أصالة عدم التذكية
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المراد من التذكية هو إزهاق نفس الحيوان بالوسائل المقرَّرة شرعاً مع التحفُّظ على الشرائط المعتبرة في وقوع التذكية عند الشارع، ومع عدم مراعاة ذلك يكون الحيوان في عداد الميتة.
ولمّا كانت التذكية أمراً حادثاً فهي مسبوقة بالعدم، ومن هنا كان المراد من أصالة عدم التذكية هو استصحاب عدم التذكية، وفي كلِّ موردٍ يكون استصحاب عدم التذكية جارياً يكون مقدَّماً على أصالة الحلِّ إمَّا بنحو الحكومة أو بنحو الورود، وذلك لأنَّ استصحاب عدم التذكية يكون أصلاً موضوعيا بالنسبة لأصالة الحلِّ فينفي موضوعَها، إذ أنَّ موضوعها هو الشكُّ في الحليَّة، واستصحابُ عدم التذكية ينفي الشكَّ في الحليَّة، فلا موضوع حينئذٍ لأصالة الحل.
وبتعبير آخر: إنَّ استصحاب عدم التذكية يُعالج موضوع الأثر الشرعي والذي هو الحرمة، فموضوع الحرمة هو عدم التذكية وموضوع الحليَّة الواقعية هو وقوع التذكية كما أنّ موضوع الحليَّة الظاهرية لو كانت هو الشكَّ في التذكية. فاستصحاب عدم التذكية ينقِّح موضوع الحرمة ويُلغي موضوع الحليَّة الظاهرية «أصالة الحِلِّ»، إذ أنَّ الاستصحاب يُنزِّل الشكَّ في التذكية وعدمها منزلةَ اليقين بعدم التذكية، وهذا ما يُوجب عدم جريان أصالة الحلِّ، إذ أنَّ الأحكام تابعةٌ لموضوعاتها، وبانتفاء الموضوع ينتفي الحكم، والذي هو في المقام أصالة الحلِّ.
وحتى يكون مجرى أصالة عدم التذكية واضحاً لا بدَّ من بيان أقسام الشكِّ في حرمة وحلية اللحم، فنقول: إنَّ الشكَّ تارةً يكون بنحو الشبهة الموضوعية، وأخرى يكون بنحو الشبهة الحكميَّة.
أمَّا الشك بنحو الشبهة الموضوعية فقد ذكر له السيد الخوئي رحمه الله أربعة أنحاء:
النحو الاول: أنْ يكون الشكُّ ناشئاً عن الجهل بعنوان الحيوان الذي وقعت عليه التذكية يقينا، بمعنى عدم تشخّص هوية هذا الحيوان المذكَّى، وهل هو من الحيوانات المحلَّلة أو هو من الحيوانات المحرَّمة، فالشبهةُ في هذا الفرض موضوعيَّة وإلاّ فنحن نعرف الحيوانات المحلَّلة من المحرمة إلاّ أنّ الجهل من جهة عنوان هذا المذكَّى لعدم الاطلاع على رأسه مثلاً.
ومثالُ هذا الفرض ما لو افترض الاطلاع على تذكية هذا الحيوان إلاّ أنّه وقع الشك من جهة أنَّه شاة أو ذئب، وهنا لا إشكال في عدم جريان أصالة عدم التذكية، وذلك لإحراز وقوعها كما هو الفرض إلاّ أنّه هل تجري أصالة الحلِّ في هذا اللحم أو لا؟.
ذهب السيد الخوئي رحمه الله الى جريانها دون الحاجة الى الفحص عن هوية هذا اللحم. وذلك لعدم لزوم الفحص لإجراء الأصل في الشبهات الموضوعية. إلاّ انّ بعض الأعلام تمسّك باستصحاب حرمة الأكل، وذلك للعلم بالحرمة قبل زهاق الروح ونشك بعد التذكية في ارتفاعها بسبب الشك في كون المذكَّى من مأكول اللحم أو لا. ونسب للشهيد الاول رحمه الله ظاهراً التمسّك بأصلٍ عبَّر عنه بأصالة الحرمة في اللُّحوم.
النحو الثاني: أنْ نُحرز وقوع التذكية وأنَّها وقعت على حيوانٍ محلَّلِ الأكل ذاتاً إلَّا أنّ الشكَّ من جهة احتمال أنّ هذا الحيوان قد طرأ عليه ما يُوجب المنع من قابليته للتذكية، كاحتمال أنّه وُطئ من قبل إنسان أو ارتضع من لبنِ خنزيرة أو عرَض له جلَل.
