حديثٌ حول الإمام الكاظم (ع)

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيُّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ اللّهُمَّ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً (ص) عَبْدُه ورَسُولُه.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾(1).

أعظم الله اجوركم بذكرى استشهاد الامام أبي الحسن موسى بن جعفر(ع) واستثمر هذه المناسبة الجليلة لنقف على شيءٍ من معالم سيرتِه المباركة ونسلِّط شيئاً من الضوء على شيء من ملامح هذه الشخصية التي صنعت على عين الله لتكون دليلاً عليه ومناراً لعباده وطريقاً لنيل رضوانه، فهو الإمام السابع من أئمة أهل البيت (ع) كان يُعرف بالكاظم والعالم، والعبد الصالح، ويُكنَّى بأبي الحسن وبأبي إبراهيم.

مولده ونشأته:

وُلد (ع) في موضعٍ يُسمَّى (الأبواء) يقعُ بين مكة الشريفة والمدينة المنورة، وكان ذلك في السابع من شهر صفر سنة ثمانٍ وعشرين ومائة، وقيل بعد هذه السنة بسنة(2) وأمُّه يُقال لها حميدة المُصفَّاة أو البربرية كانت معروفة بالزهد والصلاح(3).

وقد ورد عن الإمام الرضا (ع) أنَّه كان ممَّن تكلَّم في المهد، وقد وردت في ذلك رواياتٌ عديدة، منها ما هو معتبرٌ سنداً، فمن ذلك ما رواه الكليني بسندٍ معتبر عن يَعْقُوبَ السَّرَّاجِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) وهُوَ وَاقِفٌ عَلَى رَأْسِ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى وهُوَ فِي الْمَهْدِ فَجَعَلَ يُسَارُّه طَوِيلاً فَجَلَسْتُ حَتَّى فَرَغَ فَقُمْتُ إِلَيْه فَقَالَ لِي: ادْنُ مِنْ مَوْلَاكَ فَسَلِّمْ فَدَنَوْتُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْه فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ بِلِسَانٍ فَصِيحٍ ثُمَّ قَالَ لِيَ: اذْهَبْ فَغَيِّرِ اسْمَ ابْنَتِكَ الَّتِي سَمَّيْتَهَا أَمْسِ فَإِنَّه اسْمٌ يُبْغِضُه اللَّه وكَانَ وُلِدَتْ لِيَ ابْنَةٌ سَمَّيْتُهَا .. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع) انْتَه إِلَى أَمْرِه تُرْشَدْ فَغَيَّرْتُ اسْمَهَا"(4).

نشأ الإمام (ع) في كنَفِ أبيه الإمام الصادق (ع) وظلَّ في رعايته مدَّةَ عشرين سنَّة، كان يقدِّمه فيها لشيوخ تلامذته وتلامذة أبيه الباقر (ع) فكان يُعرِّفهم بمقامِه السامي وموقعِه عند الله تعالى وأنَّه الذي اجتباه اللهُ تعالى واصطفاه للإمامة والريادة للأمَّة من بعده، وأنَّه وليُّ الله وحجَّتُه على عباده، وأنَّ مَن استمسك به فقد استمسك بالعروة الوثقى.

النصُّ على إمامته:

وأمَّا النصُّ على إمامته فمضافاً إلى النصوصِ العامَّة كآيةِ التطهير، وآيةِ المودَّة، وحديثِ الثقلين، وحديثِ السفينة، والرواياتِ المتواترة التي نصَّت على أسماء الأئمة (ع) واحدٍ بعد الآخر، فإنَّ ثمة نصوصاً تفوقُ حدَّ التواتر رواها الثقاةُ الأجلاءُ عن الإمام الصادق (ع) صريحةً في تعيُّنِ الإمامة بعده في الإمام الكاظم (ع).

فمِّما ورد في ذلك ما رواه الصدوقُ في كمال الدين بسندٍ صحيح عن المفضَّل بن عمر قال: دخلتُ على سيدي جعفر بن محمد (ع) فقلتُ: يا سيِّدي لو عهدتّ إلينا في الخلَفِ من بعدك؟، فقال (ع) لي: "يا مفضَّل، الإمامُ من بعدي ابني موسى"(5).

