِدُّ العُدَّة لحربِ الحسين (ع) فيبكي حبيب (رحمه الله) ويعدلُ عن شراء الخضاب، ويعقد العزم على أنْ يخضبَ شيبتَه من دمِ نحره على خلاف ما فهمَه أولاً مِن منام الأسديَّة كلُّ ذلك لم نجد شيئاً منه -رغم التتبع- في شيءٍ من المصادر المعتبرة في الجملة.
وكذلك لم نجد شيئاً مما يتمُّ تداوله في بعض مجالس التعزية حول الحوار الذي يُقال إنَّه وقع بين حبيب والأسدية وأنَّها تنبأت بوصول كتابٍ كريم من رجلٍ كريم فيتَّفق وقوع ذلك فيسمعان طارقاً فيخرجُ إليه حبيب فإذا هو رسولٌ يحملُ كتاباً من الإمام الحسين (ع) يستنصرُه فيه ويصفُه بالرجل الفقيه .." وبعدها يأتي بعضُ أبناء عشيرته ويحذرونًه من الخروج للحسين (ع) ويقولون له: ما لنا والدخول بين السلاطين، فيُظهِرُ حبيبٌ موافقته لهم، وبعد خروجِهم تُعاتبه زوجتُه الأسدية وتقول له: يليقُ بك المقنعة بدلاً من العمامة، فيُبدي لها خشيتَه عليها من الترمُّل، وعلى صغاره من اليُتم، وبعد أنْ استفظعت منه ذلك وأفادت أنَّ نساء بيت الرسول (ص) وأيتامَهم أولى بالرعاية حينذاك أظهرَ لها حقيقة عزمِه، وأنَّه كان يقصدُ امتحانها، كلُّ ذلك وما يقرب منه لا وجود له في كتب الأخبار.
وكذلك ما يُقال من أنَّه أمرَ غلاماً له أنْ يتقدَّم بجوادِه إلى موضعٍ عيَّنه له ثم لمَّا استبطأه الغلامُ خاطبَ الغلامُ الجواد بأنَّه إنْ لم يأتِ حبيب ذهبتُ إلى نصرة الحسين (ع) فسمعَه حبيب فقال: حتى العبيد تتمنَّى نصرتك يا حسين فكيف بالأحرار، ثم سار معه إلى أنْ وصلا إلى كربلاء أو إلى حيث الركب الحسيني.
فإنَّ هذه التفاصيل وشبهَها لا وجود لها إلا في مثل كتاب أسرار الشهادات للفاضل الدربندي (رحمه الله)(1) المتوفى قريباً أي في سنة 1285 أو 1286ه ولم يُشِر فيما نقله -من هذه التفاصيل- إلى مصدرٍ معتمَدٍ ولو في الجملة، ومن جاء بعده نقل عنه كالمازندراني في معالي السّبطين، والزّنجاني في وسيلة الدّارين(2).
تفاصيل دون مَدرَك وبعضها مقطوعُ المنافاة للواقع:
ومؤلِّفُ كتاب أسرار الشهادات وإنْ كان من العلماء الصالحين الأخيار إلا أنَّ كتابَه أسرار الشهادات فاقدٌ لأدنى مراتب الاعتبار نظراً لاشتماله على الكثير من الأخبار التي اعتمد فيها لحسن ظنِّه على نقولاتٍ لا أصلَ لها بل إنَّ الكثير منها مظنونُ الكذب، وبعضُها يُمكن القطعُ بكذبِه ومنافاته للواقع، مثل ما جاء فيه من أنَّ عدد جيش عمر بن سعد بلغ مليون راجلاً وستمائة فارس(3) وأنَّ العباس قتل خمسة وعشرين ألفاً من جيش عمر بن سعد(4) وقتل عليٌّ الأكبر ألفاً وخمسمائة فارسٍ وثمانين راجلاً ثم قتل في حملته الأخيرة خمسمائة فارس(5) وأمَّا الحسين (ع) فقتل نحو أربعمائة ألف(6) وأنَّ شمسَ يوم العاشر امتدَّ بقاؤها فوقَ الأرض اثنين وسبعين ساعة(7) ثم أنَّه لم يترك فصلاً من فصول واقعة كربلاء وترجمةً من تراجم شهدائها إلا وحشَدَ فيه الكثير من التفاصيل الغريبة التي لا نجدُ لها ذكراً في شيءٍ من المصادر، وكذلك سار على ذات النهج في عرضه للأحداث التي وقعت بعد يوم كربلاء، والمؤسفُ أنَّ الكثير ممَّن جاء بعده من الكتاب وقرَّاء المراثي أخذ عنه دون تثبُّت رغم أنَّه كثيراً ما كان يُرسل الإخبار إرسالاً دون الإحالة على مصدرٍ أو كان يُحيلُ على مصادرَ مجهولة الهويَّة أو معاصرة له أو قريبة من عصره، وفي العديد من المواضع كان يُحيل على السماع من بعض قرَّاء المراثي، وفي المواضع الذي يُحيل فيها على مصادر معروفة نجد في مواضع عديدة منها أنَّ موضع الإحالة خالٍ ممَّا نقله، فلعلَّه كان يعتمد فيما ينقله على حكاية آخرين من غير أهل التثبُّت.
