حديثٌ حولَ عالَمِ البرزخ -2

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين الحَمْدُ للهِ الَّذِي يُمْسِكُ السَّماء أَنْ تَقَعَ عَلى الأَرْضِ إِلاّ بِإِذْنِهِ، إِنَّ الله بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ، نَحْمَدُهُ كَما حَمَدَ نَفْسَهُ وَكَما هُوَ أَهْلُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ يَعْلَمُ ما تُخْفِي النُّفُوسُ وَما تُجِنُّ البِحارُ وَما تُوارِي مِنْهُ ظُلْمَةٌ وَلا تَغِيبُ عَنْهُ غائِبَةٌ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ مِنْ شَجَرَةٍ وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلْمَةٍ إِلاّ يَعْلَمُها، وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَنَبِيُّهُ وَرَسُولُهُ إِلى خَلْقِهِ وَأَمِينُهُ عَلى وَحْيِهِ وَأَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ رِسالاتِ رَبِّهِ وَجاهَدَ فِي الله الحائِدِينَ عَنْهُ العادِلِينَ بِهِ، وَعَبَدَ الله حَتّى أَتاهُ اليَّقِينُ صلى الله عليه وآله.

عباد الله اتقوا اللهَ، واعلموا أنَّكم إليه تُرجعون، فتجدُ كلُّ نفسٍ ما عملتْ في هذه الدنيا من خيرٍ مُحضرا، وما عمِلتْ من سوءٍ تودُّ لو أنَّ بينَها وبينَه أمداً بعيداً، ويُحذِّرُكم اللهُ نفسَه وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ.

دلالة آية العرض على العذاب في البرزخ:

كنَّا قد توقَّفنا عند الحديث حول ما يُمكن الاستدلالُ به من الآيات على أنَّ ثمة نعيماً يحظى به البعض وعذاباً يشقى به آخرون في عالم البرزخ وقلنا إنَّ من الآيات التي تدلٌّ على ذلك قوله تعالى من سورة غافر: ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ / النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾(1).

فهذه الآيةُ تتحدَّثُ عن أنَّ آل فرعون يُعرضونَ على النار صباحَ مساء، فإذا جاء يومُ القيامة أُدخلوا في عذابٍ أشدَّ ممَّا كانوا يتلقَّونه من عذابٍ قبل يوم القيامة، فمتى يتلقَّون هذا العذاب غدوًّا وعشيًّا قبل قيام الساعة والحال أنَّهم قد هلكوا وبادوا وقبل أنْ يهلكوا لم يكونوا في عذاب، فالمتعيَّن أَّن العذاب الذي يُعرضونَ عليه صباحَ مساء يقعُ عليهم في النشأة التي تفصلُ بين الدنيا والآخرة، وهي المعبَّر عنها بعالَمِ البرزخ.

ومن الواضح أنَّ هذا العذاب الذي يُصيبُ آلَ فرعون والذي امتدَّ ويمتدُّ إلى أمدٍ طويل لا يقعُ على أجسادِهم، فأجسادُهم أو أجسادُ أكثرِهم قد تفسَّختْ وتلاشت بعد وقتٍ قصيرٍ من هلاكهم وهو ما يدلُّ على أنَّ المعذَّب من آل فرعون هي أرواحُهم.

إشكالٌ وجواب:

وما قد يُقال إنَّهم لا يُعذَّبون وإنَّما يُعرَضون على النار، والعذابُ إنَّما يقعُ عليهم يوم القيامة حينها يؤمَرُ بهم فيدخلون أشدَّ العذاب، وأمَّا قبل يوم القيامة فإنَّهم يُعرضون على النار دون أنْ يُصيبَهم من عذاب.

فجوابُه أنَّ ذلك خلافُ ظاهرِ الآية فإنَّه لو لم يكن العرضُ نحوَ عذابٍ فأيُّ معنىً لاستمراره صباحَ مساء، وما معنى وغاية هذا العرضِ الدائم أو شبهَ الدائم هل هو للاستطلاع؟!

ثم إنَّ الواضح مِن مساق آية العرض لآل فرعون هو أنَّها بصدد البيان للفقرة التي سبقتها وهي قوله تعالى: ﴿وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ﴾ فإنَّ معنى حاقَ بهم سوءُ العذاب هو أنَّ العذاب قد أحاط بآل فرعون، وهنا ينشأ سؤالٌ مقدَّر كيف أحاط بهم؟ فتُجيب الآية: النارُ يُعرضونَ عليها صباحَ مساء، وحين تقومُ الساعة يُؤمَرُ بهم فيدخلون أشدَّ العذاب، فهم يُعذَّبون قبل قيام الساعة، ويُعذَّبون بعد قيامها بعذابٍ أشدَّ وأسوأ.

