حديث حول سورة الماعون -2

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذَ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيُّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرا الحَمْدُ للهِ عَلى حِلْمِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ وَالحَمْدُ للهِ عَلى عَفْوِهِ بَعْدَ قُدْرَتِهِ وَالحَمْدُ للهِ عَلى طُولِ أَناتِهِ فِي غَضَبِهِ وَهُوَ قادِرٌ عَلى ما يُرِيدُ، الحَمْدُ للهِ خالِقِ الخَلْقِ باسِطِ الرِّزْقِ فالِقِ الاِصْباحِ ذِي الجَلالِ وَالاِكْرامِ وَالفَضْلِ وَالاِنْعامِ الَّذِي بَعُدَ فَلا يُرى وَقَرُبَ فَشَهِدَ النَّجْوى تَبارَكَ وَتَعالى، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وحده لا شريكَ له، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه (ص).

عباد الله: "اتقوا الله في نِعمِ الله عليكم، فلا تُنفِّروها عنكم بمعاصيه، بل استديموها بطاعتِه وشكرِه على نِعمه وأياديه، واعلموا أنَّكم لا تَشكرونَ اللهَ عزَّ وجلَّ بشيءٍ بعد الإيمانِ بالله وبعد الاعترافِ بحقوق أولياءِ الله من آل محمّدٍ رسول الله ( ص) أحبُّ إليه من معاونتِكم لإخوانِكم المؤمنينَ على دنياهم التي هي مَعبرٌ لهم إلى جنان ربِّهم، فإنَّ مَن فعلَ ذلك كان من خاصّةِ الله تبارك وتعالى"(1).

مؤدَّى النهىِّ عن دعِّ اليتيم:

أما بعدُ: فقد توقَّفنا في فيما سبق عند قوله تعالى من سورة الماعون: ﴿فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾(2) وقلنا إنَّ معنى دعَّ اليتيم هو ردُّه بعنفٍ وقسوةٍ وجفاء كما هو معنى الدعِّ في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا﴾(3) أي يُدفعون إليها بعنفٍ وشِدَّة إمعانًا في إهانتهم وإذلالهم.

وذكرنا أنَّ دعَّ اليتيمِ وتعنيفَه وزجرَه ما هو إلاّ مظهرٌ من مظاهرِ ظُلم اليتيم، وعليه يكون المقصودُ من دعِّ اليتيم في الآية المباركة هو مطلقُ الظلم لليتيم، فالاستيلاءُ على أموالِ اليتامى وإنْ كان برفقٍ يكونُ من الظلم، وهكذا فإنَّ التَّصرُّف دون وجهٍ شرعيٍّ في أموالهم يكونُ من الظُّلم.

مظهرٌ من مظاهر الظلمِ لليتيم:

وهنا أودُّ أنْ أُشير إلى مظهرٍ من مظاهر الظُّلم لليتيم يُمارسه الكثيرُ من الأقارب عندما يموتُ لهم ميِّت ويكون له صبيةٌ صغار فإنَّهم- أعني الأقارب- يظلُّون يتقلَّبونَ في نعيم ذلك الميِّت فيجلسونَ على فراشِه ويأكلونَ من طعامِه ويتصرَّفونَ في مسكنِه تصرُّفَ المالك دون أنْ يلتفتوا إلى أنَّ كلَّ هذه الأموال قد أصبحت مِلكًا لليتامى، وعليه فلا يجوزُ التَّصرَّفُ والانتفاعُ بها مجَّانًا ودون إذنٍ من وليِّهم.

وقد يتَّفقُ أن يكونَ للميِّتِ أولادٌ كبار وآخرون صغار لم يبلغوا الحلُمَ أو الرشد، ويتَّفقُ أن يكونَ المنتفعُ الأكبرُ من مسكنِ الأب وأموالِه العينيَّة في حياته هم الأولاد الكبار ويبقى الحال على ما كان بعد وفاته، فلا يحظى الصغار إلا بما هو دونَ حقِّهم بمراتب، ويكونُ المنتفعُ الأكبر من مسكنِ الميِّت وأموالِه هم الأولادَ الكبار، وذلك غيرُ جائزٍ، فإنَّ نصيبَ الكبار كنصيبِ الصغار سواءً بسواء، لذلك يتعيَّنُ شرعاً تعويضُ الصغار في هذا الفرض بأُجرةِ المنفعةِ المستوفاة من نصيبِهم بعد مراجعة وليِّهم.