مبنى الدربندي في نقل الأخبار:
والذي دفع المؤلِّف (رحمه الله) إلى حشد مثل هذه الأخبار الواهية في كتابه هو ما يتبنَّاه من أنَّه لا محذور من نقل الأخبار المظنونةِ الكذب -على حدِّ تعبيره- إذا كانت تتعلَّق بالتاريخ والسيرة أي أنَّه يرى صحَّة تدوينها وتناقلها وإنْ كانت محتفَّةً بأماراتٍ تقتضي الظنَّ بعدم مطابقتها للواقع(8).
وكذلك فإنَّه يرى أنَّه لا ضيرَ من اقتباس الأخبار من القصائد والأشعار المتضمِّنة لحكاية أحداثٍ أو أقوالٍ للإمام (ع) أو بعض أنصار الحسين (ع) أو بعض العلويَّات، فيصحُّ للكتاب وقرَّاء المراثي أنْ ينقلوا ذلك بصيغة رُويَ حتى وإنْ لم تكن هذه الإخبارات وهذه الأقوال موجودة في شيءٍ من كتب الأخبار والمقاتل والسِيَر، فيصحُّ لقارئ المراثي أن يقول مثلا -على حدِّ تعبيره- ورد في الرواية أنَّ سكينة قالت لأبيها كذا، وقال لها الإمام(ع) كذا وكذا استنادا إلى ما اقتبسه من أقوال الشعراء، وإنْ لم يكن ذلك موجوداً في شيءٍ من كتب الأخبار والتاريخ، هذا إذا كان الشاعر الذي اشتملت قصائده على هذه الإخبارات من العلماء أو من الأثبات الثقاة، ثم ترقَّى (رحمه الله) وقال: يُمكن أن يتمشَّى ذلك في جميع الأشعار والقصائد المتضمِّنة لِما أُشير إليه من الإخبارات وإنْ كان أصحابُها من غير العلماء ومِن غير الأثبات الثفاة، وذلك لقاعدة حمل عمل المسلم وقولِه على الصحة(9).
وكذلك فإنَّه يصحِّح النقل عن الأوراق العتيقة والتصانيف التي لا يعلم أسماءَ مصنِّفيها مع لزوم الإشارة إلى ذلك(10).
هذا وقد نقل في كتابه عن كراريس أخذها من أحد قرَّاء المراثي وذكر أنَّ النسخة ليس في أوَّلها ديباجة حتى يُعلم بسببها اسم المصنِّف، وقد نقل كلَّ ما في هذه الكراريس في كتابه ثم قال إنَّ شذوذيَّة وغرابة ما فيها في كيفيَّة شهادة سيد الشهداء(ع) وأقربائه أظهرُ من أن يُبين.. بل إنَّ أمارات الجعل والوضع فيها ليست في غاية الخفاء إلا أنَّه قال إنَّ استشمام علامة الوضع بل الظن بأمارة الجعل و الكذب ليس كالعلم والقطع فما لا يجوز نقلُه إلا بعد بيان حالِه هو الثاني لا الأول غاية ما في الأمر أنَّه يكون من قبيل الروايات الضعيفة يعني-ظاهراً- أنَّه يجوز نقل مثل هذه النسخة حتى مع عدم بيان حالِها وذلك لعدم القطع بكذبِها ومجرَّد الظن بالكذب وعدم وجود الخبر في شيء من كتب الأخبار والسير غيرُ مانعٍ من النقل(11).
