الكسوف الذي وقع يوم قُتل الحسين (ع)
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّه الْعَالِمِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَدِينَ لَه مِنْ خَلْقِه دَائِنٌ، فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ، مُؤَلِّفِ الأَسْبَابِ بِمَا جَرَتْ بِه الأَقْلَامُ، ومَضَتْ بِه الأَحْتَامُ مِنْ سَابِقِ عِلْمِه ومُقَدَّرِ حُكْمِه، أَحْمَدُه عَلَى نِعَمِه، وأَعُوذُ بِه مِنْ نِقَمِه، وأَسْتَهْدِي اللَّه الْهُدَى، وأَعُوذُ بِه مِنَ الضَّلَالَةِ والرَّدَى، مَنْ يَهْدِه اللَّهُ فَقَدِ اهْتَدَى، وسَلَكَ الطَّرِيقَةَ الْمُثْلَى وغَنِمَ الْغَنِيمَةَ الْعُظْمَى، ومَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَقَدْ حَارَ عَنِ الْهُدَى وهَوَى إِلَى الرَّدَى، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه الْمُصْطَفَى ووَلِيُّه الْمُرْتَضَى وبَعِيثُه بِالْهُدَى (ص).
عباد الله أُوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ وإيثارِ طاعتِه، واتِّباع ما أمرَ به في كتابه: من فرائضِه وسُننِه التي لا يَسعدُ أحدٌ إلا باتِّباعها، ولا يشقى إلا مع جحودِها وإضاعتها.
أمَّا بعدُ فالحديث حولَ الآيات التي وقعتْ يوم قُتل الحسينُ (ع) وبعده، فقد استفاضت الروايات من طرقنا ومن طرق العامَّة أنَّه لَمّا قُتِلَ الحُسَينُ بنُ عَلِيٍّ عليه السّلام كَسَفَتِ الشَّمسُ كَسفَةً بَدَتِ منها الكَواكِبُ، وأنَّه لَمّا قُتِلَ الحُسَينُ (ع) اسوَدَّتِ السَّماءُ وظَهَرَتِ الكَواكِبُ نَهاراً، وَارتَفَعَت فِي السَّماءِ غَبَرَةٌ شَديدَةٌ سَوداءُ مُظلِمَةٌ، فيها ريحٌ حَمراءُ، حَتّى ظَنَّ القَومُ أنَّ العَذابَ يوشكُ أنْ يحِلَّ بهم، فَلَبِثوا كَذلِكَ ساعَةً، ثُمَّ انجَلَت عَنهُم، واحمَرَّت آفاقُ السَّماءِ بَعدَ قَتلِ الحُسَينِ عليه السّلام شهوراً، فكان لونُها يترآى للناظر كأنَّه علقةٌ لشدَّةِ احمرارِها، ومَكَثوا أربَعينَ يَوماً تَطلُعُ الشَّمسُ حمراء، وتَغرُبُ حمراء، وأنَّه لم يُرفع حجرٌ إلا رُؤي تحتَه دمٌ عبيط، هذه مضامينُ عددٍ مستفيضٍ من الروايات وردتْ من طُرقنا ومِن طرقِ العامَّة، وفيها ما هو معتبرٌ سنداً بحسب مبانيهم، على أنَّ استفاضةَ العديدِ من طوائفها يُغني عن النظر في أسانيدِها، فإنَّ استفاضة النقل تُورثُ الاطمئنان لدى العقلاء بمطابقة المنقول للواقع في الجملة خصوصاً إذا كانت الدواعي مقتضيةً للإخفاءِ والتكتُّم، وكان الناقلُ ممَّن يتنافى المنقولُ مع ما يَهواه أو يعتقدُه.
