حديثٌ حولَ سورةِ العصر -4
أعوذُ بالله من الشيطانِ الجيم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربِّ العالمين، نحمَدُك تباركتْ أسماؤك، وتعالى ذكرُك، وقهرَ سلطانُك، وتمَّت كلماتُك، تباركتَ وتعاليتَ، أمرُك قضاءٌ، وكلامُك نورٌ، ورضاك رحمةٌ، وسَخطُك عذابٌ، تباركتَ وتعاليتَ، تقضى بعلمٍ، وتعفو بحلمٍ، وتأخُذُ بقدرةٍ، وتفعلُ ما تشاءُ. تباركتَ وتعاليتَ، واسعُ المغفرةِ، شديدُ العقابِ والنقِمةِ، قريبُ الرحمةِ، سريعُ الحسابِ على كلِّ خفيَّةٍ، الحاضرُ لكلِّ سريرةٍ، الشاهدُ لكلِّ نجوى، اللطيفُ لِما يشاءُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وحدَه لَا شَرِيكَ لَه، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً (ص) عَبْدُه ورَسُولُه.
عِبَادَ اللَّه أُوصِيكُمْ ونفسي بِتَقْوَى اللَّهِ والورعِ عن محارمِه واعلموا إِنَّ اللَّه سُبْحَانَه وتَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْه مَا الْعِبَادُ مُقْتَرِفُونَ فِي لَيْلِهِمْ ونَهَارِهِمْ، لَطُفَ بِه خُبْراً وأَحَاطَ بِه عِلْماً أَعْضَاؤُكُمْ شُهُودُه، وجَوَارِحُكُمْ جُنُودُه وضَمَائِرُكُمْ عُيُونُه وخَلَوَاتُكُمْ عِيَانُه.
يقول الله تعالى في مُحكم كتابه المجيد:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿وَالْعَصْرِ/ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ / إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(1).
تلخيصٌ لما تقدَّم:
تقدَّم الحديثُ فيما سبَقَ حولَ الآيتينِ الأُوليينِ من سورةِ العصر وخلصنا إلى أنَّ مفاد الآيةِ الأول هو القسَم بالعصر وذلك يُعبِّر عن أهمية المُقسَمِ به، وقلنا إنَّ الآيةَ الثانية هي جوابُ القسم، ووقوعُها في موقعِ جوابِ القسَمِ يكشفُ عن إرادة التأكيدِ لمفادِها وهو أنَّ الإنسان في خُسرٍ، ثم إنَّ السورةَ لم تقتصرْ في التأكيدِ على هذا المعنى بجعله في موقع جوابِ القسم بل أضافتْ لهذا التأكيدِ تأكيدينِ الأولَ هو تصديرُ الآيةِ بأداةٍ من أدواتِ التأكيد وهي كلمة "إنَّ"، والثاني هو اللام الداخلة على حرف الجرِّ وهي لامُ القسَم المفيدةُ للتأكيد، ولعلَّ ممَّا يقتضي التأكيدَ أيضاً هو التنكير لكلمة "خُسر" بدلاً من تعريفها، والتنكيرُ في مثل المقام ظاهرٌ في التهويل والتعظيم، فكأنَّ الآيةَ أرادت الإشارة إلى أنَّ الخُسرَ الذي سيلحقُ الإنسانَ مهولٌ وعظيم.
فهذه تأكيداتٌ ثلاثة -أو هي أربعة- لمفاد الآية وهو أنَّ كلَّ إنسان فهو في خُسر. وقد ذكرنا فيما سبق لماذا كان الإنسانُ في خُسر، وما هو مناط النجاح الحقيقي؟
المفادُ الإجمالي للآية الثالثة من سورة العصر:
بعد ذلك يقعُ الكلامُ حول الآيةِ الثالثة من سورة العصر وهي قولُه تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾.