ومنه: ما رواه الكليني بسندٍ صحيح عن سليمان بن خالد قال: دعا أبو عبد الله (ع) أبا الحسن يوماً ونحن عنده فقال لنا: "عليكم بهذا بعدي فهو والله صاحبُكم بعدي"(6).

هذا مضافاً إلى ما ثبتَ نقلُه بالتواتر الإجمالي ممَّا كان يظهرُ على يديه من دلائلَ وكراماتٍ لا يتَّفق صدورُها مجتمعةً إلا لمَن اجتباه اللهُ لدينِه، واصطفاهُ دون خلقِه، وجعلَه قيِّماً على عباده خصوصاً وأنَّ ظهورَها على يديه كانت تكتنفُها دعوى الإمامة والخلافة لرسول الله (ص)، فذلك يُورثُ القطعَ بصدق دعواه، إذ لو لم تكن كذلك لاستحال على اللهِ جلَّ وعلا تمكينُه وإقداره على إظهار الخوارق من الأمور وإلا كان في ذلك تضليلٌ من الله تعالى للعباد وإغراءٌ لهم بالباطل تعالى اللهُ عن ذلك علواً كبيراً، وعلى هذا الدليل قامت الرسالاتُ والنبوَّاتُ، وبه تثبتُ الإمامةُ أيضاً.

من دلائل إمامته:

فمِّما أُثرَ عنه في ذلك هو ما أكثَرَ الرواةُ الثقاةُ نقلَه من إخباراته بالمغيبَّات وسرعةِ الاستجابة لدعواته بتفاصيلها ودقائقها.

فمِن ذلك ما أورده الكليني في الكافي بسندٍ صحيح عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ مَرَّ الْعَبْدُ الصَّالِحُ -الإمام موسى بن جعفر- بِامْرَأَةٍ بِمِنًى وهِيَ تَبْكِي وصِبْيَانُهَا حَوْلَهَا يَبْكُونَ وقَدْ مَاتَتْ لَهَا بَقَرَةٌ، فَدَنَا مِنْهَا ثُمَّ قَالَ لَهَا: مَا يُبْكِيكِ يَا أَمَةَ اللَّه قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّه إِنَّ لَنَا صِبْيَاناً يَتَامَى وكَانَتْ لِي بَقَرَةٌ مَعِيشَتِي ومَعِيشَةُ صِبْيَانِي كَانَ مِنْهَا وقَدْ مَاتَتْ وبَقِيتُ مُنْقَطَعاً بِي وبِوُلْدِي لَا حِيلَةَ لَنَا فَقَالَ: يَا أَمَةَ اللَّه هَلْ لَكِ أَنْ أُحْيِيَهَا لَكِ فَأُلْهِمَتْ أَنْ قَالَتْ: نَعَمْ يَا عَبْدَ اللَّه فَتَنَحَّى وصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَفَعَ يَدَه هُنَيْئَةً وحَرَّكَ شَفَتَيْه ثُمَّ قَامَ فَصَوَّتَ بِالْبَقَرَةِ فَنَخَسَهَا نَخْسَةً أَوْ ضَرَبَهَا بِرِجْلِه فَاسْتَوَتْ عَلَى الأَرْضِ قَائِمَةً فَلَمَّا نَظَرْتِ الْمَرْأَةُ إِلَى الْبَقَرَةِ صَاحَتْ وقَالَتْ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ورَبِّ الْكَعْبَةِ فَخَالَطَ النَّاسَ وصَارَ بَيْنَهُمْ ومَضَى (ع)(7). 

