شبهاتٌ مُثارة حول سورةِ الفيل -1

أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين، أَنْتَ الله لا رافِعَ لِما وَضَعْتَ، وَلا واضِعَ لِما رَفَعْتَ، وَلا مُعِزَّ لِمَنْ أَذْلَلْتَ، وَلا مُذِلَّ لِمَنْ أَعْزَزْتَ، وَلا مانِعَ لِما أَعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِيَ لِما مَنَعْتَ، وَأَنْتَ الله لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ كُنْتَ إِذْ لَمْ تَكُنْ سَّماءٌ مَبْنِيَّةٌ، وَلا أَرْضٌ مَدْحِيَّةٌ، وَلا شَمْسٌ مُضِيئَةٌ، وَلا لَيْلٌ مُظْلِمٌ، وَلا نَهارٌ مُضِيٌ، كُنْتَ قَبْلَ كُلِّ شَيء، وَكَوَّنْتَ كُلَّ شَيْء، وَقَدَرْتَ عَلى كُلِّ شَيْء، وَابْتَدَعْتَ كُلَّ شَيْء، وَأَغْنَيْتَ وَأَفْقَرْتَ، وَأَمَتَّ وَأَحْيَيْتَ، وَأَضْحَكْتَ وَأَبْكَيْتَ وَعَلى العَرْشِ اسْتَوَيْتَ فَتَبارَكْتَ يا الله وَتَعالَيْتَ.

وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه، وأشهد أَنَّ مُحَمَّداً (ص) عَبْدُه ورَسُولُه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا / يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾(1).

يقولُ اللهُ تعالى في محكمِ كتابِه المجيد: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ / أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ / وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ / تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ / فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾(2).

السورةُ المباركة تُوثِّق لقضيةٍ تُعدُّ من المعجزات الباهرة التي وقعت في عهدٍ قريب من المبعثِ النبويِّ الشريف، فكانت بمشهدٍ حسيٍّ من أكثر مَن بُعث إليهم النبيُّ الكريم (ص) فكان أكثرُ مَن أدرك المبعثَ النبويَّ قد شهد الواقعةَ شهودَ وجدان ورآها رأيَ عين أو بلغته متواترةً لا يشوبها شكٌّ ولا يعتريها لبْس، ولهذا لم يعترضْ على النبيِّ (ص) من أحدٍ حين تلاها قرآناً بل تلقَّوا ذلك بالإذعانِ والتصديق، وذلك وحده كافٍ للتثبُّت من وقوع الحادثة، إذ لو كان يسعُهم التكذيب لفعلوا، فقد كانوا في خصومةٍ فاجرة وطاغية، وكان القرآنُ يتحدَّث عن واقعةٍ شهدوها أو هي قريبةٌ من عهدِهم، فكان لهم أنْ يقولوا ما شهدنا ذلك وما سمِعنا به إلا أنَّهم لم يفعلوا، ذلك لأنَّ ثبوتَ الواقعة من الرسوخِ بمستوى لم يكن يسعُهم التنكُّر لحدوثِها وأنَّها من خوارقِ العادات التي لا يتًّفقُ وقوعُها دون تدخُّلٍ مباشرٍ من قِبَل العنايةِ الإلهيَّة.

واقعة الفيل من المعجزاتِ الباهرة:

أمَّا أنَّها من الخوارقِ والمعجزات الباهرة فلأنَّه كيف يتَّفقُ لجيشٍ قِوامُه عشرةُ آلافٍ يقلُّ أو يزيد تهزمُه أسرابُ طيورٍ لم تشهد العربُ نظيراً لها ولم تعرف هويتها، تحملُ بين مخالبِها وفي مناقيرها حجارةً تقذفُ بها جيشاً فتُصيِّر منه جُثثاً هامدةً متناثرةَ الأشلاء والأوصال، فكيف لحجارةٍ صغيرة تُحمَل بمنقار طيرٍ وبين مخالبه أنْ يكون لها هذا الأثرُ الفظيع، تخترقُ الجسد ثم يكونُ من فعلِها تبديدُ أوصالِه وتمزيقُ لحمِه وتهشيمُ عظامِه فيُصبحُ كعصفٍ مأكول أي كزرعٍ مضغته الأضراسُ أو راثتْه البهائم.