وهنا أيضاً لا تجري أصالة عدم التذكية لأنَّها محرزة كما هو الفرض، غايته أنَّنا نشكُّ في قابلية هذا الحيوان للتذكية من جهة احتمال عروض ما يمنع عن القابلية للتذكية، وباستصحاب عدم عروض المانع مع إحراز وقوع التذكية تثبت الحليَّة.
النحو الثالث: أنْ نُحرز أيضاً وقوع التذكية إلاّ أنّه يقعُ الشكُّ من جهة قابليَّة هذا الحيوان ذاتاً لأنْ تقع عليه التذكية. والفرق بين هذا النحو من الشكِّ والنحو الاول أنّ الشكَّ في النحو الاول ليس من جهة قابليَّة المذكَّى للتذكية بل إنّ القابليَّة مُحرزة والشكُّ إنَّما هو من جهة حليَّة لحمه أو عدمها مع الفراغ عن قابليته للتذكية، إذ لا ملازمة بين القابلية للتذكية وبين حليَّة لحم القابل للتذكية.
وكيف كان فمثال ما نحن فيه هو ما لو أوقعَ المكلّفُ التذكية في الظلمة أو كان أعمى وشكَّ في أنّ الحيوان الذي أوقع التذكيةَ عليه هل هو شاة حتى يكون قابلاً للتذكية أو هو خنزير فلا يكون قابلاً للتذكية.
وهنا يكون جريان الاستصحاب وعدم جريانه يختلف باختلاف المباني، فإنْ كان البناء هو قابلية كلِّ حيوان للتذكية إلاّ ما قام الدليلُ الخاصُّ في موردٍ على عدم قابليته لها، وكان البناء أيضاً على جريان استصحاب العدم الأزلي في العناوين الذاتية فإنَّ مجموع ذلك يُنقِّح حلّيَّة اللَّحم الذي وقع الشكُّ فيه من جهة قابليته للتذكية.
وبيانُ ذلك: إنّ استصحاب العدم الأزلي لو كان جارياً في العناوين الذاتية فإنّ بالإمكان استصحاب عدم تعنون هذا الحيوان بالعنوان الغير القابل للتذكية، بمعنى استصحاب عدم خنزيريَّة هذا الحيوان المُحرزة حين لم يكن هذا الحيوان موجوداً، فإنَّ هذا الحيوان حينما كان في حيّز العدم لم يكن متعنوناً بعنوان الخنزير وبعد أن وُجد هذا الحيوان نشكُّ في تعنونه بعنوان الخنزيريَّة فنستصحب عدم خنزيريَّته الثابتة في الأزل. كما هو الحال في استصحاب عدم قرشية هذه المرأة إذ أنَّ عدم القرشية كان مُحرزاً عند ما لم تكن هذه المرأة موجودة، فاستصحاب عدم القرشية من استصحاب العدم الأزلي، غايته أنّ استصحاب عدم القرشية استصحاب لعدم عنوانٍ غير ذاتي للمرأة وإن كان هذا العنوان ملازماً لوجود المرأة لو كانت واقعاً قرشية.
أما استصحاب عدم الخنزيريَّة فإنّه استصحاب لعدم عنوان ذاتي للحيوان. ولمزيد من التوضيح راجع عنوان «العدم الازلي».
وباتِّضاح ذلك نقول: لو تمَّ استصحاب عدم الخنزيريَّة لتنقَّح بذلك مصداق لعموم أنّ كلَّ حيوان قابل للتذكية، وبه تثبت حليَّة هذا اللحم المردَّد من جهة قابليته للتذكية، ولا تجري حينئذٍ أصالة عدم التذكية.
أمَّا لو كان البناء هو عدم تماميَّة هذا العموم وعدم تماميَّة جريان استصحاب العدم الأزلي في العناوين الذاتيَّة أو لا أقل عدم تماميَّة أحدهما فإنّ النتيجة تختلف.
فبناءً على أنّ التذكية عبارة عن فري الأوداج الاربعة مع مراعاة الشرائط المعتبرة فإنّ استصحاب عدم التذكية لا يجري، وذلك لأحراز وقوعها بهذا المعنى. كما هو المفترض. إلاّ أن ذلك لا يعني الحليَّة، إذ يمكن التمسُّك بأصالة الحرمة في اللحوم كما نُسب الى الشهيد الاول، أو التمسُّك باستصحاب الحرمة الثابتة قبل زهاق الروح كما ذهب لذلك البعض، نعم يُمكن البناء على أصالة الحلِّ على بعض المباني.