عبادته ومكارم أخلاقه:

أمَّا عبادته فيكفي منها ما عُرف عنه بأنَّه حليفُ السجدةِ الطويلة(8)، فقد ذكر مناوئوه ممَّن سجنَه أنَّه كان يُصلِّي الفجرَ، فإذا انفتلَ من صلاته جلسَ للتعقيب وتلاوة القرآن حتى تُشرقَ الشمس، فإذا أشرقتْ سجد سجدةً لا يرفعُ رأسَه منها حتى تزولَ الشمسُ ويحينُ وقتُ النافلةِ والفريضة، فإذا انتهى من صلاتِه سجد حتى تغرُبَ الشمسُ فيقوم دون أنْ يُجدِّد وضوءه فيُصلِّي المغرب ثم يتنفَّل ويعقِّب ثم يُصلي العشاء ويعقِّب ثم يفطر، وبعدها يقوم للصلاة ثم ينام نوماً خفيفاً فما يلبثُ حتى يقومَ لنافلة الليل ويُوصلها بصلاة الصبح، وهكذا كان دأبُه في السجنِ كما ذكر ذلك مَن كان في سجنهم كالفضل بن يحيى البرمكي(9).

وأمَّا زهدُه فقد ذكرَ الثقاة من الرواة أنَّهم إذا دخلوا داره لم يجدوا سوى خصَفةٍ وسيفٍ معلَّقٍ ومصحف(10). هذا وكانت الأموالُ والأخماس تُجبى إليه من كلِّ حدَبٍ وصوب يُنفقها في تشييد الدين ورفع ضروراتِ المؤمنين.

وكان (ع) حليماً يجازي على السيئة بالإحسان ولهذا لُقبِّ بالكاظم. وكان شجاعاً لا تمنعه سطوةُ السلطان من الجأر بالحقِّ حتى أنَّ هارون سأله عن رأيه في داره فقال هي دار الفاسقين ثم تلا قوله تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ﴾(11)(12).

وحين كان في السجن بعث إليه الرشيدُ ملتمساً منه أنْ يعتذرَ إليه حتى يُطلَقه من الحبس فأجاب رسولَه وكلَّفه بأن يُخبره: إنَّه ستعلمُ إذا جاثيتُك بين يدى الله مَن الظالمُ المعتدي على صاحبِه(13).

وبعث إليه في مشهدٍ آخر: "أنْ يا هارون إنَّه لن ينقضيَ عنِّي يومٌ من البلاء حتى ينقضيَ عنك يومٌ من الرخاء حتى نفنى جميعاً إلى يومٍ ليس فيه اِنقضاء، وهناك يخسرُ المبطلون"(14).

ظرف إمامته كان من أقسى الظروف:

اطَّلع الإمام الكاظم (ع) بدور الإمامة بعد عشرين سنة من ولادته، وبعد رحيل والده الإمام الصادق (ع) إلى ربِّه جلَّ وعلا، وكان ذلك سنة ثمانية وأربعين ومائة للهجرة النبويَّة، وذلك في أيام مُلكِ أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي الثاني ثم بعد قرابة التسع أو العشر سنوات من حين تسنُّمه لمنصب الإمامة تُوفِّي المنصور العباسي، وتولَّى بعده ابنُه المهدي، وبقي مدَّة عشر سنوات وشهراً، ثم جاء بعده الهادي العباسي ولم يلبث في الملك سوى سنةٍ واحدة وشهر ثم تولَّى بعده سُدَّةَ الحكم هارون الرشيد، وبقي في الملك خمساً وعشرين سنة استُشهد الإمام (ع) في سجنه بعد خمسة عشر سنة من سنيِّ ملكه(15)، وكان قد بقي في السجن مدَّة أربع سنوات حيث بدأ حبسُه في العشر الأواخر من شهر شوال سنة تسع وسبعين ومائة واستُشهد في سجن السندي بن شاهك في بغداد سنة ثلاث وثمانين ومائة للهجرة(16).

كانت الفترة التي اطلع فيها الإمام (ع) بدور الإمامة هي أشدُّ الفترات قسوةً على أهل البيت (ع) وشيعتهم إبَّان العصر العباسي حيث إنَّ الدولة العباسية قد بلغت في هذه المرحلة أوجَ قوَّتها فكانت حينذاك تبسط هيمنتها على شرق البلاد الإسلامية وغربها فكان نفوذها يتَّصل بتخوم أوروبا والكثير من بلاد أفريقيا وقارَّة آسيا.