معنى العرض على النار:

وأمَّا معنى العرض على النار فليكنْ بمعنى الإراءة بالمعاينة لأهوالِ النار وصنوف العذابِ فيها وموضعِ كلِّ واحدٍ منها، فإنَّ الرعبَ والذُعر الذي سينالُهم من معاينتها هو وحده عذابٌ تنخلعُ منه القلوب خصوصًا وأنَّه لن يكون إجراءً عابرًا بل إنَّهم يُقسرونَ على هذا العرض المقيتِ والمرعب غدوًّا وعشيًّا لأمدٍ لا يعلمُ مداه إلا اللهُ تعالى. ولكم أن تتصوروا أحوال هؤلاءِ الأشقياء ومستوى التنكيل الذي ينالُهم وهم يُجرُّون مُرغمين لهذا العرض صباحَ مساء، هذا لو كان العرضُ لا يتجاوزُ المعاينةَ لأهوال النار، وقد لا يكونُ العرضُ على النار بمعنى التقريب للمعاينةِ وحسب بل هو مِن نحو تقريب المعروض للنار لإنضاجه بألسنةِ اللهبِ المتصاعدة منها كما هو مقتضى استعمال أهل اللغة، فحين يُقال: عرضتُ اللحم على النار فإنَّ معنى ذلك هو تقريبُه من لهب النار لإنضاجه شِواءً أو طبيخاً، وذلك في مقابل قذفِه في النار، فالقذفُ في النار يكونُ غالبًا للإحراق والإتلاف، والعرضُ على النار يكونُ للإنضاج ونحوه، فالمُستظهَر -بناءً على ذلك- من قوله تعالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا﴾ هو تقريبُهم من النار بنحوٍ يطالُهم ويمسُّهم من لهبِها ما يتحقَّق به عنوانُ التعذيب بالنار.

وأيًّا كان المراد من الآية المباركة فإنَّها تدلُّ على وقوع العذاب على آل فرعون قبل يوم القيامة، ولن يكون ذلك إلا فيما يُعبَّرُ عنه بعالم البرزخ، وذلك لأنَّهم قد هلكوا وانتقلوا من الدنيا، والقيامة بعدُ لم تقُم، ثم إنَّ القيامة ليس فيها صبحٌ ومساء كما قال تعالى: ﴿لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا﴾(2) فالعذابُ الذي يقعُ عليهم لن يكونَ إلا فيما يفصل بين النشأتين وهي الفترة التي يُصطلَحُ عليها بعالم البرزخ.

الاستدلال بالروايات على العذاب والنعيم في البرزخ:

هذا ما يتَّصل بالاستدلال بالآيات على الوقوع في الجملة للنعيم والعذاب في عالم البرزخ وأما ما ورد في ذلك عن الرسول الكريم (ص) وأهل بيته (ع) فروايات كثيرة تبلغُ بل تفوق حدَّ التواتر الإجمالي خصوصاً إذا ضممنا إلى ما ورد في طرقنا ما ورد من طُرق العامة:

فمن ذلك: ما روي عن أبي عبد الله الصادق (ع) أنَّ القبر "رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّار"(3) وقريب من مفاد الرواية ما ورد في موثقة سماعة عن أبي عبد الله (ع)(4).

ومنه: معتبرة أبي بصير قال: سمعتُ أبا عبد الله (ع) يقول: ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ﴾ قال: في قبره، ﴿وَجَنَّةُ نَعِيمٍ﴾ قال: في الآخرة، ﴿وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ﴾ في قبره ﴿وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ﴾ في الآخرة"(5).

ومن ذلك أيضاً ما ورد في صحيحة أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) عَنْ أَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: فِي حُجُرَاتٍ فِي الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ مِنْ طَعَامِهَا ويَشْرَبُونَ مِنْ شَرَابِهَا ويَقُولُونَ رَبَّنَا أَقِمِ السَّاعَةَ لَنَا وأَنْجِزْ لَنَا مَا وَعَدْتَنَا وأَلْحِقْ آخِرَنَا بِأَوَّلِنَا"(6).

ومنه: ما ورد في موثقة أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: كَانَ أَبِي (ع) يَقُولُ إِذَا أَصْبَحَ .. اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ومِنْ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ ومِنْ ضِيقِ الْقَبْرِ"(7).

