الغاية من الاحتفال بمواليد الأئمة (ع)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، اللّهُمَّ أَنْتَ مُتَعالِي المَكانِ عَظِيمُ الجَبَروتِ، شَدِيدُ المِحال غَنِيُّ عَنِ الخَلائِقِ، عَرِيضُ الكِبْرِياءِ، قادِرٌ عَلى ما تَشاءُ، قَرِيبُ الرَّحْمَةِ صادِقُ الوَعْدِ، سابِغُ النِّعْمَةِ حَسَنُ البَلاِء، قَرِيبٌ إِذا دُعِيتَ، مُحيطٌ بِما خَلَقْتَ، قابِلُ التَّوْبَةِ لِمَنْ تابَ إِلَيْكَ، قادِرٌ عَلى ما أَرَدْتَ، وَمُدْرِكٌ ما طَلَبْتَ، وَشَكُورٌ إِذا شُكِرْتَ وَذَكُورٌ إِذا ذُكِرْتَ، اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ شَجَرَةِ النُّبُوَّةِ وَمَوْضِعِ الرِّسالَةِ وَمُخْتَلَفِ المَلائِكَةِ وَمَعْدِنِ العِلْمِ وَأَهْلِ بَيْتِ الوَحْيِ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه (ص).
أُوصِيكم بِتَقْوَى اللَّه فَإِنَّ اللَّه قَدْ ضَمِنَ لِمَنِ اتَّقَاه أَنْ يُحَوِّلَه عَمَّا يَكْرَه إِلَى مَا يُحِبُّ ويَرْزُقَه مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَخَافُ عَلَى الْعِبَادِ مِنْ ذُنُوبِهِمْ ويَأْمَنُ الْعُقُوبَةَ مِنْ ذَنْبِه، فَإِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ لَا يُخْدَعُ عَنْ جَنَّتِه ولَا يُنَالُ مَا عِنْدَه إِلَّا بِطَاعَتِه.
أبارك لكم أيُّها المؤمنون ذكرى مولد سبطِ الرسول (ص) وريحانتِه وسيد شباب أهل الجنَّة الإمام الحسين بن عليٍّ (ع) وكذلك أبارك لكم ذكرى مولد الإمام عليِّ بن الحسين (ع) زين العابدين وسيد الساجدين ومولد السيد العباس بن عليٍّ بطل كربلاء الأول والذي أثنى عليه أبو عبد الله الصادق (ع) كما في المأثور بقوله: "كان عمُّنا العبّاس نافذَ البصيرة، صلبَ الإيمان، جاهدَ مع أبي عبد الله (ع) وأبلى بلاءً حسناً، ومضى شهيداً"(1) وقال عنه الإمامُ زينُ العابدين كما في الخصال: ".. إنَّ للعباسِ عند اللهِ تبارك وتعالى منزلةً يغبطُه بها جميعُ الشهداءِ يومَ القيامة"(2).
أبارك لكم هذه الأيام المباركات من شهر شعبان شهر النبيِّ الكريم (ص) وأستثمرُ هذه المناسبات للحديث حول الاحتفال والاحتفاء ومظاهرِ البهجة والفرح التي يحرصُ المؤمنون على إظهارها في مثل هذه المناسبات فإنَّه لا ريبَ في حُسنها ورُجحانها لأنَّها تقعُ في سياق الإحياء لأمر أهل البيت (ع) وهو أمرٌ قد ندبت إليه الروايات وأفادت أنَّ "شيعتنا منَّا، خُلقوا من فاضلِ طينتنا، وعُجنوا بماء ولايتنا"(4)، "يحزنون لحزننا ويفرحون لفرحنا"(3)، وورد عن الصادقينَ (ع) قولُهم: "أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا"(5).
فأمرُ أهلِ البيت (ع) الذي أوصت الرواياتُ المأثورة عنهم بإحيائه هو معالمُ الدين الاسلامي الذي يُعرَفُ من طريقِهم في مقابل ما يتداولُه الناسُ من غير طريقِهم، ذلك لانَّ طريقَهم هو وحدَه الذي لم يشُبْه انحرافاً أو تجاوزاً عمَّا جاء به القرآنُ المجيدُ وسنةُ النبيِّ الكريم (ص).