والذي أودُّ الوقوفَ عنده من هذه الروايات هو ما أفادته -كما في سُنن البيهقي بسندٍ معتبرٍ(1)- من أنَّ الشمس كُسفت يوم قُتل الحسينُ(ع) فأظلمتْ لكسوفِها السماء، فإنَّه قد يُقال إنَّ ذلك يتنافي مع ما رُوي عن الرسول الكريم (ص) من " أنَّ الشمسَ والقمرَ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ" فقد روت العامَّةُ وكذلك رَوى الكليني في الكافي بسنده إلى عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّه قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَى بنَ جعفر (ع) يَقُولُ: "إِنَّه لَمَّا قُبِضَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ رَسُولِ اللَّه (ص) .. انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ فَقَالَ النَّاسُ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ لِفَقْدِ ابْنِ رَسُولِ اللَّه، فَصَعِدَ رَسُولُ اللَّه (ص) الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّه وأَثْنَى عَلَيْه ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الشَّمْسَ والْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّه يَجْرِيَانِ بِأَمْرِه مُطِيعَانِ لَه، لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ ولَا لِحَيَاتِه .."(2). فكيف يتمُّ الجمعُ بين مفاد هذه الرواية وبين ما دلَّ على أنَّ الشمس قد كُسفت يوم قُتلَ الحسين (ع)؟
الروايةُ لم تنفِ وقوع الكسوف للتعبير عن الغضب الإلهي:
والجواب أنَّ الرواية قد نفتْ وقوع ظاهرة الكسوف بسبب موت أحدٍ أيًّا كان مقامه، ولكنَّها لم تَنفِ وقوع هذه الظاهرة في ظرفِ غضب الله تعالى على أمَّةٍ من الأمم أو لغرضِ إنذارهم وتخويفهم، أو لغرض هدايتهم، فالكسوفُ الذي وقَعَ يوم قُتل الحسين (ع) لم يقعْ لموته محضًا وإلا لوقعَ لموت رسولِ الله (ص) فهو أفضلُ من الحسين (ع).
فالكسوفُ وسائر الآيات التي وقعتْ يوم قُتل الحسين (ع) إنَّما وقعتْ للتعبير عن غضب الله تعالى وسخطِه على أمَّةٍ قتلَ فئامٌ منها وصيَّ رسولِ الله (ص) وسبطَه وسيَّدَ شباب أهل الجنة، وخذلَه منها آخرون، فهذا ما يظهرُ من تمام الروايات الكثيرة التي تصدَّت لتعداد الآيات التي وقعتْ حين مقتل الحسين (ع) وبعده، وكذلك يظهرُ منها أنَّ الغرض من وقوع هذه الآيات هو إنذارُ الناس وتخويفُهم والبيانُ لعظيم ما اجترحوه واقترفوه، وكذلك يظهرُ منها إرادة التدليل على حقَّانيَّة ما نهضَ الحسين (ع) لأجله، وأنَّ الدين الذي يدعو لإحيائه حقٌّ، وأنَّ التفسيرَ الذي بيَّنه الحسينُ (ع) لهذا الدين هو الحقُّ، وأنَّ ما عليه أعداؤه وخاذلوه باطلٌ وليس من الدين في شيء.
فالكسوفُ الذي وقع يوم قُتل الحسين (ع) لم يقع لموتِ الحسين(ع) وإنَّما وقع للغايات التي بيَّناها، فلا منافاة بين الرواية التي نفتْ وقوع الكسوف لموتِ أحدٍ وبين ما دلَّ على وقوع الكسوف حين قُتل الحسين (ع).
القرآن يدلُّ على أنَّ الظواهر الكونيَّة قد تقع خارجَ سياقِ الأسباب التكوينيَّة:
وببيانٍ آخر: إنَّ كسوف الشمس والقمر ظاهرةٌ كونيَّة شأنُها شأنُ سائر الظواهر الكونيَّة الأخرى كالرياح والعواصف والأعاصير والزلازل والأمطار والفيضانات، فهذه الظواهر وشبهها تخضعُ لأسبابٍ تكوينيَّةٍ مقدَّرةٍ ومنتظمة لذلك فهي لا تتخلَّف، بل تقعُ متى ما وقع سببُها التكوينيُّ المقدَّر من قِبَل الله تعالى، وهذا هو معنى ما أفادته الرواية من"أنَّ الشَّمْسَ والْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّه يَجْرِيَانِ بِأَمْرِه مُطِيعَانِ لَه" فهما يسيران وفق نظامٍ كونيٍّ مقدَّر من قِبل الله تعالى شأنُهما شأنُ سائر الظواهر الكونيَّة، ورغم أنَّ الظواهر الكونيَّة برمَّتها تسيرُ وفقَ الأسباب الكونيَّة المقدَّرة إلا أنَّ القرآن قد أفاد أنَّ الإرادة الإلهيَّة قد تقتضي وقوع ظاهرةٍ من الظواهر الكونيَّة خارج إطار الأسباب التكوينيَّة المتعارفة وذلك لغرض الهداية أو التخويف أو العقوبة، فتقعُ الظاهرة الكونيَّة خارج سياقها التكويني المعهود.