هذه بعض الروايات التي نصَّت على وقوع النعيم والعذاب في عالم البرزخ، وغيرُها كثير لذلك لا يصحَّ التشكيك في مفادها، لكونها رواياتٌ مقطوعةُ الصدور لأنَّها متواترة إجمالًا، نعم بعضُ التفاصيل المتصدِّية لبيان كيفيَّة العذاب والنعيم وصلتنا من طريق الآحاد، فمثلُ هذه التفاصيل لا يجب البناء على وقوعها، وأمَّا أصلُ وقوع النعيم والعذاب بعد الموت وقبل يوم القيامة فهو ثابتٌ بالروايات المقطوعة الصدور لكونها متواترة إجمالاً، وهي في ذات الوقت غيرُ منافيةٍ بل هي موافقة لظاهر القرآن، ولهذا يتعيَّن على المسلم الذي يدينُ الله تعالى بصدق الرسول (ص) وأهل بيته (ع) يتعيَّنُ عليه الإذعان والتصديق.

الدليل على أنَّ العذاب والنعيم في البرزخ يقعان على الأرواح:

وهنا يحسنُ التأكيد على أنَّ العذاب والنعيم اللذين يَلحقان بعض مَن ينتقل من عالم الدنيا إلى العالم الذي يسبقُ يوم القيامة والمُعبَّر عنه بعالم البرزخ، هذا العذاب وهذا النعيم إنَّما يُصيبان الأرواح، وأمَّا الأجساد فهي تُصبح بعد الموت جثثًا ساكنة وفاقدةً للإدراك والشعور شأنُها في ذلك شأنُ سائر الجمادات، والذي يؤكِّد ذلك أنَّ القران الكريم وكذلك الروايات الكثيرة الواردة عن الرسول (ص) وأهل بيته (ع) قد نصَّت على أنَّ العذاب في عالم البرزخ وكذلك النعيم يمتدُّ ببعض الناس وبعض الأقوام أمدًا طويلًا، وهو يقتضي بطبعه تبدُّد الأجساد وتلاشيها، وذلك أمرٌ يُدركُه الناسُ في عصر النبوَّة وقبله وبعده، فما مِن أحدٍ إلا وهو يعلمُ أنَّ أجساد الموتى تتفسَّخُ وتهترءُ بعد وقتٍ يسيرٍ من حين الموت ثم لا تلبثُ أنْ تتبدَّد وبعده تتلاشى، فكلُّ أحدٍ يُدرك ذلك ويعلمُه لأنَّه معايَن بالوجدان، وتلك قرينةٌ على أنَّ المراد ممَّا دلَّ على وقوع العذاب وكذلك النعيم بعد الموت إنَّما يقعُ على الأرواح، وذلك هو المراد من الآيات والروايات فهو ما يتعيَّن فهمُه من النصوص الدينيَّة، فما يُصيب الإنسان بعد الموت ليس من سِنخِ العذاب والنعيم الحسِّيين بل هو من طبيعةٍ أُخرى غير قابلةٍ للإدراك لعدم قابليَّة الأرواح للإدراك الحسِّي، على أنَّ الكثير من الروايات قد صرَّحت أن العذاب والنعيم إنَّما يُصيبان الأرواح.

المراد من ضغطة القبر:

وأمَّا ما ورد من التعبير عنها بمثل ضغطة القبر أو لدغ ولسع العقارب والأفاعي أو الضرب بمقامع الحديد أو الحرق بالنار فهو لغرض تقريب صورةِ العذاب للأذهان، وذلك لأُنس الإنسان بالمحسوسات، وكذلك ما ورد من التعبير عن النعيم بأنَّه يكونُ في روضةٍ من رياض الجنَّة ينعمُ بظلال الأشجار ويأكلُ من ثمارها ويشربُ من مياه الأنهار فإنَّ الغرض من كلِّ ذلك هو تقريبُ صورة النعيم للأذهان، وهذا لا يعني أنَّ العذاب والنعيم خياليَّان بل هما حقيقيَّان ولكنَّ حقيقتَهما متناسبةُ مع النشأة التي انتقل إليها، فالضغطةُ التي تُصيبه مثلًا هي ضغطةٌ حقيقيَّة ولكنَّها متناسبة مع طبيعة الحياة البرزخيَّة، أو أنَّ المراد من ذلك أنَّه يجدُ واقعًا ذاتَ الألم الذي يشعرُ به المضغوط ولكنَّه لم يحصل بواسطة الضغط الحسِّي بل وقع بواسطة ضغطٍ يتناسبُ وطبيعة الحياة البرزخيَّة. وهذا أمرٌ لا يسع العاقل إنكاره لمجرَّد عدم إدراكه بمُدركات الحسِّ فما أكثر الحقائق غير الخاضعة للحواس. فحقائق الوجود لا تتلخَّص في المحسوسات لذلك لا يسعُ العاقل أنْ يُنكر شيئًا لمجرَّد عدم قابليَّة ذلك الشيء للوقوع تحت الحواسِّ من البصر والسمع واللمس، فما أكثر الحقائق والوجودات الواقعيَّة التي لا يُمكن الوقوف عليها بواسطة أدواتِ الحسِّ من السمع والبصر وغيرهما.