وقد يتَّفقُ أنْ يكونَ للأبِ أملاكٌ واستثمارات فيتصدَّى أولادُه الكبار بعد موتِه لإدارة أملاكِه فيبيعونَ ويشترون ويُضاربون ويرهنون ويؤجِّرون ويستأجرون دون مراجعة وليِّ الصغار ودون ملاحظةِ ما تقتضيه مصلحتُهم، وكثيراً ما يتصرَّفونَ في الأموال دون مُداقةٍ ومحاسبة وكأنَّ الأموالَ خالصةٌ لهم، وقد يمتنعونَ من تمكين وليِّ الصغار من حُصَّتِهم رغم أنَّ مصلحتَهم تقتضي ذلك، وقد يمتنعونَ من التقسيم رغم أنَّ مصلحة الصغار تقتضي التقسيم، يفعلونَ ذلك وشبهَه من التجاوزات دون التفات، وفيهم مَن هو ملتفتٌ لذلك إلاّ أنَّه لا يعبأُ ولا يكترثُ نظرًا لكون اليتامى عاجزينَ عن الرعاية لأموالِهم بل قد لا يكونونَ مدركينَ لكونِهم أصحابَ حقٍّ.

والأفظعُ من ذلك أنَّ بعضَ الإخوة أو بعض الأقارب -حاشا الحاضرين- قد يقتطعُ من أموال اليتامى ما يتمكَّنُ من اقتطاعه ثمَّ يجعلُه لنفسِه ويضمُّهُ لممتلكاته، فقد يتَّفقُ أن تكونَ بعضُ أموالِ الميِّت تحت يدِ أحد أبنائه أو أقاربِه قبل وفاتِه دون علمِ بقيَّة الورثة فلا يُخبِرُ الورثةَ بما في يدِه من أموال مُورِّثهم بل يضمُّها إلى أموالِه، وقد يتَّفقُ علمُ الورثة بأنَّ لميِّتِهم أموالاً في يد أخيهم أو قريبهم ولكنَّهم عاجزونَ عن استرداد حقِّهم منها فيستثمرُ عجزَهم عن استردادِها منه فيضمُّها إلى أموالِه رغم علمِه بأنَّها ليست له، فمثلُ هذا الرجل هو المعنيُّ بما وردَ عن النَّبيّ الكريم (ص) أنَّه: "يُبعث أناسٌ من قبورِهم يومَ القيامةِ تأجَّجُ أفواهُهم نارًا" فقيل له: "يا رسول الله، مَن هؤلاء؟ قال (ص): ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾"(4).

معنى الحضِّ وتحديدُ معنى المسكين:

والمحور الثاني حول قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾(5).

فالمُرادُ من الحضِّ هو الحثّ والتَّرغيب، والمُراد من المسكين هو مطلقُ الفقير، وقيل إنَّ المسكينَ هو من يكونُ أسوَأَ حالاً من الفقير، لذلك يُعرَّفُ بأنَّه الذي لا يملكُ قوتَ يومِه له ولعياله، والفقيرُ هو مَن لا يملكُ قوتَ سنتِه له ولعياله.

ويذكر بعضُ الفقهاء والمفسِّرين بأنَّ لفظَ المسكين إذا اجتمع مع لفظ الفقير في سياقٍ واحد كان المقصودُ من أحدِهما غيرَ المقصود من الآخر، ومثال ذلك آية الصَّدقات وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا﴾(6) فالمراد من الفقير في الآية غير المراد من المسكين، وذلك لورودهما في سياقٍ واحد معطوفاً أحدُهما على الآخر، وعطفُ أحد العنوانين على الآخر يقتضي المغايرة بينهما في المعنى، ولهذا قيل إنَّ المراد من الفقير في آية الصدقات هو مَن لا يملك قوت سنتِه أو هو من لا يتعرَّضُ للسُّؤال تعفُّفًا، والمرادُ من المسكين هو مَن لا يملكُ قوتَ يومِه أو هو مَن يتعرَّضُ لسؤال النَّاس. هذا فيما لو ورد العنوانان في سياقٍ واحد، وأمَّا إذا افترقا في الخطاب فلم يُذكَرَا في سياقٍ واحد فهما أي لفظُ الفقير ولفظُ المسكين يكونان بمعنىً واحد.