النموذج الأول: العذابُ الذي وقع على قوم عاد:
فمثلًا الرياح ظاهرة كونيَّة تحدثُ عادة في سياق أسبابها التكوينيَّة المنتظمة، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ .. وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾(3) فهي ظاهرة مسخَّرة ضمن نظامٍ كوني مقدَّر ومطَّرد، ولذلك قد يتنبأ الإنسانُ بوقت وقوعها بل صار قادرًا على التنبؤ بجهتها ومقدار سرعتها والرقعة الجغرافية التي ستكون مجالًا لهبوبها، وما ذلك إلا لأنَّ هذه الظاهرة تخضعُ لأسبابٍ تكوينيَّة منتظمة، فمتى ما رصَد الإنسانُ تحقُّق هذه الأسباب حصل له العلم بتحقُّق الظاهرة، فرغم أنَّ الرياح كذلك إلا أنَّ القرآن أفاد أنَّ الله تعالى قد يُرسلُ الرياح خارجَ سياق الأسباب التكوينيَّة المعهودة وذلك لغرض إيقاع العقوبة على قوم تمرَّدوا على دعوَاتِ الأنبياء، كما وقع ذلك لقوم عاد قال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ / إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ / تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ / فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾(4).
فالواضح من الآيات أنَّ الريح التي أُرسلت على قوم عاد لم تكن قد أُرسلت عليهم ضمن سياقها التكويني كما هو مقتضى وصفها بالعذاب فهو قد أرسلها عذابًا وإنجازًا لإنذاره لهم، ولو كانت هذه الريحُ جاريةً وفق الأسباب الطبيعيَّة لم تكن لعادٍ خصوصيَّة -كما هو واضح- ولم يكن لتمرُّدهم وتكذيبهم لنبيِّهم دخلٌ فيما وقعَ عليهم من أثر هذه الريح والحال أنَّ الواضح من الآيات أنَّ ما أصابهم من أثر الريح الصرصر كان عذابًا وعقوبة، وكان هذا العذاب بسبب تكذيبهم وبعد أنْ أقيمتْ عليهم الحجَّة بالإنذار.
ويؤيِّد ذلك قولُه تعالى في موضعٍ آخر: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ﴾(5) فالسبب الذي نشأ عنه إرسال الريح عليهم هو إذاقتُهم عذاب الخزي، فهذه الظاهرة قد وقعت خارج سياق أسبابها الطبيعيِّة وكان سببُها هو أنَّ الله تعالى شاء لهم العذاب.
وكذلك يُمكن تأييد ما ذكرناه بقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(6) فمفاد ظاهر الآية أنَّ الذين استحقَّ عليهم العذاب حين رأوا الريح قد استقبلت أوديتهم توهَّموا أنَّها مثل الرياح الطبيعيَّة التي تستقبلُهم فنفى القرآن أنْ تكون كذلك وأفاد أنَّها ريحٌ ولكنَّ فيها عذاب أي أنَّها العذاب الذي كنَّا نُخوفُكم به وأنتم تستعجلون إيقاعه استخفافًا واستهزاءً فها هو قد وقع عليكم.