وعليه فكلُّ ما ثبتَ عنهم من تفسيرٍ للقرآن أو بيانٍ لأُصول العقيدة وتفاصيلِ الأحكام الشرعيَّة، وما أُثر عنهم من إيضاحٍ لقيم الدين وتوصياته ومواعظِه، كلُّ ذلك يكون تناولُه وتأصيلُه وترويجُه داخلاً في سياق الإحياء لأمرِ أهل البيت (ع).
وكذلك فإنَّ عقدَ المجالس التي يُستعرَضُ فيها مآثرُ أهل البيت (ع) وسِيَرُهم ومكارمُ أخلاقِهم، والمجالسِ التي تُعقدُ ليُستعرَضَ فيها البراهينُ والحُججُ المقتضية لتعيُّن أخذ الدين عنهم، والمجالسِ التي تُعقدُ ليُستعرَضَ فيها ما يُنتِجُ التوثيق للعلاقةِ والصلةِ بهم ليكون ذلك طريقًا لأخذ الدينِ عنهم والتمثُّل بسجاياهم ومحاسنِ خصالِهم، كُّل ذلك يقعُ في سياق الإحياء لأمرهم.
وكذلك فإنَّ استحضارَ ذكريات مواليدِهم ووفياتِهم وعقدَ المجالس لذلك واستثمارَها لأجل تأصيل الولاء لهم وتوثيقِ الصلة بهم من خلال استعراض مآثرهم ومناقبهِم والظلامات التي وقعت عليهم، واستثمارها كذلك لنشر أُصول العقيدة وقيمِ الدين ومبادئه التي ناضلوا من أجل ترسيخِها في وجدانِ الأُمة، كلُّ ذلك يقعُ في دائرة الإحياء لأمر أهل البيت (ع).
وهكذا فإنَّ الاحتفال والتعبير عن الابتهاج بالوسائل العقلائيَّة والمشروعة يقع في هذا السياق، ولذلك جرت سيرةُ المؤمنين من الشيعة ومنذُ عصورٍ متقدِّمة على إحياء هذه الذكريات المباركة.
ومظاهرُ الإحياء وإنْ اختلفت صورُها باختلاف الزمان والمكان إلا أنَّها بقيت في سياقٍ واحدٍ تستهدفُ التوثيقَ للصلة بين أهل البيت (ع) وبين شيعتهم، وتُعبِّر عن تمسُّكها وولائها لهذه الصفوة من أولياء الله تعالى، وتستوحي من ذكرياتهم السجايا النبيلة والأخلاق الفاضلة التي كان عليها أهلُ البيت (ع) وعلى ذلك نربِّي ناشئتنا وصغارنا فإذا ما كبروا كبرت في جوانحِهم معاني الفضيلة، وتجذَّرت في قلوبهم أغصانُ العشق والولاءِ لأصفياء الله ونجبائه (ع).
فكلُّ مظاهر الإحياء لمواليد الأئمة (ع) تقعُ في دائرة الإحياء لأمر أهلَ البيت (ع) والذي هو إحياءٌ لأمر الله تعالى ودينِه، ولذلك فهي من مواطن الرضا لله جلَّ وعلا شريطةَ أنْ يكون ذلك في إطار الضوابط الشرعيّة والأهدافِ السامية لأهل البيت (ع) إذ لا يُطاع اللهُ تعالى من حيثُ يُعصى.