فمفادُ الآيةِ هو استثناءُ الواجدينَ للصفاتِ المذكورة مِن حُكم القضيةِ الكليَّة الواردةِ في الآيةِ الثانية، فيكونُ محصَّلُ المعنى من الآيتين هو أنَّ كلَّ إنسان فهو في خُسرٍ إلا مَن كان مؤمناً يعملُ الصالحاتِ ويتواصى بالحقِّ وبالصبر، فمَن كان واجداً لهذه الصفاتِ الأربع كان في منجىً من الخُسر، فلا يلحقُه كما يلحقُ غيرَه خُسرانٌ يومَ القيامة.
ولكي يتَّضحَ المرادُ أكثر من الآية نستعرضُ بإيجازٍ عدداً من الأمور:
المراد من الإيمان ومن عمل الصالحات في الآية:
الأمر الأول: المرادُ من الإيمانِ في الآية المباركة وسائرِ الآيات هو الاعتقادُ الصادقُ بأصولِ العقيدة والتي أشارت إليها الآية من سورة البقرة: ﴿آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾(2) فأصولُ العقيدة بمقتضى هذه الآية هي الإيمانُ باللهِ وملائكتِه وكتبِه ورسلِه واليومِ الآخرِ المستفادِ من قوله: ﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ والإيمانُ بالإمامةِ هو من الإيمانِ بالرسول(ص) وما أُنزل إليه من ربِّه.
وأمَّا ما هو المرادُ من الصالحاتِ فالظاهرُ أنَّها في الآية تعني خصوصَ الفرائضِ والواجبات، وذلك بقرينةِ أنَّ الآيةَ بصددِ تحديدِ الناجين من الخُسرانِ في الآخرة، ومِن الواضح أنَّه لا يتعيَّنُ للنجاة من الخُسران في الآخرة الالتزامُ بالمستحبَّات، فلو التزمَ الإنسانُ -بعد الإيمان- بالفرائضِ والواجبات لكان ذلك كافياً للنجاةِ من الخُسران في الآخرة، نعم قد يُستعملُ لفظ الصالحات في آياتٍ أُخرى ويُرادُ منه الأعمُّ من الواجبات والمستحبَّات وذلك حينما تكونُ الآياتُ بصددِ الحثِّ على نيل درجاتٍ عالية في الجنَّة.
ثم إنَّ عملَ الصالحاتِ لا يختصُّ ظاهراً بفعل الفرائض والواجبات بل يشملُ تركَ المحرَّمات، وذلك بقرينةِ أنَّ عدداً من الآيات صنَّفت المجترحين للسيئات في مقابلِ العاملينَ للصالحات كقوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾(3) فمثلُ هذه الآية صريحةٌ في أنَّ اجتراحَ السيئات موجبٌ للخروج عمَّن وصفهم القرآن بالعاملين للصالحات وأنَّ مَن عدَّ المجترحينَ للسيئات في العاملينَ للصالحات فقد ساءَ حكمه أي أنَّه جانبَ الحقَّ والصواب في حُكمِه، وكذلك فإنَّ عدداً من الآياتِ صنَّفت العاملينَ للصالحاتِ في مقابل المُفسدينَ في الأرضِ كقوله تعالى: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾(4).
ومِن ذلك يتَّضح أنَّ المرادَ من عملِ الصالحات هو تركُ المحرَّمات مضافاً إلى الالتزام بفعل الفرائض والواجبات، ثم إنَّ هنا قرينةً اخرى تقتضي استظهارَ إرادة تركِ المحرمات مضافاً إلى فعل الواجبات من قوله وعملوا الصالحات وهي أنَّ الآيةَ بصددِ تحديد الناجين من الخُسر، ومن الواضح قرآنياً أنَّ المرتكبَ للمُوبِقات غيرَ التائب منها لا يكونُ في زمرة الناجينَ وإنْ كان مُلتزماً بفعل الواجبات.