ومما ذكرناه يتبيَّن أنَّ عذابَ القبر وكذلك نعيمه من القضايا التي ينحصرُ طريقُ التثبُّت من وقوعها بالنقل، وذلك لأنَّها من القضايا الغيبيَّة المتَّصلة بالنشأةِ الأخرى التي لم ننتقل إليها، فهي لذلك غيرُ خاضعةٍ للمعاينة من أبناءِ هذه النشأة، وإنَّما يُعاينُها مَن انتقل إلى تلك النشأة، ولهذا لا سبيل إلى التثبُّت من وقوعها بواسطة الحسِّ والتجربة بل يتمحَّضُ سبيلُ التثبُّت من وقوعِها في الإخبار من طريقِ الوحي عن عالِم الغيبِ والشهادة، فحيثُ إنَّ وقوع النعيم والعذاب في القبر وعالم البرزخ أمرٌ لا يُحيله العقل، وحيثُ ثبت بالتواتر القطعيِّ عن النبيِّ (ص) وأهل بيتِه (ع) أنَّ ثمة عذاباً يقعُ بين النشأتين على أقوامٍ لذلك وجَبَ التسليم إذ هو مقتضى الإيمان بنبوَّة النبيِّ محمد (ص) وأنَّه لا ينطقُ عن الهوى إنْ هو إلا وحيٌّ يُوحى.

دعوى أنَّ عذاب القبر ينفيه الوجدان وجوابها:

ومن ذلك يتَّضح الجواب عمَّا يتمسك به المنكرون لوقوع النعيم والعذاب في القبر من دعوى أنَّ عذاب القبر ونعيمه أمرٌ ينفيه الوجدان، لأنَّه كثيراً ما يتَّفقُ فتحُ قبور الموتى بعد دفنِها بيومٍ أو يومين فلا يُرى على أجسادِهم أثراً لعذاب، ولا يُرى أثراً لضغطةِ القبر أو غيرها من الأهوال التي تحدَّثت عنها الروايات. ألا يُؤشِّر ذلك إلى عدم صحَّةِ ما ورد في الروايات من وقوع العذاب في القبر؟!

فالجوابُ عن ذلك أنَّ هذه الدعوى نشأتْ عن توهُّم أنَّ العذاب في القبر يقعُ على أجساد الموتى والحال أنَّ الأمر ليس كذلك، وثمة رواياتٌ عديدة أفادت أنَّ المعذَّب والمُنعَّم في عالَم البرزخ هي الأرواح الماثلة في قوالبَ برزخيَّة، فأجسادُ الموتى تظلُّ في قبورِها كما هي إلى أنْ تتلاشى، والذي ينالُه العذابُ والنعيم إنَّما هي الأرواح الماثلة في قوالبَ برزخيَّة لا علم لنا بحقيقتِها وكُنْهها، فإذا كان المرادُ من عذاب القبر والبرزخ هو هذا المعنى فإنَّه أمرٌ غيرُ قابلٍ للوقوف عليه بواسطة الحسِّ ومن طريق الاطلاع على أجساد الموتى بعد دفنِها.

فحين يردُ في الروايات أنَّ الميِّت يُضغطُ في قبرِه أو يُعذَّبُ بلدغ ولسع الحيَّات والعقارب فإنَّه قد يكونُ المراد من ذلك أنَّه يجدُ أَلمَاً يُساوقُ ألمَ الضغط واللسع دون أنْ يكون ثمة ضغطٌ أو لسْعٌ أو يكون المرادُ أنَّه يجدُ ألمَ الضغط أو اللسْع دون أنْ يكون ثمة ضغطٌ ولسعٌ ظاهريٌّ يُشاكِلُ الضغطَ واللسع الذي يقعُ في عالَم الدنيا، فالضغطُ واللسعُ وإنْ كانا حقيقيين ولكنَّهما من طبيعةٍ أخرى مناسبةٍ للحياة البرزخيَّة، ولذلك يتعذَّر على الأحياء من أبناء هذه النشأة الاطَّلاع عليها.