ففي هذه المرحلة لم يكن يُؤرِّقهم من شيءٍ سوى الشيعة والثورات العلويَّة التي كانت تخرج عليهم بين فينةٍ وأخرى، وكان المتَّهم الأكبر بتمويلهم وتحريضهم هو الإمام الكاظم (ع) نظراً لكونه أكثر العلويين وجاهةً وأتباعاً، فقد كانت قواعده الشعبية منتشرة في شرق البلاد الإسلامية وغربها خصوصاً في العراق وفي خراسان، وهما أهم الحواضر الإسلامية آنذاك، وكانت تُجبى إليه الأموال والأخماس من كلِّ مكان، وكان له وكلاء في الكثير الحواضر الإسلامية حتى أنَّ العديد من الوشاة كانوا يقولون لهارون الرشيد إنَّ في البلاد الإسلامية خليفتين أحدهما في العراق والآخر في الحجاز وهو الإمام موسى بن جعفر (ع)(17).

وقد سُجن الإمام (ع) في هذه المرحلة مراتٍ عديدة إلا أنَّ سجنه لم يكن يطول، وقد بذل هارون جهوداً حثيثة في سبيل اغتيال الإمام (ع) إلا أنَّ محاولاته كانت تبوءُ بالفشل تارةً بشكل اِعجازي(18).

وأخرى بتمنُّع القادة السياسيين من إنفاذ أوامر الرشيد كما حدث ذلك حين أمر عيسى بن جعفر العباسي واليه على البصرة(19)، وكذلك حينما أمر الفضل بن الربيع وبعده الفضل بن يحيى البرمكي حيث امتنع أشدَّ الامتناع وهدَّد بإطلاق سراح الإمام (ع) إنْ لم يُخرجه من عهدته، وحينما غضب هارون تدخل البرامكة -الذين كان لهم نفوذ واسع في الدولة العباسية آنذاك- لدرء ما كاد يقع من فتنة(20).

بعد ذلك أُخذ الإمام (ع) إلى سجن السندي بن شاهك أحد وزراء هارون الرشيد، وكان رجلاً غشوماً شديد النُصب والعداء لأهل البيت (ع) وفي سجنه تمَّت تصفيةُ الإمام (ع) بالسُم بعد أنْ كان قد ضيَّق عليه أشدَّ التضييق، وحبسه في طامورةٍ مظلمة وكبَّله بأغلالٍ تزنُ تسعةَ أرطال، فكان يصلَّي وينام حين ينام بها(21).

وكان قبل فترة سجنه كثيراً ما كانت داره تُكبسُ ويتمُّ تفتيشُها وسلب ما كان فيها حتى بلغ الأمر أنَّ أحد قادة الرشيد أشعل النار في دار الإمام (ع) لإفزاعه ثم أصرَّ على تمكين جنوده من سلب العلويات وبعد أنْ أبى الإمام (ع) ذلك قَبِل من الإمام (ع) أنْ يقوم بجمع كلِّ ما كان عليهنَّ من حُليٍّ بل ومقانع.

وفي هذه المرحلة امتئلت سجون العباسيين من الشيعة والعلويين، وبين الفينة والأخرى يقومون بتصفية العديد منهم حتى أنَّ حميد بن قحطبة أحد القادة العسكريين ذكر أنَّه قتل من السجناء في ليلةٍ واحدة ستين علوياً بين شابٍ وكهلٍ وشيخ(22).

الأدوار التي اطَّلع بها الإمام (ع):

امتدَّ زمنُ إمامة الإمام الكاظم (ع) إلى خمسٍ وثلاثين سنة(23) كان يمارسُ فيه دور التهذيب والتربية للأمُّة، فكان وعظُه وإرشاداته وحكمه التي كان يُلقيها في مجلسه وفي المسجد النبوي وفي المحافل التي كان يحضرها وفي موسم الحج تجدُ صدىً واسعاً في الحواضر الإسلامية بعد أنْ يتناقلها الركبان والمسافرون ويبثُّها وكلاؤه وتلامذتُه الذين كان لهم حضورٌ واسع في عموم البلاد الإسلامية.