نعم ارتكابُ بعض المحرَّمات كتركِ بعض الواجبات لا يُخرج المؤمنُ من زمرة العاملينَ للصالحات إذا كان الطابعُ العام على سلوكِه هو تركُ المحرَّمات والالتزامُ بالواجبات وإلا لكانت هذه الآية وما ماثلَها في المدلول مختصةً بالمعصومين(ع) الذين لا يرتكبونَ سيئةً ولا يتركونَ فريضةً، وذلك غير مرادٍ جزماً.
النجاة منوطةٌ بالايمان المقترنِ بعمل الصالحات:
الأمر الثاني: إنَّ الآيةَ المباركة والكثيرَ من الآيات الأخرى قرنتْ بين الإيمان وعمل الصالحات، وأفادت أنَّ الفوزَ والنجاحَ وعدمَ الخسرانِ ونيلَ الدرجاتِ العالية لا يتمُّ شيءٌ منها إلا بالإيمان وعمل الصالحات، فالإيمانُ وحده غير كافٍ للنجاةِ فضلاً عن تحصيلِ الدرجات كما أنَّ عملَ الصالحات المجرَّد عن الإيمان غيرُ كافٍ للنجاة والفوزِ بالسعادة في الآخرة. فعملُ الصالحات لا يكونُ مقبولاً ما لم ينطلقْ عن إيمانٍ، والإيمانُ لا يكونُ نافعاً في تحصيل الغاياتِ المذكورة من الفوزِ والنجاةِ ما لم يكن باعثاً على عمل الصالحات. إذ أنَّ الإيمانَ الذي لا يبعثُ على عملِ الصالحات وتركِ المحرَّمات لا يكون صادقاً، ولذلك وصفَ القرآنُ مَن يدعُّ اليتيم بالمكذِّب بيومِ الدين قال تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيم َوَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾(5) فدعُّ اليتيمِ وعدمُ الحضِّ على طعام المسكين لا يصدرُ بمقتضى هذه الآية إلا عن مكذِّبٍ واقعاً بيوم الدين، إذ لو كان مصدِّقاً لردعه إيمانُه عن ظلمِ اليتيم ولكانَ قد بعثَه على الحضِّ على طعام المسكين، فالإيمانُ الصادقُ يردعُ عن الظلم ويبعثُ على فعل الخير، وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾(6) فدعوى حبِّ الله تعالى لا تكون صادقةً ما لم تكن باعثةً على اتِّباع الرسول (ص) فالإيمانُ إذن إذا لم يكن باعثاً على عملِ الصالحات فإنَّه لا يكون صادقاً، فلا يكون مُجدياً في التوصُّلِ للغايات.
وكذلك فإنَّ عملَ الصالحات إذا لم ينطلقْ عن إيمانٍ فإنَّه لن يكونَ مستوعباً لمُختلفِ شئون الحياة كما أنَّه لن يكونَ مضمونَ البقاءِ والاستمرار، فالإنسانُ المجردُ عن الإيمان قد يفعلُ الصالحات لدوافعَ انسانيَّة لكنَّها غالباً ما تكونُ عارضة، فهي لا تمثِّلُ القاعدةَ في حياةِ الإنسان فهي إنْ لم تكنْ استثناءً فإنَّها ليست حاضرةً في مطلقِ أحوال الإنسان خصوصاً في ظرفِ منافاتِها لمصالحِه، ولكم أنْ تُجيلوا بصرَكم في تاريخِ الأمم وفيما عليه عالمُ اليوم فإنَّكم لن تجدو تأثيراً يُذكرُ للدوافع الإنسانية في حركةِ حياة الإنسان السياسيَّة أو الاقتصاديَّة أو الاجتماعيَّة، فالدوافع الإنسانية المجرَّدة عن الإيمان لا تصلحُ وحدها لدفعِ الإنسان لعملِ الصالحات، على أنَّه ليس كلُّ الصالحات من سنخ الأعمال التي تكون الدوافعُ الإنسانيَّةُ صالحةً للدفع نحوها، فثمةَ الكثيرُ من الأعمال الصالحةِ في الشريعة ولدى العقلاء ليست ذات صلةٍ بالدوافع الإنسانيَّة.