ثم إنَّه كيف لطيورٍ لا تعقِل أنْ تقصُدَ بحجارتِها ذلك الجيشَ بالتحديد فلا يُصيبُ من حجارتها أحداً من غيره، فلم يتحدَّث العربُ عن أحدٍ منهم قد أصابَه شيءٌ من حجارتها رغم أنَّ قريشاً والعديدَ من قبائل العرب -بنسائهم وأطفالهم- قد خرجوا إلى أعالي الجبال وسفوحها حذراً من مقارعة الجيش الذي جاء لهدم الكعبة، فكيف لم يُصِب أحداً منهم شيءٌ من تلك الحجارة رغم أنَّهم كانوا في ذاتِ الدائرة المستهدَفة من قِبَل أسرابِ تلك الطيور؟

ألا يكشفُ ذلك بما يَدعُ مجالاً للشك عن أنَّ هذه الطيور مرسَلةٌ من قبل الله تعالى لمهمَّةٍ خاصَّة وجماعةٍ محدَّدة كما قال تعالى: ﴿وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ / تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ / فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ فكيف لم تُخطأ هذه الطيور فترمي بحجارتها من تُصادفُه؟! إنَّه فعلُ اللهِ وحده وقع نكالاً بجماعةٍ محدَّدة كما قال جلَّ وعلا: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾ فهو فعل الله تعالى بأصحاب الفيل حصراً، والطيور جُندُه سخَّرها لهذه الغاية: ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾(3).

وثمة شبهاتٌ أُثيرت حول هذه الواقعة وحولَ هذه السورة نستعرضُ الأهمَّ منها ونُجيب عليها بإيجازٍ شديد:

كيف أُتيح لأبرهةَ تعبأة هذا العدد من الفيَّلة:

الشبهة الأولى: إنَّ هذه القضيةَ غيرُ قابلةٍ للتصديق، وذلك أولاً لأنَّ الفيَلة لا تعيش إلا في البلاد الاستوائية التي يكثرُ فيها المطرُ والعشبُ، وأمأ الجزيرةُ العربيَّة فنظراً لشدَّة حرارةِ مناخِها وقلَّة أمطارِها وشحَّةِ الزروع والأعشاب فيها لذلك لا يُمكن أنْ تعيش الفيلةُ فيها، وكذلك فإنَّ اليمنَ التي جاء منها أبرهةُ الحبشي وجيشُه ليست موطناً للفيلة، ولم يُعرَفْ في التأريخ أنَّ اليمن كانت يوماً ما موطناً للفيلة، ثم إنَّه كيف يُتاح لقائدٍ عسكري أياً كانت قوَّتُه وامكانياتُه أنْ يُعبأ جيشاً قوامُه عشرةُ آلاف فيلٍ إنْ ذلك غيرُ قابلٍ للتصديق بل قد لا يُتاح لقائدٍ حتى في مثل الظرف الراهن أنْ يُعبِّأ ألفاً من الفيلة فضلاً عن عشرة آلاف.

ثم إنَّه كيف أُتيح له تأمينُ الماءِ والطعام لهذا العدد الهائل من الفِيَلة كلَّ هذه المسافة الشاسعة التي تُقدَّر بمئاتِ الأميال وسط طُرق وعِرةٍ وقاحلةٍ وخاليةٍ من الأنهارِ والواحات وهو بحاجة في كلِّ يوم لكلِّ فيل إلى طعام وشراب يكفي لعشرةٍ من الجمال، ومعنى ذلك أنَّه بحاجة في كلِّ يومٍ إلى طعامٍ وشراب يكفي لعشرة آلاف جمل لو كان عدد الفيلة ألفاً، وأما لو كان عددهم عشرةُ آلاف فإنَّه يكونُ بحاجةٍ في كلِّ يومٍ إلى طعامٍ وشرابٍ يكفي لمائةِ ألفِ جمل، فإذا كان مسيرُه من اليمن إلى مكة يستغرقُ ثلاثةَ أشهرٍ فإنَّ عليه أنْ يحملَ من الطعام والشراب ما يكفي لتسعمائة ألف جمل فكيف يُتاحُ له حملُ هذا المقدار من الطعام؟ وكم مِن الجمال سيحتاج لحمل كلِّ هذا الطعام والماء من اليمن إلى مكَّة الشريفة، إنَّ هذه القضية غيرُ قابلة للتصديق؟!