تقريبُ حالة الميِّت المعذَّب برؤى النائم:

ويمكن تقريبُ حالة الميِّت المعذَّب بالنائم الذي يُشاهد الأهوال وينتابُه منها الرعبُ والهلَع، فيُشاهدُ وحشاً كاسراً ينهشُ في لحمه أو يُهشِّمُ عظامَه أو يجثمُ على صدره أو يجدُ ناراً تشتعلُ في جسدِه ويتألمُ لذلك، وقد يجدُ نفسَه يصرخُ أو يركُض أو يسقطُ من شاهقٍ وجسدُه في موضعِه على الفراش لا يتحرَّك، ولا يشعرُ مَن حولَه مِن المستيقِظين بما يُشاهدُه هذا النائم وبما يشعرُ به.

فمثلُ هذه الحالة التي يكونُ عليها النائم يُمكن أنْ تكونَ مؤشِّراً للاستئناس بإمكانيَّة أنْ يقعَ العذابُ على الميِّت ويَشعرُ به ويتألَّم منه دون أنْ يشعُرَ الأحياءُ ممَّن حولَه بما يشعُرُ به وما يُشاهدُه من أهوال وما يتألَّم منه، والفرقُ بين ما يجدُه النائم وبين ما يجدُه الميِّت هو أنَّ النائم إنَّما يجدُ صوراً ذهنيَّة، وأمَّا الميِّت فيُعذبُ بصنوفٍ من العذاب الواقعيِّ إلا أنَّ مَن حولَه لا يسعُهم المعاينة له، وذلك لأنَّ طبيعة العذاب مناسبةٌ لطبيعة النشأة التي انتقل إليها والتي هي مغايرةٌ لطبيعة هذه النشأة.

وخلاصة القول: إنَّ التعبير عن العذاب والنعيم في عالم البرزخ بعذاب القبر ونعيم القبر لا يعني أنَّ القبر هو الظرف والمكان الذي يقعُ فيه العذاب والنعيم، فقد اتَّضح أنَّ العذاب والنعيم ليسا حسِّيين ولا يقعان على الجسد الفاقد للشعور وإنَّما يقعان على ذات الإنسان وروحه، والروايات إنَّما عبَّرت عن هذا العذاب والنعيم بعذاب القبر ونعيمه باعتبار ما هو مأنوسٌ عند الناس من الارتباط بين الإنسان وجسده، وحيثُ إنَّ جسده قد صار إلى القبر كما هو الغالب لذلك ناسَبَ أنْ يُضاف العذاب وكذلك النعيم للقبر وإلا فالموضعُ الذي يكونُ ظرفًا للعذاب هو الموضعُ الذي تكون فيه روحُ الإنسان، ويُمكن أنْ يكون منشأ إضافة العذاب للقبر هو أنَّ الله عزَّ وجل يُعذِّب روح الإنسان في الموضع الذي قُبر فيه الجسد وهذا ما نشأ عنه اضافة العذاب للقبر، ولعلَّ ما يُؤيِّد ذلك هو ما أشارت إليه بعضُ الروايات من أنَّ المصلوب الذي لم يُقبر تُعذَّب روحُه في الموضع الذي صُلب فيه(8).

والمتحصَّل أنَّ عدم الرؤية لآثار العذاب أو النعيم على أجساد الموتى بعد فتح قبورِهم لا ينفي وقوع ذلك عليهم بعد إمكانيَّة أنْ لا تكون طبيعة العذاب والنعيم مناسبةً لهذه النشأة، وهذا أمرٌ لا يُحيلُه العقل، فالتغايرُ بين النشأتين يقتضي التغايُر للقوانين المجعولة لكلٍّ منهما وهو ما يقتضي الحيلولة دون اطَّلاع أبناء هذه النشأة على أحوال مَن انتقل إلى النشأة الأخرى.

اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآل محمد، واغفر لعبادك المؤمنين

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ / مَلِكِ النَّاسِ / إِلَهِ النَّاسِ / مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ / الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ / مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾(9).

والحمد لله ربِّ العالمين

 

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

28 من شوال 1444هـ - الموافق 19 مايو 2023م

جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز


1- سورة غافر / 45-46.

2- سورة الإنسان / 13.

3- الكافي -الكليني- ج3 / ص242.

4- من لا يحضره الفقيه -الصدوق- ج1 / ص170.

5- تفسير القمي -علي بن إبراهيم القمي- ج2 / ص350.

6- الكافي -الكليني- ج3/ 244، المحاسن -البرقي- ج1 / ص178.

7- الكافي -الكليني- ج3 / ص526.

8- الكافي -الكليني- ج3 / ص241.

9- سورة الناس / 1-6.