توصيات وتنبيهات:
وانطلاقًا من ذلك أرى من المناسب التنبيهَ على عددٍ من الأمور:
الأمر الأوّل: ينبغي أنْ لا يستخفَّ بنا الفرحُ فنغفلُ عن أهدافنا التي أشرنا إليها آنفًا، وهي أنْ تكون احتفالاتنا وسيلةً لتوثيق الصلة بأهلِ البيت (ع) وبمكارم أخلاقهم ووسيلةً لتعزيز الصلةِ بقيم الدين ومبادئه، وأنْ يكون ذلك في إطار الانضباط بضوابط الدين وآدابِه والسُنن التي سنَّها الرسولُ الكريم (ص) فينبغي للشعراء والمنشدين أنْ لا يستغرقوا في نظم وأداء المعاني التي تبتعدُ بالمتلقِّي عن هذه الغاية، وكذلك الخطباء الكرام ينبغي لهم أنْ يختاروا مِن الألفاظ والمعاني والألحان ما يتناسبُ مع الغاية من الاحتفالات وأنْ يتحاشَوا المعاني والألفاظَ المبتذَلة والمنافيةَ لوقار هذه المناسبات وسموِّ الغاية من إحيائها.
الأمر الثاني: ينبغي أنْ نُراقبَ وبشكلٍ دائم كلَّ ممارساتنا وأفعالِنا حتى لا نتوّرطَ بمخالفةٍ شرعيّة تُحوِّل طاعتَنا إلى معصية، فينبغي أنْ لا يستخفَّ بنا الفرحُ فنشطَّ عن الغرضِ من الإحياء ونتجاوز دائرة السُنن والآداب التي أدَّبنا بها الرسولُ الكريم (ص) وأهلُ بيته (ع) فالاحتفالاتُ بمواليد الأئمة (ع) ليست مهرجاناتٍ شعبيَّة بل هي احتفالاتٌ دينيَّة لذلك يتعيَّن الانضباط فيها بضوابط الدين وآدابه وسُننِه. ولهذا يتعيَّنُ على المؤمنين والعلماء والخطباء المبادرةُ إلى تصحيح أيِّ خطأ يتفقُ وقوعُه وأيِّ تجاوزٍ لحدودِ الله تعالى يتفقُ للبعض مقارفته، فلا ينبغي التغاضي عن ذلك فيستفحل ويصعب حينذاكَ تداركُه، نعم ينبغي أنْ تكون المعالجةُ بالحكمة والموعظةِ الحسنة ولكن دون مواربة.
الأمر الثالث: إنَّ الاحتفالَ بمواليد الأئمة (ع) وإبداءَ البهجة والسرور لذلك أمرٌ مشروع وراجحٌ لمطلق الرجال والنساء، إلا أنَّ لكلٍ محفلَهُ، فمِن غير اللائق أنْ تأتي النساء لمحافلِ الرجال ومحالِّ تجمُّعِهم، فإنَّ ذلك ممَّا لا يرضاه أهلُ البيت (ع).
فما يفعلُه بعضُ النساء من الذهابِ إلى محافل الرجال في الطرقات لتناولِ الحلوى وتبادلِ التبريكات أمرٌ منافٍ لتوصيات أهل البيت (ع) حتى وإن كانت النساء في كاملِ حجابِهن وحشمتهن، إذ ما مِن موضع يجتمع فيه الرجال والنساء إلا وكان الشيطانُ بينهم. وهذه الحالة وإنْ لم تكن رائجة إلا أنَّنا نخشى من رواجِها عند مَن يتساهلُ في الدين. كما أنَّ ما يفعلُه بعضُ الأخوة الأعزاء من إيقاف السيارات لتقديم الحلوى لأصحابِها حتى وإنْ كنَّ نساءً أمرٌ منافٍ لتوصياتِ أهلِ البيت (ع) خصوصًا وأنَّ ذلك قد يتمُّ مع تبادلِ التحيَّات والابتسامات، وتلك هي حبائلُ الشيطان التي يصطادُ بها فرائسَه، وقد يندسُّ بين المؤمنين من لا حريجة له في الدينَ فيستثمر هذه الفرصة لأغراضه الدنيئة، فنكون قد ساهمنا في أنْ يُعصى اللهَ تعالى من حيثُ لا نشعر. فإذا كنَّا لا نتمكنُ من ضبط هذا الأمر فعلينا أن نُلغيَ هذا النوع من التعبير عن الفرح ونبحثُ عن وسيلةٍ أُخرى نكونُ معها قادرينَ على التحفُّظ على الموازينِ الشرعيّة والأخلاقية.