النموذج الثاني: الرجفةُ التي أصابت قومَ صالح (ع):
ومثالٌ آخر قوله تعالى: ﴿فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ / فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾(7) فالرجفةُ التي أصابت قوم صالح (ع) هي الزلزلة أو الصاعقة وكلٌّ منهما ظاهرةٌ كونيَّة تقعُ وفقًا لأسبابٍ تكوينيَّةٍ مطَّردة لكنَّ الواضح من الآية أنَّ هذه الرجفة وقعت خارج إطار الأسباب التكوينيَّة كما هو مقتضى ظاهر الآية من أنَّها وقعت بعد وعيدٍ من نبيِّهم أنَّهم إنْ عتوا عن أمر ربِّهم أصابتهم، فلو كانت الرجفةُ ناشئةً وفق سياقها التكويني لوقعت عليهم سواءً استجابوا لربِّهم أو عتوا عن أمره، فلا معنى للوعيد بها لو كانت واقعةً في سياقها التكويني.
ويؤيِّد ذلك قوله تعالى في موضعٍ آخر: ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾(8) فعبَّر عن الرجفة التي أصابتهم بالآية أي المعجزة، ومن الواضح أنَّ الرجفة في سياقها التكويني الطبيعي ليست معجزة حتى يقول: ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ﴾ أي ما منعنا أنْ نُرسل بالمعجزات إلا أن كذَّب بها الأولون، فالرجفةُ التي أصابتهم كانت معجزة، ولا تكون معجزةً إلا أن تكون على خلاف ما تقتضيه الأسباب التكوينيَّة المتعارفة والمطَّردة، فهذا يدلُّ على أنَّ الرجفة التي أصابتهم كانت ناشئة عن غير الأسباب الطبيعيَّة ولذلك قال تعالى في ذيل الآية: ﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾ أي للإنذار الواقع في سياق الهداية لمَن يليهم.
وممَّا ذكرناه يتَّضح أنَّ ظاهرة الكسوف والتي نفت الرواية وقوعها لموتِ أحدٍ باعتبارها ظاهرة كونيَّة خاضعة لأسبابها التكوينية، هذه الظاهرة قد تقتضي المشيئة الإلهيَّة حدوثها خارج إطار سياقها الطبيعي وأسبابها التكوينيَّة وذلك لغرض الهداية أو التخويف أو ما أشبه ذلك من الغايات، ووقوعُها لشيءٍ من هذه الغايات لا ينافي ما أفادته رواية الكليني من نفي حدوثها لموت أحدٍ أو حياته، وبه يتبيَّن أنَّ ما دلَّ على وقوع الكسوف للشمس يوم قُتل الحسين (ع) لا ينافي مفاد الرواية لأنَّ وقوع الكسوف يوم قُتل الحسين (ع) لم يكن لموته (ع) وإنَّما كان للتدليل على غضب الله تعالى وسخطه والتخويف المقتضي للهداية، وللتدليل على أنَّ الدين الذي نهض الحسين (ع) لإحيائه هو الحقُّ وأنَّ ما يرِّوج له أعداؤه بزعم أنَّه من الدين ليس هو من الدين، فالرواية لم تنفِ وقوع الكسوف لمثل هذه الغايات وإنَّما نفت وقوعُه لموت أحدٍ أو حياته.
ما وقع يوم قُتل الحسين (ع) ليس هو الكسوف المعهود:
والجواب الثاني: أنَّ المستظهَر من الروايات أنَّ الذي حدث يوم قُتل الحسين (ع) ليس هو الظاهرة الفلكيَّة المعهودة -التي يُعبَّر عنها بكسوف الشمس- والتي تنشأ عن طبيعة العلاقة بين حركة الشمس والأرض والقمر بل إنَّ الذي وقع -ظاهرًا- شيءٌ يُشبهُ الكسوف للشمس من حيثُ الأثر، فكما أنَّ أثر الكسوف للشمس هو احتجاب أشعَّتِها عن الأرض كليًّا أو جزئيًا فيُصبح الأفق من ذلك مظلمًا كذلك فإنَّ الأثر الذي وقع يوم قُتل الحسين (ع) هو ظلمة الأفُق واحتجابُ أشعَّة الشمس بحيث صار النهارُ كأنَّه ليلٌ مظلم، فالتعبيرُ عمَّا وقع يوم المقتل وبعده بالكسوف إنَّما هو باعتبار التشابه في الأثر وهي الظلمة والتغيُّر وإلا فما وقع لم يكن كسوفًا بالمعنى المعهود، نعم يُسمَّى كسوفًا نظرًا لتشابُه أثره لأثر الكسوف المعهود وهو احتجاب ضوء الشمس وصيرورة الأفق مظلمًا ومتغيِّرًا.