لم يكن العدد كما توهَّم صاحبُ الشبهة:

والجواب عن هذه الشبهة هو أنَّها مبتنيةٌ على توهُّم أنَّ جيشَ ابرهة الذي جاء به لهدم الكعبة كان مكوَّناً من عشرة آلاف من الفيلة أو مِن ألفٍ أو ألفين مِن الفيلة، ولم يكن الأمرُ كذلك، فليس في شيءٍ من كُتبِ التاريخ الإسلامي أو كُتب الحديثِ والتفسير من ادَّعى ذلك، فالرواياتُ وكتبُ التأريخ وكذلك كتبُ التفسير التي تصدَّت لسردِ القصَّة وإنْ تفاوتت في تَعداد الفِيلة التي كانت في جيش أبرهة إلا أنَّها لم تتجاوزْ الإثني عشر فيلاً، فالمقلُّ من هذه المصادر أفاد بأنَّه لم يكن في جيش أبرهة سوى فيلٍ واحد، وأفاد بعضُها أنَّهما كانا فيلين، وذكر آخرون أنَّها كانت سبعة أو ثمانية، والمكثِر منهم لم يتجاوز الإثني عشر فيلاً(4) على أنَّه لم يثبت هذا العدد بطريقٍ معتبر، فالقدرُ المُحرَز أنَّه كان في جيش أبرهة فيلٌ واحد - وعلى ذلك أكثر الأخبار-  أو فيلان. ولو ادَّعى أحدٌ- شذوذاً- أنَّها ألف أو ما يقرب من ذلك فإنَّ دعواه لا تكون مقبولةً إلا أنَّ عدم القبول بذلك لا ينفي أصل الواقعة كما هو واضح.

على أنَّ القرآنَ لم يصفْ جيشَ أبرهة أنَّهم أصحابُ الفيلة، وإنَّما وصفَهم بأصحاب الفيل، وهذا الوصف يصدقُ حتى لو لم يكن في جيش أبرهة سوى فيلٍ واحد، فعنوانُ الفيل وإنْ كان من المُحتمل أنَّ المراد منه الجنسُ الصادقُ على عددٍ من الفيَلة إلا أنَّه لا طريقَ لإثبات دعوى أنَّ الفيلة كانت كثيرة، فقد لا يتجاوز عددها الواحد أو الثلاثة أو الخمسة، فهذا المقدار ودونَه يصدقُ معه وصف الجيش الذي يتقدَّمه هذا العدد من الفيلة أنَّهم أصحاب الفيل، ومن الواضح أنَّه لا يشقُّ على قائدٍ عسكري أنْ يصطحبَ معه هذا العدد من الفيلة فحتى لو كان العددُ يصلُ إلى اثني عشر فيلاً فإنَّ من الميسور تأمينُ طعام وشراب هذا العدد، فالاثنا عشر فيلا يحتاجون إلى طعام يكفي لمائةٍ وعشرين بعيراً وهذا العددُ من الجمال تُسيِّره الجيوشُ العربية في ذلك الزمن بيسرٍ كما هو أوضح من أنْ يخفى على مَن له أدنى معرفةٍ بأحوال العرب في ذلك الزمن.