إذنْ فما يصلحُ لدفع الإنسان إلى الالتزام بعملِ مُطلقِ الصالحات هو الإيمانُ الصادق، ولذلك شدَّدت الآياتُ في أكثرِ من خمسينَ مورداً على أنَّ المُفضِي لكمالِ الإنسانِ ونجاتِه في ذات الوقت هو اقترانُ عملِه للصالحات بالإيمان وأنَّ أحدَهما لا يُغني عن الآخر بل إنَّ كلاً منهما يُسهمُ في اشتدادِ الآخر وتكاملِه، فالإيمانُ يدفعُ نحو الصالحات، وعملُ الصالحات يُعمِّق من حالةِ الإيمانِ عند الإنسان، وعلى عكس ذلك فإنَّ الإنسانَ إذا فرَّطَ في عملِ بعض الصالحات أثَّر ذلك على رسوخِ إيمانه.
المرادَ من التواصِي بالحقِّ والتواصي بالصبر:
الأمر الثالث: إنَّ المرادَ من التواصِي بالحقِّ والتواصي بالصبر هو تبادلُ الإيصاء بالثباتِ على الإيمان وبالاستقامةِ على عملِ الصالحات، وذلك لأنَّ التواصي من أفعال المشاركة بمعنى أنَّ الفعلَ يتبادلُه الأطراف، فكلٌّ منهم يصدرُ عنه الفعلُ وكلٌّ منهم يكون محلاً للفعل أي أنَّ كلاً منهم يُوصِي ويوصَى، فحين يُقال مثلا ًضربَ زيدٌ عمراً فإنَّ معنى ذلك هو أنَّ زيداً وحدَه الذي صدرَ منه الضرب وأنَّ عَمراً هو مَن وقع عليه الضرب دون أنْ يصدرَ منه، وأمَّا حين يُقال:تضاربَ زيدٌ وعمرو فإنَّ معنى ذلك أنَّ كلاً من زيدٍ وعمرو صدر منه الضرب، وكلاً منهما وقعَ عليه الضربُ، كذلك هو مدلول كلمة "تواصوا"، فإنَّها تعني التناصح وتبادل الإيصاء بالحقِّ وبالصبر، فكلُّ مؤمنٍ يجدُ من مسئوليتِه بذلَ النصيحةِ لأخيه المؤمنِ إذا وقفَ منه على خطأ أو تقصيرٍ وفي ذاتِ الوقت يقبلُ نصيحةَ أخيه له لو وقع منه خطأٌ أو تقصير.
ومن ذلك نفهمُ أنَّ مسئوليةَ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكر وإسداءِ النصيحة لا يختصُّ بها أحد، فعمومُ المؤمنينَ مخاطبونَ بهذه المسئولية، وكذلك نفهمُ من الآية المباركة أنَّه لا أحدَ فوق أنْ يُوصَى وأن تُسدى إليه النصيحة.
وممَّا يُمكن استيحاؤه من الأمر بالتواصي أنَّه ليس لأحدٍ أنْ ينكفِأَ على نفسِه ويشتغلَ بشأنِه ولا يعبأ بمجتمعِه، فإنَّ وظيفةَ كلِّ مؤمنٍ ليس هو البناءَ لذاته وحسب بل هو البناءُ لذاته والعملُ على البناءِ لمجتمعِه بل إنَّ البناءَ للذات والتي هي الوظيفة الأولى للإنسان لا يتمُّ إلا في إطار البناءِ للمجتمع كما أنَّ البناءَ للمجتمع يُسهمُ في بناءِ الذات، فكلٌّ منهما مُقوِّمٌ للآخر وذلك هو سرُّ حرصِ الإسلام على التواصي والتناصحِ والأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكر والتكافلِ والمواساةِ والتعاونِ على البر والتقوى فإنَّ منشأ حرص الإسلام على تمثل هذه القيمِ وشبهها هو أنَّها وسائلُ البناءِ والتكامل للمجتمع، وهي وسائلُ البناءِ والتكاملِ للذات.