وكذلك فإنَّ الأُسَر التي تبعثُ بالعاملات مع أطفالهم ليجوبون بهم البيوت ينبغي لهم الحرصُ على أن تكون العاملات مرتدياتٍ للباسٍ محتشَم وأن يكنَّ بكامل حجابهنَّ ودون تزيُّن حرصاً على قدسية المناسبة ورعايةً للضوابط الشرعيَّة التي مَن تجاوزها كان مأثوماً مُحاسباً يوم القيامة. وكذلك ينبغي لمَن يفتحونَ بيوتهم لتوزيع الحلوى أنْ لا يأذنوا للأولاد الذكور البالغينَ بالدخول على النساء، وأنْ ترتديَ النساءُ في بيوتهن كاملَ ما يجبُ سترُه احتياطاً.
الأمر الرابع: إنَّ ما يفعلُه بعضُ الأخوة من فتح مكبِّرات الصوت في الطرقات ليُذاع منها أناشيد لهويَّة بعضه غير جائزٍ شرعًا وبعضُه غير لائقٍ بأتباع أهل البيت (ع) كما أنَّ الإنشاد بصوتٍ مرتفعٍ يصلُ إلى حدِّ الضجيج أمرٌ غير مناسبٍ أخلاقيًّا. فينبغي الرعايةُ لذلك والتواصي بين المؤمنين بالرعاية لذلك.
الأمر الخامس: لا ينبغي أنْ تشغلَنا مظاهرُ الفرح عن الهدف الأسمى من إحياء هذه المناسبات وهي التزوُّد من مكارم أخلاق أهل البيت (ع) والسعيُ الجادُّ من أجلِّ تمثُّلها، والوسيلةُ الأهمُّ لتحصيل ذلك -مضافاً إلى إحياء هذه الليالي والأيام بالعبادة والطاعات- هي الحضورُ لمجالس ذكر سِيرهم وما أُثر من كلماتِهم وغُررِ حِكَمِهم ومواعظِهم.
فإنَّ أجلى مصاديق الإحياء لأمر أهل البيت (ع) هو ما يكون تذاكرُه وتأصيلُه مُنتِجاً لحضور هذا الخطِّ ورموزه في ذاكرةِ ووجدان الامة، فإنَّ ذلك هو ما يضمنُ التجذُّر والامتداد لقيم الدين واُصولِه، فأهلُ البيت (ع) هم حبلُ الله المتَّصلُ بين السماء والارض، وهم العترةُ التي خلَّفها رسولُ الله (ص) في أُمَّته وأوصى بالتمسُّك بهم، وأفاد أنَّ الأمة لن تضلَّ بعده أبداً إنْ استمسكت بعُرى أهل البيت (ع).
ختاماً: ونظراً لقرب ذكرى المولد المبارك للإمام الحجَّة عجَّل اللهُ فرجَه الشريف يدعو الإخوةُ العلماء إلى اعتبار ما بين الثاني عشر من شهر شعبان إلى التاسع عشر منه موسماً مهدوياً تحت شعار القولِ المأثور عن أمير المؤمنين(ع): "فاتقوا البدع"(6) فالمؤمَّلُ من العلماءِ والخطباء والمثقفين والكتابِ والشعراء والمنشدين وعمومِ المؤمنين التفاعلُ الجادُ مع هذا الشعار ومع هذا الموسمِ الشريف كلٌّ من موقعِه.
اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآل محمد واغفر لعبادك المؤمنين
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ / وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا / فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾(7).
والحمد لله ربِّ العالمين
خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور
3 من شعبان المعظَّم 1444هـ - الموافق 24 فبراير 2023م
جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز
1- عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب -ابن عنبة- ص356.
2- الخصال -الصدوق- ص68، الأمالي -الصدوق- ص548.
3- روضة الوعظين -النيسابوري- ص296.
4- الخصال -الصدوق- ص635.
5- ثواب الأعمال -الصدوق- ص187، وسائل الشيعة- الحر العاملي- ج12 / ص20.
6- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج16 / ص175.
7- سورة النصر / 1-3.