ثم إنَّ ما ورد في الشبهة من أنَّ اليمن لم تكن موطناً للفيلة وإنْ كان صحيحاً إلا أنَّه أيُّ محذورٍ في أنْ يستقدمَ أبرهةُ الحبشي فيلةً من بلاد الحبشة، وقد كانت اليمن حينذاك تحت النفوذ الحبشي، وهو أساساً كان يحكمُ بلاد اليمن بالوكالة عن ملك الحبشة، فأيُّ محذورٍ في أنْ يَمدُّه ملكُ الحبشة بما يستظهرُ به ويستقوي به على أعدائه؟!

اصطحاب الفيل كان للتباهي وإثارة الذعر:

وأمَّا ما يُقال مِن أنَّه لماذا يصطحبُ أبرهةُ الحبشي معه فيلاً أو فيلة لهدم الكعبة والحال أنَّه يكفي لهدمها من أساسِها أنْ يكلِّف بذلك عشرةَ رجال من جيشه، فلماذا يتجشَّم عناء التسيير لفيلٍ أو فيلةٍ كلَّ هذه المسافة الشاسعة، ثم إنَّه لماذا يُسيِّر كلَّ هذا الجيش الذي قوامه كما قيل عشرة آلاف ولم يكن بحاجة إلى كلِّ هذا العدد لإنجاز هذه المهمَّة، فكان يكفيه أن يصطحب معه مائةً من الجند لإنجاز هذه المهمَّة، إذ لم يكن في قريش حينذاك مائةُ مقاتل؟

والجواب إنَّ اصطحابَه لفيلٍ أو فيلين لم يكن الغرضُ منه أنْ يهدمَ به أو بهما الكعبة فإنَّ فعل ذلك لا يحتاج إلى التوسُّل بالفيلة بل كان الغرض من ذلك هو التباهي والاستعراض للقوَّة وإدخال الذعر والرهبة والرعب في قلوب العرب وذلك باصطحاب ما يرمزُ لقوَّته وهي الفيلة، فاصطحابُ الفيل كان رمزياً تماماً كما تفعل الجيوش حين تصطحبُ معها ما تمتازُ به ويكفي احتمال أنَّ ذلك هو غرضُه لتفنيد هذا الإشكال.

مبرِّر التعبئة لجيشٍ كبير: 

وأمَّا لماذا سيَّر عشرةَ آلاف مقاتلٍ لهدم الكعبة فبقطع النظر عن تعداد الجيش الذي عبأهُ ابرهةُ لهدم الكعبة فإنَّ حاجته إلى تعبئة جيش كبير لا تكادُ تخفى، فإنَّه يسعى لتدمير بيتٍ تُقدِّسه كلُّ قبائل العرب منذُ مئات السنين بل ليس لها من مقدَّسٍ هو أعلى قدسيةً من بيت الله الحرام، لذلك فإنَّ على مَن يسعى لتدميره وهتكِ حرمته أنْ يضعَ في حسابه احتمالَ أنْ تثور قبائلُ العرب مجتمعةً للذود عن مقدَّسِهم، وهذا ما يبعثه على أن يحتاطَ لنفسه بتعبئةِ جيشٍ قادرٍ على مواجهة أيِّ احتمالٍ يطرأ، تلك هي مقتضياتُ الحكمةِ والتعقُّل الذي ليس من المقبول البناءُ على أنَّ قائدَ الجيش الحبشي ومستشاريه كانوا يفتقدون له، فكان عليه أنَّ يُعدَّ لهذه المهمة الخطِرة وغيرِ المسبوقة العُدَّة والعددَ الكافي لمواجهة الأخطار التي قد تعترض طريقَه لإنجازِ هذه المهمَّة، فلو قيل إنَّ تعداد الجيش كان عشرة آلاف أو أكثر أو أقل فإنَّ ذلك لا يكون مستغرَباً بعد الالتفات إلى موقع البيت الحرام في أفئدة قبائلِ العرب والالتفات إلى الأخطارِ المُحدقةِ بهذه المهمَّةِ غيرِ المسبوقة.