كما انَّه احتضن بعد رحيل أبيه (ع) تلامذته الذين كان عددهم يربو على الأربعة آلاف رجل فكان (ع) يُملي عليهم التفسير والفقه وأصول المعارف الإسلامية، فكانوا يدوِّنون ما يسمعونه منه في الفقه والعقيدة والسيرة والسنن والآداب والتفسير والحكم والمواعظ.

حتى روى ابن طاووس بسنده انَّ أصحاب الإمام الكاظم (ع) كانوا يحضرون مجلسه ومعهم في أكمامهم ألواح آبنوس فإذا نطق بكلمةٍ أو أفتى في نازلة بادروا إلى تسجيل ذلك.

ثم إنَّ المرحلة التي اطلع فيها الإمام (ع) بدور الإمامة تميَّزت بظهور الكثير من المذاهب الفقهية والمذاهب الكلامية.

فثمة مدرسة الرأي التي كان لها حضورٌ واسع في العراق ومدرسة الحديث ومدارس أخرى في الفقه وسطاً بين هاتين المدرستين، وكذلك كان للمذاهب الكلامية رواجٌ واسع كمذهب المعتزلة والحشويَّة والمرجئة والقدريَّة وغيرهم.

وقد تصدَّى الإمام (ع) لتحصين قواعده من آثار هذه المذاهب كما تصدَّى هو وتلامذتُه لمناظرة روَّاد هذه المذاهب في مجلسه تارةً وعلى ملأٍ من الناس أو العلماء تارةً أخرى، وقد كان بعضهم يعترف له بخطئه، ويُحجم الآخرون عن مقارعة حججه وبيِّاناته.

وفي هذه المرحلة ونظرًا لدخول الكثير من الشعوب تحت نفوذ الدولة الإسلامية انتشرت في الوسط الإسلامي الكثير من الشبهات الإلحادية والأفكار المناوئة للدين الإسلامي فتصدَّى الإمام (ع) وتلامذته لمعالجة هذه الشبهات وتفنيد ما كان يُعدُّ من المعضلات الفكريَّة والعقائديَّة، وقد وصلت لنا العديد من مناظراته وإجاباته وأحاديثه في ذلك.

هذا ما يتَّصل بدوره الفكري والتوعوي والذي استطاع من خلاله التعريف بالرؤية الصحيحة والناصعة للدين الإسلامي والمذهبِ الحقِّ.

وأمَّا ما يتصل بدوره السياسي فقد اتَّخذ أسلوب القطيعة مع الدولة ليؤصِّل لما بدأ في تأصيله أئمة أهل البيت (ع) الذين سبقوه حيث إنَّ الدولة الأمويَّة وكذلك العباسيَّة بذلتا جهوداً مضنيةً لغرض إقناع الأُمَّة بأنَّ الإسلام مُمثَّلٌ فيهم وأنَّ ما يُروِّجون له وما يمارسونه هو الإسلام الحقيقي إلا أنَّ قطيعة أهل البيت (ع) فوَّت عليهم هذا الغرض، وذلك نظرًا لما يُمثله أهلُ البيت (ع) في وجدان المجتمع الإسلامي، فقطيعتهم للسلطة يُعدُّ تعبيرًا صارخًا في وعي المجتمع الإسلامي عن انحراف هذه السلطة عن الإسلام.

ثم إنَّ الإمام (ع) كان يحرص على التعريف بالإمامة وموقعها في الاسلام والمَلَكات التي يجب أنْ يتوفَّر عليها الامام، والشروط التي وضعها الاسلام ونصَّ عليها الرسول (ص) فيمَن له أهليَّة الامامة والريادة للأمة. وكان بذلك يؤصِّل لمفهوم الإمامة الشرعيَّة المستفادة من القرآن الكريم والسنة النبويَّة. وذلك ما ساهم إلى حدٍّ كبير في بلورة مذهب أهل البيت (ع).

قرار السجن والتصفية للإمام (ع):

تردَّدتْ السلطة كثيراً وتأنَّت طويلاً حتى قرَّرت سجن الإمام (ع) ثم تصفيته، فكانت كلَّما أودعته السجن أطلقته حتى أُثِر عن هارون القول (أما في موسى حيلة)(24).