واستعمالُ الكسوف بهذا المعنى متعارفٌ في كلام العرب يقال: كَسَفَ الشَّمْسُ والقَمَرُ كُسُوفًا إذا احْتَجَبا وذَهَبَ ضَوْءُهما واسْوَدّا(9)، ويُقال: كسفت الشمس إذا اسْودَّت بالنهار وكسفت الشمسُ النجومَ إذا غلب ضوءُها على النجوم فلم يبدُ منها -أي من النجوم- شيء(10)، ويقال عن الرجل كَسَفَت حالُه: إذا ساءَتْ وتَغَيَّرت، ويقال رجُلٌ كاسِفُ الوَجْهِ أَي عابِسٌ(11).
وكيف كان فيُمكن استظهار أنَّ المراد من الكسوف الذي وقع يوم المقتل ليس هو الظاهرة الفلكيَّة المعهودة ويُمكن استظهار ذلك من ملاحظة الروايات التي تصدَّت لوصف الكسوف الذي وقع يوم المقتل وبعده.
فمن ذلك ما رواه في كامل الزيارات بسنده إلى زرارة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا زرارة إنَّ السماء بكت على الحسين أربعين صباحًا بالدم، وإنَّ الأرض بكت أربعين صباحًا بالسواد، وإنَّ الشمس بكت أربعين صباحًا بالكسوف والحمرة .."(12).
فالشمس -بحسب هذه الرواية- قد كُسفت أربعين صباحًا، ومن الواضح أنَّ ذلك لا يعني احتجاب ضوء الشمس عن الأرض نتيجة توسُّط القمر بين الشمس والأرض كما هو واقع حال الظاهرة الفلكيَّة المعهودة، فالمتعيَّن أنَّ المراد من كسوف الشمس هو حدوث تغيُّرٍ رهيب في أُفق السماء احتجب معه ضوءُ الشمس واسودَّ الأفق وأظلم وبدت الشمس وكأنَّها منكسفة حمراء، وامتدَّ ذلك أربعين صباحًا، ويُؤيِّد ذلك ما أفادته العديد من الروايات أنَّ جرم الشمس يُشرق محمرًّا ويغربُ محمرًّا كما في موثَّقة عبد الخالق بن عبد ربِّه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ".. كانت تطلعُ حمراء وتغربُ حمراء"(13) وهذا لا يتَّفق للظاهرة الفلكيَّة المعهودة لا من حيثُ الصورة ولا من حيث الوقت وامتداده.
وعليه فما أفادته رواية الكليني من أنَّ الشمس لا تنكسفُ لموت أحدٍ أو حياته لا يُنافي ما دلَّ على وقوع الكسوف يوم قُتل الحسين (ع) لأنَّ المراد من الكسوف الذي نفت الرواية حدوثَه لموت أحدٍ أو حياته هو الظاهرة الفلكيَّة المعهودة، وأمَّا المراد من الكسوف التي أفادت الروايات وقوعه يوم قُتل الحسين (ع) فهو اسوداد أُفق السماء حتى صار كأنَّه ليلٌ مظلم مشرَّب بالحمرة، وبدت النجوم في منتصف النهار وظهرتِ الشمس على هيئة جُرمٍ ملتهبٍ أحمر كأنَّه علقة حتى ظنَّ الناس أنَّها هي(14) أي القيامة. وكان الناس ينظرون إلى ما ينعكسُ من الشمس على الحيطان كأنَّه الملاحف المعصفرة(15).