وأمَّا دعوى أنَّ قريشاً ليس لديها أكثر من مائة مقاتل فهي دعوى جزافية فقريشٌ استطاعت أنْ تعبِّأ في غضون أيام لاستنقاذ قافلة أبي سفيان من المسلمين قرابة الألف مقاتل واستطاعت أن تحزِّب من قبائل العرب قرابة العشرة آلاف مقاتل أحاطوا بمدينة الرسول (ص) ثم إنَّ السعي لهدم الكعبة لن يستثير قريشاً وحدها بل إنَّه سوف يستثير كلَّ قبائل العرب المنتشرة في عموم أرجاء الجزيرة العربية، فلم يكن أبرهةُ الحبشي أحمقاً حتى يبعثَ لهذه المهمة الخطِرة مائة أو مائتين فيقذفُ بهم في قلب الجزيرة العربية تتناوشهم ذئبانُ العرب وفرسانُها. فتعبئتُه لجيشٍ جرَّار هو المناسب عقلائياً لهذه المهمَّة الخطيرة.

لماذا لم يُؤرخ غيرُ المسلمين للواقعة:

الشبهة الثانية: إذا كانت هذه الواقعة الغريبة والفاقعة قد حدثتْ بالفعل فلماذا لم يُؤرِّخْ لها إلا المسلمون في قرآنِهم وكتبِهم؟ لماذا لم تُؤرخ الفرسُ والرومانُ لهذه الواقعة والحال أنَّهم قد أرَّخوا للكثير من الأحداث التي هي دونها في الأهميَّةِ والغرابة.

عدم تدوين غيرِ المسلمين للواقعة لا ينفي تواترها: 

والجواب أنَّه لو سلَّمنا أنَّ أحداً من مؤرِّخي الفرس والرومان وغيرِهم لم يُؤرِّخ لهذه الواقعة وهو ما لا يُمكن التثبُّت منه، إذ من أين لنا الجزمُ بأنَّ أحداً من مؤرِّخي الفرس والرومان لم يؤرخ لهذه الواقعة، وهل يتمكنُ أحدٌ من الجزم بأنَّ كلَّ كتبِ المؤرِّخين للحضارتين الفارسية والرومانية وغيرهما قد وصلت إلينا ولم يتلفْ منها شيءٌ والحال أنَّهم يتحدَّثون عن ضياع عشراتٍ بل مئاتِ المصنَّفات في مختلف العلوم جرَّاء الحروبِ والظروفِ المناخية وغيرِها إلا أنَّه لو سلَّمنا جدلاً أنَّه لم يُؤرِّخ لهذه الواقعة سوى العرب فإنَّ ذلك كافٍ للتثبُّت من وقوعِها، فإنَّ هذه الواقعةَ لم يختلفْ أحدٌ من العرب في حدوثِها، فكان العربُ على اختلاف قبائلهم ودياناتهم ومواقعِهم من الجزيرة العربية المتراميةِ الأطراف يؤرِّخون الأحداث بهذه الواقعة، فيُقال وقعَ ذلك بعد عامِ الفيل، ووقع ذلك قبلَ عامِ الفيل، فلم يكن ذلك مقتصراً على قريش والقبائلِ المحيطةِ بمكة، وكانت هذه الواقعةُ حاضرةً منذُ وقوعِها في أشعارِهم وأراجيزهم وخُطبِهم ومنتدياتِهم وكانت تتغنَّى بها القيانُ في مجالسِ الطرب ويتفاخرُ بها الوجهاءُ والزعماءُ في محافلِهم، فلم يكن يجهلُ بهذه الواقعة رجلٌ أو امرأة أو صبيٌّ أو حرٌّ أو عبد في عموم أرجاء الجزيرة العربيَّة، ولذلك سِيقت آياتُ سورة الفيل سَوقَ المسلَّمات دون أنْ يجرءَ من أحدٍ على التنكُّر لوقوعِها أو الدعوى بأنَّه لم يسمع بها، فقضيةٌ بلغتْ من التواتر هذا الحدَّ لا تكونُ بحاجةٍ إلى أنْ يُؤرِّخَ لها رجلٌ أجنبيٌّ عن أرض الجزيرة وإلا لو كان البناءُ هو عدمَ القبول بحدوث واقعةٍ إلا بعد أن يُؤرِّخ لها الآخرون فإنَّ مقتضى ذلك هو التشكيك في مجملِ الأحداثِ الكبرى التي وقعت في تاريخ الإسلام، فيُمكنُ بناءً على ذلك التشكيك في واقعة كربلاء ومقتل عثمان وحرب صفين والجمل وغيرها من الوقائع الداخليَّة، فإنَّ من غير المُحرَز أنَّ الكثير منها قد تمَّ توثيقه من قبل المؤرِّخين الأجانب رغم أنَّه لا يسعُ من أحدٍ يحترمُ عقلَه أن يتنكر لوقوعِها في قلبِ الجزيرة العربية.