ففي الوقت الذي ترى فيه الأثر الخطير لوجود الإمام (ع) على سلطانها نظراً لسعة نفوذه المعنوي ودوره الذي كان آخذاً في التنامي، فلم يكد وضع السلطة يستقر فيما يتَّصل بشؤونها الخارجيَّة وكذلك الداخليَّة بعد تصفية الحركات المناوئة لهم من الأمويين والخوارج على يد أبي جعفر المنصور، وقد بذلوا جهوداً من أجل أن يُضفوا الشرعيَّة على سلطانهم على خلفيَّة بطش الأمويين وظلمهم وعلى خلفية دعواهم السعي من أجل الرضا من آل محمد (ص) حتى بدأ الإمام الكاظم (ع) تعريتهم فاستشعروا نقمةَ الناس عليهم بعد أنْ كشف الإمام (ع) واقعهم وأنَّهم لا يقصرون عمَّن سبقهم ظلماً وعدواناً وبطشاً وترفاً وانحرافاً وتحكُّماً بمقدَّرات الأمة.

فثمة بقيةٌ حرصت السلطة العباسيَّة على التدثُّر بها لكيلا تظهَر في مظهر المناوئة لرسول الله (ص) من خلال البطش الصريح برائد البيت النبويِّ، فكانوا يُدارونه في أول الأمر إلا أنَّه أعيتهم الحيلةُ معه فسجنوه وأطلقوه وكبسوا داره ثم تظاهروا بإكرامه وتكرَّر ذلك منهم مراراً ثم استقرَّ رأيُهم على تصفيته بعد حبسه الأخير، فما عاد لإيهامهم وتضليلهم للأمة من أثرٍ يُذكر، فقد فشلوا فشلاً ذريعاً في تمريره، فما كان عليهم الا أنْ يتحفَّظوا على سلطانهم وإنْ ادَّى ذلك إلى الجأر بالمحاربة للرسول الكريم (ص).

سعي السلطة لتضليل الرأي العام:

ثم وبعد أنْ قتلوا الإمام (ع) جمَع هارونُ وجهاءَ المسلمين من الفقهاء والأعيان وشيوخ الطالبيين فكانوا ثمانين أو ينيفون فأبدَى لهم ندَمَه على سجنِ الإمام (ع) واستغفر ممَّا كان منه تِّجاه الإمام (ع) إلا أنَّه تنكَّر لقتله وادَّعى أنَّه مات حتفَ أنفِه(25).

وقد سبَقه إلى ذلك السندي بن شاهك، فقد جمع من فقهاء العراق ما ينيفُ على ثمانين رجلاً وأدخلهم السجن الذي كان فيه الإمام (ع) وقال لهم: انظروا إليه فليس من أثرِ سيفٍ أو خدشٍ في جسده، وكان ذلك منه بعد أنْ دسَّ إليه السم، وكان الإمام (ع) حينها موعوكاً فالتفت إليهم وأخبرّهم أنَّه قد سُقيَ السم وانَّه ميِّتٌ قريباً فأسُقطَ في يد السندي بن شاهك وأخذتْه رِعدةٌ كما ذكر المؤرِّخون واضطرب اضطراباً شديداً(26).

ثم إنَّه فعل ذلك بعد أنْ استُشهد الإمام (ع) فكان منه أنْ كشف أمام الناس عن وجه الإمام (ع) وشيءٍ من جسده وادَّعى لهم أنَّه مات حتفَ أنفِه إلا أنَّهم أو بعضهم تعرَّف على أنَّه مات مسموماً وذلك لما وجدوه على جسدِه الطاهر من آثار السُّم.(27).

وكان آخرُ تضليلٍ للناس عمِلت عليه السلطة العباسيَّة هو ما تصنَّع به الأمير سليمان بن أبي جعفر المنصور العباسي، فقد بعث برجاله إلى جنازة الإمام (ع) وأمرَهم أنْ يأخذوها من رجال السندي بن شاهك بعد أنْ يضربوهم ويمزِّقوا ثيابَهم ثم أبدى للناس غضبَه على السندي بن شاهك وأوحى إليهم أنَّ ما فعله لم يكن بأمرٍ من السلطة العباسية ثم أكرم جنازة الإمام (ع) وأذِن للناس في تشييعها وخرج هو حافياً يمشي خلفها بعد أن شقَّ جيبَه وأظهرَ الجزع على الإمام (ع)(28).