فإنا لله وإنَّا إليه راجعون فقد عزَّ قتلُه على سكانِ السماوات والصالحينَ من أهل الأرض، وتعجَّبت لصبرِه ملائكةُ الله، واقشعرَّت لدمِه المسفوحِ أظلُّةُ العرش، وبكتْه الأنبياء، فلك العزاءُ يارسولَ الله وأنتَ ترقبُ من عالمِ الغيب فرخَك وابنَ فرختِك تتحلَّقُ حوله الطُغامُ، تعلوه ببواترِها، ولا يجدُ مَن يذبُّ عنه، والدماءُ تنضحُ من جوانبه، وتقطرُ من شيبته وهو راسخٌ كما الجبالِ الراسيات لا يُفلُّ له عزمٌ، ولا يَظهرُ على محيَّاه وهن، يلهجُ بذكر الله، مستبشرٌ لثباته على الانتصار لدين الله إلى أنْ أسلم الروحَ شهيداً ليس كمثله شهيد، فصارتِ الدنيا لرحيلِه مظلمة والآخرةُ بنورِ وجهِه مشرقة. صلَّى الله عليك يا أبا عبد الله، صلَّى عليك مليكُ السماء بأبي مَن نفسي له الفداء، بأبي المهمومُ حتى قضى، بأبي العطشانُ حتى مضى، بأبي من شيبتُه تقطر بالدماء فواحزناه عليك ياسيَّد الشهداءِ وواكرباه، وإلى الله المشتكى.
اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآل محمد واغفر لعبادك المؤمنين
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ / إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ / إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(16)
والحمد لله ربِّ العالمين
خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور
19 من صفر 1444هـ - الموافق 16 سبتمبر 2022م
جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز
1- السنن الكبرى للبيهقي -البيهقي- ج3 / ص337 روى بسنده عن أبي قبيل قال لما قُتل الحسين بن عليٍّ كسفت الشمس كسفة بدت الكواكب نصف النهار حتى ظننا انَّها هي" قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني وإسناده حسن " ج9 / ص197، وفي الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي: "وأن السماء احمرَّت لقتله وانكسفت الشمس حتى بدت الكواكب نصف النهار وظنَّ الناس أنَّ القيامة قد قامت" ص194.
2- الكافي -الكليني- ج3 / ص208، وسائل الشيعة -الحرُّ العاملي- ج7 / ص485.
3- سورة البقرة / 164.
4- سورة القمر / 18-21.
5- سورة فصلت / 16.
6- سورة الأحقاف / 24.
7- سورة الأعراف / 77-78.
8- سورة الإسراء / 59.
9- لاحظ: تاج العروس -الزبيدي- 12 / ص454.
10- لاحظ: لسان العرب -ابن منظور- ج9 / ص298.
11- لاحظ: تاج العروس -الزبيدي- 12 / ص455.
12- كامل الزيارات -جعفر بن محمد بن قولويه- ص176.
13- كامل الزيارات -جعفر بن محمد بن قولويه- ص183 / 181، 186، إثبات الوصيَّة -المسعودي- ص178، الطبقات الكبرى -ابن سعد- ج1 / ص507.
14- السنن الكبرى للبيهقي -البيهقي- ج3 / ص337 روى بسنده عن أبي قبيل قال لما قُتل الحسين بن عليٍّ كسفت الشمس كسفة بدت الكواكب نصف النهار حتى ظننا انَّها هي" قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني وإسناده حسن " ج9 / ص197، وفي الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي: "وأن السماء احمرَّت لقتله وانكسفت الشمس حتى بدت الكواكب نصف النهار وظنَّ الناس أنَّ القيامة قد قامت" ص194.
15- الأمالي -الشيخ الصدوق- ص190، 232، المعجم الكبير -الطبراني- ج3 / ص114، تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج14/ ص227. المعجم الكبير -الطبراني- ج3 / ص114، الطبقات الكبرى -ابن سعد- ج1 / ص507، تهذيب الكمال -المزي- ج6 / ص433، سير أعلام النبلاء -الذهبي- ج3 / ص312.
16- سورة العصر / 1-3.