فقضيةٌ وقعت في قلب الجزيرة العربيَّة ليس من الضروري أن تسترعيَ اهتمام المؤرِّخين الأجانب فربما سمعوا بها ولكنَّهم لم يتثبَّتوا من وقوعِها ولم يكونوا يملكون أدواتِ التثبُّت من وقوعِها وربَّما لم يسمعوا بها وذلك لا ينفي وقوعَها وتواترَها، فتواترُ أيِّ قضية لا يُلازم عِلْمَ العالَمين بها، فالكثيرُ بل أكثرُ القضايا المتواترة ليست معلومة لعموم البشر وإلا لم يكد يثبتُ تواترٌ لقضيةٍ من القضايا، فما مِن قضيةٍ متواترة إلا وهي مجهولةٌ لدى الكثير من الناس، فتواترُ أيِّ قضيةٍ يعني أنْ يشهدها ثم يتناقلَها جماعةٌ كثيرة يحصل من إخبارهم اليقينُ بوقوعها بعد ملاحظة عدد المخبرين والعوامل الكيفيَّة المساهمة في إلغاء احتمال الكذب أو الاشتباه، فلا يشترط في اتصاف أيِّ قضيةٍ بالتواتر أنْ يعلمَ بها عامةُ الناس حتى مع عدم وقوفِهم على معطياتِ القضية وعددِ المخبرين بها، نعم يُعتبر في التواتر أن تكونَ القضيةُ واجدةً لمعطيات اليقين بوقوعِها بحيثُ يحصلُ اليقينُ بوقوعها لدى كلِّ مَن وقفَ على معطياتها، فقد تقعُ قضيةٌ في مدينةٍ من مُدن أمريكا ويشهدُها المئاتُ من الناس ويتناقلُها المئات عن الشهود وتظلُّ هذه القضية حبيسةَ موقعِها فلا يسمعُ بها الكثيرُ من أبناءِ المدن الأخرى إلا أنَّ عدم سماعهم بها لا ينفي عن القضية وصفَ التواتر لدى المطَّلع على معطياتِها.

ويُمكن التنظيرُ لذلك بالكثير من الحروب والأحداثِ الكبرى التي وقعت في أوربا والصين وأفريقيا ولم يؤرخ لها المسلمون على مدى القرون التي كان فيها المسلمون يحكمون أكثر العالم، فهل يصحُّ أن ننفي وقوع تلك الأحداث الكبرى وتواترها عندهم لمجرَّد أنَّ مؤرِّخي المسلمين لم يؤرخوها في كتبِهم ومصنفاتهم؟!

ونستكملُ الحديث فيما بعد إنْ شاء اللهُ تعالى

اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآل محمد، واغفر لعبادك المؤمنين

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / وَالْعَصْرِ / إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ / إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(5).

 والحمد لله ربِّ العالمين

 

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

7 من شوال 1444هـ - الموافق 28ابريل 2023م

جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز


1- سورة الأحزاب / 70-71.

2- سورة الفيل / 1-5.

3- سورة الفتح / 7.

4- تفسير القمي -علي بن إبراهيم- ج2 / ص442، تفسير مجمع البيان -الطبرسي- ج 10 / ص443، جامع البيان -الطبري- ج30 / ص387، الدر المنثور في التفسير بالمأثور -السيوطي- ج6 / ص395.

5- سورة العصر / 1-3.