وبناءً على أنّ التذكية أمرٌ وجودي بسيط ينشأ عن فري الاوداج مع مراعاة الشرائط، فليس فري الاوداج إلاّ من قبيل السبب لتحقُّق التذكية وإلَّا فهو غير التذكية كما هو الحال في الطهارة فإنَّها غير الوضوء نعم هي مسبَّبة عنه، لو كان البناء هو ذلك فإنّ الجاري عندئذ هو أصالة عدم التذكية، وذلك لأنّه بعد وقوع فري الأوداج نشكُّ في تحقق التذكية بسبب الشكِّ في قابليَّة هذا الحيوان لها، فنستصحبُ عدم تحققها.
النحو الرابع: أنْ نُحرز قابليَّة هذا الحيوان للتذكية ونُحرز أيضاً أنّه من مأكول اللحم إلاّ أنّ الشك من جهة وقوع التذكية وعدمها، كما لو شككنا أنّه مات حذف أنفِه أو أُزهقت روحه بواسطة التذكية، أو شككنا في توفُّر الذبح على تمام الشرائط المعتبرة في تحقق التذكية، كما لو وقع الشك في اسلام الذابح، وهنا لا ريب في جريان أصالة عدم التذكية، وذلك للشكِّ تحققها والأصل عدم التحقُّق.
هذا حاصل ما أفاده السيد الخوئي رحمه الله في الشك بنحو الشبهة الموضوعية، وأمَّا الشك بنحو الشبهة الحكمية فكذلك له أربعة أنحاء.
النحو الأول: أنْ نُحرز وقوع التذكية خارجاً كما نُحرز عنوان الحيوان الذي وقعت عليه التذكية إلاّ أنّه يقع الشك في حليَّة اللَّحم المذكَّى من جهة عدم وجود دليل على الحلّية، كما لو وقع الشك في حليَّة الغراب بعد تذكيته بسبب عدم الدليل على الحليَّة أو الحرمة مثلاً.
فهنا لا تجري أصالة عدم التذكية وإنَّما الجاري هو أصالة الحلِّ إلاّ أن يقال بأصالة الحرمة في اللحوم أو باستصحاب الحرمة الثابتة قبل زهاق الروح كما ذكر البعض.
النحو الثاني: أن نُحرز وقوع التذكية بمعنى فري الأوداج مع مراعاة الشرائط المعتبرة إلاّ أنّ الشك نشأ من جهة قابلية الحيوان للتذكية كما لو تولّد الحيوان من حيوانين أحدهما قابل للتذكية والآخر غير قابل لها ولم نكن نُحرز تعنونه بأحد العنوانين.
فهنا لو كان عموم مفاده قابليَّة كلِّ حيوان للتذكية إلاّ ما خرج بالدليل الخاصِّ، فإنّه يُمكن التمسُّك بالعموم لإثبات قابليَّة هذا الحيوان للتذكية، وذلك لإحراز حيوانيته وهو ما ينقّح موضوعيَّته للعموم.
وأمَّا لو لم يكن ثمة عموم من هذا القبيل فإنّ المرجع حينئذٍ هو أصالة عدم التذكية لو كان البناء على أنّها أمر بسيط -كما هو مبنى السيد الخوئي رحمه الله- وذلك لانّ الشكَّ في القابليَّة للتذكية يُساوقُ الشك في تحقُّق التذكية والأصل العدم، وأمَّا مع البناء على أنّ التذكية هي فري الأوداج فإنّه مُحرز بالوجدان فلا تجري أصالة عدم التذكية.
النحو الثالث: مثل الثاني إلاّ أنّ الشك نشأ عن احتمال عدم القابليَّة للتذكية بسبب ما طرأ على الحيوان من عوارض أوجبت الشكَّ في بقاء قابليَّته للتذكية، كما لو كان الشكُّ من جهة احتمال مانعيَّة الجلَل لقابليَّة الحيوان للتذكية. والأصل الجاري في المقام هو عدم المانعيَّة.
النحو الرابع: أنْ ينشأ الشك من جهة احتمال اعتبار شرط في التذكية بالإضافة للشروط الأخرى، كما لو احتملنا اعتبار أن يكون الذابح امامياً أو اعتبار الذبح بالحديد.
وهنا ذهب السيد الخوئي رحمه الله الى جريان أصالة عدم التذكية، وذلك لأنَّ الشك في اعتبار شرطٍ زائد يُساوق الشك في تحقُّق التذكية بدونه، والأصل عدمها.
والحمد لله ربِّ العالمين
مقتبس من المعجم الأصولي
للشيخ محمد صنقور