ثم إنَّ الإمام الرضا (ع) حضر بشكلٍ إعجازي من المدينة إلى تجهيز أبيه وتولَّى هو شأن تغسيله، فكانَ العباسيون يرونه ويتظاهرونَ بعدم معرفته، فكان -كما أفاد الإمام الرضا (ع)- مثلُهم مثل أخوةِ يوسف: ﴿فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ﴾(29).

المثوى الأخير:

ثم حُمل الإمام (ع) في تشييعٍ مهيبٍ لم تشهدْ بغدادُ مثلَه جلالاً وهيبةً ووقاراً وحضوراً، فكانت الواعيةُ من النساء وهديرُ الحناجر بالتهليل من الرجال بعد أنْ ألقوا عمائمهم وترجَّلوا حفاةً إلى مقبرة قريش حيثُ المثوى الأخيرُ للجثمانِ المطَّهر الزكي في محضرٍ من ملائكة الله الصافِّين وأوليائه المكرَّمين فإنا لله وإنا إليه راجعون.

اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآل محمد واغفر لعبادك المؤمنين

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ/ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ/ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾(30).

والحمد لله ربِّ العالمين

 

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

25 من رجب المرجَّب 1444هـ - الموافق 17 فبراير 2023م

جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز


1- سورة التوبة / 119.

2- الكافي -الكليني- ج1 / ص476.

3- الكافي -الكليني- ج1 / ص477

4- الكافي -الكليني- ج1 / ص310.

5- كمال الدين وتمام النعمة -الصدوق- ص334.

6- الكافي -الكليني- ج1 / ص310.

7- الكافي -الكليني- ج1 / ص484.

8- بحار الأنوار -المجلسي- ج99 / ص17.

9- عيون أخبار الرضا (ع) -الصدوق- ج1 / ص98، الإرشاد -المفيد- ج2 / ص240.

10- قرب الاسناد -الحميري القمي- ص310.

11- سورة الأعراف / 145.

12- تفسير العياشي -محمد بن مسعود العياشي- ج2 / ص29.

13-الغيبة -الطوسي- ص25.

14- تاريخ بغداد -الخطيب البغدادي- ج13 / ص33، سير أعلام النبلاء -الذهبي- ج6 / ص273، الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج6 / ص164.

15-عيون أخبار الرضا-الصدوق- ج1 / ص92.

16-الكافي -الكليني- ج1 / ص476، عيون أخبار الرضا (ع) -الصدوق- ج1 / ص96.

17- الكافي -الكليني- ج1 / ص485، عيون أخبار الرضا (ع) -الصدوق- ص72.

18- عيون أخبار الرضا- الصدوق- ج1 / ص74، 75، 77.

19- الإرشاد -المفيد- ج2 / ص240.

20- الإرشاد -المفيد- ج2 / ص240، روضة الواعظين- الفتال النيسابوري- ص219.

21- الغيبة -الطوسي- ص25.

22- عيون أخبار الرضا (ع) -الصدوق- ج1 / ص101.

23- الكافي -الكليني- ج1 / ص476، الإرشاد -المفيد- ج2 / ص215.

24- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج48 / ص224.

25- عيون أخبار الرضا (ع) -الصدوق- ج1 / ص97، كمال الدين وتمام النعمة- الصدوق- ص39.

26- عيون أخبار الرضا (ع) -الشيخ الصدوق- ج2 / ص91، الكافي -الكليني- ج1 / ص259، الأمالي- الصدوق- ص213، الإرشاد -المفيد- ج2 / ص242.

27- الإرشاد -المفيد- ج2 / ص242.

28- عيون أخبار الرضا (ع) -الصدوق- ج1 / ص93، كمال الدين وتمام النعمة -الصدوق- ص39.

29- عيون أخبار الرضا (ع) -الصدوق- ج1 / ص96,

30- سورة الكوثر / 1-3.