المراد من الحقِّ المأمور بالتواصي به:
الأمر الرابع: إنَّ المراد من الحقِّ الذي أمرت الآيةُ من سورة العصرِ بالتواصي به هو الإيمانُ بأصول الإسلام، والمراد من التواصي بالصبر هو التواصي بالاستقامة على عملِ الصالحات.
فالمؤمنُ قد تعلقُ في ذهنِه شبهةٌ، وقد تروجُ شبهةٌ في المجتمع يُخشى من تأثيرها على عقائدِ الناس، وهنا بمقتضى هذه الآية لا يصحُّ للعلماءِ وذوي التخصُّص التغاضي عن ذلك بل يتعيَّنُ عليهم التصدِّي لمعالجةِ هذه الشبهة والحمايةِ لعقائد الناس، فإنَّ ذلك هو من أجلى مصاديق الأمرِ بالتواصي بالحقِّ، وكذلك يتعيَّنُ على العارفين بأصول العقيدة التصدِّي ابتداءً لتعليمِ الناشئة وعوامِ الناسِ وتعميقُ صلتِهم بعقائدِهم وتحصينُهم حتى لا يقعوا فريسةً لما قد يطرأُ من شبهات أو ما يُروِّج له المضلُّون، وكذلك يتعيَّنُ على الآباءِ والأسر متابعةُ أبنائِهم فيما يتَّصلُ بهذا الشأن وحثُّهم على حضورِ مجالس الدرس ومراكزِ التعليم الديني وعدمُ الاقتصار على تعليمهم للصلاةِ وتلاوة القرآن، فإنَّ تعليمَ الأبناءِ للصلاةِ وتلاوةِ القرآن لا يُنهي مسئوليتَهم الإلهيَّةَ تجاهَ أبنائهم ولا يُنجيهم من الخُسران الذي حذَّرت منه الآية وأفادت بأنَّ كلَّ انسان فهو يوم القيامة في خُسر إلا مَن آمن وعمل صالحاً وتواصى بالحق.
التواصي بالصبر هو التواصي يالاستقامة:
وكذلك هو الشأن في التواصي بالصبر فإنَّ المراد منه هو التواصي بالاستقامة على عملِ الصالحات، فلا يكفي للنجاةِ من الخُسران الذي حذَّرت منه الآيةُ أنْ يستقيمَ المؤمنُ على عمل الصالحات بل يتعيَّنُ عليه المُراقبةُ لأبنائه وذوي قرابتِه ومجتمعِه فيعملُ على ضمان استقامتِهم على عمل الصالحات.
ومنشأُ التعبير عن التواصي بالاستقامة بالتواصي بالصبر هو أنَّ الاستقامةَ لا تُتاحُ إلا بالصبر، فلكى يحظى المؤمنُ بالاستقامةِ فإنَّ عليه أنْ يصبرَ على فعلِ الطاعاتِ ويصبرَ ويجاهدَ نفسَه حتى لا يقارفَ المعصية التي تنزعُ النفسُ إليها بمقتضى طبعِها، ويصبرَ عند نزول البلاء، فلا يجزعُ ولا يسخطُ من قضاءِ الله تعالى وقدره، فالصبرُ إذن جامعٌ لمعنى الاستقامة التي هي طريقُ الأمنِ ومناطُ النجاح قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾(7)
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمَّد واغفر لعبادك المؤمنين
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ / فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ / إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾(8).
والحمد لله ربِّ العالمين
خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور
28 من جمادى الأولى 1444هـ - الموافق 23 ديسمبر 2022م
جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز
1- سورة العصر / 1-3.
2- سورة البقرة / 285.
3- سورة الجاثية / 21.
4- سورة ص / 28.
5- سورة الماعون / 1-3.
6- سورة آل عمران / 31.
7- سورة فصلت / 30.
8- سورة الكوثر / 1-3.