تقييم المحدِّث النوري لكتاب أسرار الشهادات:
ولهذا كانت إحدى مصادر المؤلِّف الضعيفة التي كان ينقلُ عنها في كتابه أسرار الشهادات -كما أفاد المحدِّث النوري- مخطوطةً لا أساسَ لها ومجهولة وحافلة بالكذب، وكان أحد السادة العرب القارئين للمراثي قد أتى بها إلى علماء النجف ليحصل على تأييدهم، ثمّ وصلت إلى الدربندي، وهي مخطوطةٌ لا يُحتمل أنْ تكون من مؤلّفات عالمٍ -على حدّ قول المحدِّث النوري- لكثرةِ اشتمالِها على الأكاذيب الواضحة والأخبار الواهية، وقال المحدِّث النوري في موضعٍ آخر من كتابه لؤلؤ ومرجان: إنّ هذا الكتاب -أسرار الشهادة- هو مِن ذرائع المخالفين لنسبةِ الشيعة إلى الكذب والافتراء(12).
تقييم عددٍ من الأعلام لكتاب أسرار الشهادات:
ولا بأس مِن إيراد كلمات عددٍ من الأعلام في تقييم كتاب أسرار الشهادات:
الأول: الشيخ آقا بزرك الطهراني في كتابه الذريعة قال: "من شدّة خلوصِه وصفاءِ نفسِه نقلَ في هذا الكتاب أُموراً لا تُوجد في الكتب المعتبرة، وإنّما أخذها عن بعض المجاميع المجهولة اتّكالًا على قاعدة التسامح في أدلّة السُنن مع أنَّه لا يصدقُ البلوغ عنه بمجرَّد الوجادة بخطٍّ مجهول. وقد تعرَّض شيخنا في اللؤلؤ والمرجان إلى بعض تلك الأمور فلا نُطيل بذكره"(13).
الثاني: الميرزا محمد التنكابني في كتابه قصص العلماء قال: "الأخبار غير المعتبرة في هذا الكتاب (أسرار الشهادات) كثيرة وضعيفة، بل بعضها مظنونُ الكذب، بل يبدو أنّ بعضها قطعيُّ الكذب، ممّا أدّى إلى الحطّ من قدرِ الكتاب "(14).
الثالث: الميرزا محمّد علي المدرّس التبريزي قال: "الإنصاف إنّ كتابه هذا، بل مؤلّفاته الأخرى في موضوع المقتل ظهرتْ على أثر الحبِّ الشديد الذي كان يُكنّه، وهي تحوي الغثَّ والسمين"(15).
الرابع: السيِّد محسن الأمين في كتابه أعيان الشيعة قال: "اكسير العبادات في اسرار الشهادات المشهور باسرار الشهادة في واقعة الطف أتى فيه بالغرائب وبأمور تُوجبُ عدم الاعتماد عليه، طُبع مراراً وترجمه بعضُ العلماء بالفارسية .. وبالجملة، قد أكثرَ في مؤلّفاته النقليَّة من الأخبار الواهية، بل أورد ما لا تقبلُه العقول ولم تُصدِّقه النقول"(16).
الخامس: الشيخ ذبيح اللَّه المحلّاتي قال: "نقل الفاضلُ الدربندي في أسرار الشهادة خبراً طويلًا حول عطش سكينة وإتيان برير بالماء وتخرُّق القربة وإراقة الماء، ولأنّني لا أثقُ بذلك الكتاب بشكلٍ كامل، فإنّني تغاضيتُ عن نقلِه"(17).
وهنا أودُّ التنبيه على ملاحظتين:
الأولى: إنَّ منام الأسديَّة الذي يتمُّ تداوله في مجالس التعزية لم أجده في كتاب أسرار الشهادة والمذكور فيه وفي الكتب التي نقلت عنه يبدأ من لقاء مسلم بن عوسجة (رحمه الله) بحبيب بن مظاهر (رحمه الله) في سوق العطارين حيثُ كان يبتغي ابتياع خضاباً لشيبته.
رسالة الحسين (ع) لحبيب لا أصل لها:
الثانية: إنَّ نصَّ الرسالة التي نقل الفاضل الدربندي أنَّ الإمام الحسين (ع) بعثها إلى حبيب (رحمه الله) ليست كما ذُكر في السؤال بل إنَّ نصَّ نسخة الكتاب على حدِّ تعبير الدربندي هو: "من الحسين بن عليّ بن أبي طالب إلى الرّجل الفقيه حبيب بن مظاهر .. أمّا بعد يا حبيب، فأنت تعلمُ قرابتنا من رسول اللَّه صلى الله عليه وآله، وأنت أعرفُ بنا من غيرك، وأنت ذو شيمة وغيرة، فلا تبخل علينا بنفسك يُجازيك جدِّي رسولُ اللَّه صلى الله عليه وآله يوم القيامة"(18) ولم نجد لهذه الرسالة بهذا النصِّ ولا بالنصِّ المذكور في السؤال عيناً ولا أثراً في شيءٍ من كتب الأخبار، ولا أحال الفاضلُ الدربندي في ذلك على مصدرٍ معلومٍ أو مجهول.
هذا وقد تحدَّتثُ في مقالٍ مستقلٍّ حول الوقت والموضع الذي التحق فيه حبيب بركب الحسين (ع) بحسب ما هو المستفاد من الكتب المعتبرة، والمقال تحت عنوان: متى التحق حبيب بركب الحسين (ع)
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
12 / محرم الحرام / 1444ه
11 / أغسطس / 2022م
1- إكسير العبادات في أسرار الشهادات -الفاضل الدربندي- ج2 / ص591، 593.
2- معالي السّبطين -الشيخ محمد مهدي الحائري المازندراني- المتوفى سنة 1369ه / ج1 / ص370؛ وسيلة الدّارين -الزّنجاني- ص120 نقلاً عن موسوعة الإمام الحسين (ع) (تاريخ امام حسين ع) ج15 / مكتب طباعة الكتب المساعدة التعليمية / ص525.
3- إكسير العبادات في أسرار الشهادات -الفاضل الدربندي- ج3 / ص39.
4- إكسير العبادات في أسرار الشهادات -الفاضل الدربندي- نقلاً عن موسوعة الإمام الحسين (ع) في الكتاب والسنة والتاريخ -محمد الريشهري- ج1 / ص99.
5- إكسير العبادات في أسرار الشهادات -الفاضل الدربندي- ج2 / ص516، 517.
6- إكسير العبادات في أسرار الشهادات -الفاضل الدربندي- ج3 / ص35.
7- إكسير العبادات في أسرار الشهادات -الفاضل الدربندي- ج3 / ص36. ج2/ 243.
8- لاحظ: إكسير العبادات في أسرار الشهادات -الفاضل الدربندي- ج1 / ص501، 503، ج2 / ص241، 242، 441،499.
9- إكسير العبادات في أسرار الشهادات -الفاضل الدربندي- ج1 / ص503.
10- إكسير العبادات في أسرار الشهادات -الفاضل الدربندي- ج1 / ص501.
11- إكسير العبادات في أسرار الشهادات -الفاضل الدربندي- ج2 / ص241، 242.
12- لؤلؤ ومرجان -المحدِّث النوري- نقلاً عن موسوعة الإمام الحسين (ع) في الكتاب والسنة والتاريخ -محمد الريشهري- ج1 / ص98، 99.
13- الذريعة -أقا بزرك الطهراني- ج2 / ص279 / الرقم 1134.
14- قصص العلماء -الميرزا محمد التنكابني- ص108.
15- ريحانة الأدب -الميرزا محمّد علي المدرّس التبريزي- ج2 / ص217.
16- أعيان الشيعة -السيد محسن الأمين- ج2 / ص88.
17- رياحين الشريعة -الشيخ ذبيح اللَّه المحلّاتي- ج3 / ص272.
18- إكسير العبادات في أسرار الشهادات -الفاضل الدربندي- ج2 / ص591.