وبناءً على هذا التفصيل يكونُ المرادُ من المسكين في الآية من سورة الماعون هو الفقيرَ بتمامِ مراتبِه وأصنافه.

لماذا نسبت الآية الطَّعامَ إلى المسكين:

ثم إنَّ المُلاحَظَ من الآية الشَّريفة أنَّها نسبت الطَّعامَ إلى المسكين فلم تقُلْ: ولا يحضُّ على إطعام المسكين وإنَّما أفادت أنَّ المكذِّبَ بيوم الدِّين هو الذي لا يحضُّ على طعام المسكين، وذلك مشعِرٌ بأنَّ الله تعالى اعتبر الطَّعامَ مِلكًا للمسكين، فما يُعطاه المسكينُ من مالٍ وطعامٍ إنَّما هو مالُه وطعامُه، فليس هو مالاً وطعامًا للمُعطِي، ولذلك لا يسوغُ له المَنُّ على المسكينِ والشعورُ بالتَّرفُّعِ والتَّعالي عليه، فما عندَه وما أعطاهُ للمسكين كُلُّهُ من رزقِ الله تعالى ومِن مِنَحِه، فهو تعالى المالكُ الحقيقيُّ للمال، لذلك فهو الذي يُقسِّمه حيثُ يُريد، غايتُه أنَّ الله تعالى يمنحُ رزقَه لعبادِه تارةً بواسطة التَّكسُّب والميراث وأُخرى بواسطة اقتطاع شيءٍ ممَّا وقعَ في يدِ عباده ويضعُه في أيدي آخرينَ من عباده، وهم الذين لا يستطيعونَ حيلةً ولا يهتدون سبيلاً، فكُلُّ عبادِ الله تعالى عيالُهُ، فهو يضعُ المالَ في أيدي بعضِ عباده ثُمَّ يأمرُهم بأنْ يقتسموه فيما بينهم، وبهذا يتَّضحُ معنى قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ / لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾(7) فالحقُّ في الاستفادة من الأموالِ والأرزاقِ لا ينحصرُ طريقُه بالتَّكسُّب، فالتَّكسُّب ما هو إلا واحدٌ من الأسباب المنتِجة للاستحقاق وثَمَّة أسبابٌ أخرى تستوجبُ استحقاقَ الاستفادة من رزقِ الله تعالى مِثل الحرمان والضَّعفِ والمسكنة.

فلو كان التَّكسُّبُ وحده هو وسيلةُ الاستحقاقِ للمال لمَا كان للأولاد حقٌّ في النفقة على أبيهم، وكذلك الزَّوجةُ لها حقُّ النَّفقة على زوجِها وهكذا هم الأقارب عندما لا يجدُ أحدُهم وسيلةً لتحصيلِ الرزق بنفسِه فإنَّ اللهَ تعالى قد جعل له حقًّا على سائر أقربائه، فليس لهم إغفالُ هذا الحقّ وتضييعُه.

والمتحصَّل أنَّ الإسلامَ حرصَ على أن يُؤصِّل في النَّاس هذه الثَّقافة، وهي أنَّ الأموالَ التي تقعُ في يدِ الإنسان هي أموالُ الله تعالى، وليس لأحدٍ أنْ يتوهَّم أنَّها خالصةٌ له لمجرَّد أنَّها من كسبِه وفي قبضتِه وتحت يدِه، وإذا كان اللهُ تعالى هو المالكَ الحقيقيَّ لهذه الأموال فمِن الظُّلم أن يعتمدَ الإنسانُ غيرَ السَّبيل الذي شَرَّعه اللهُ تعالى في كيفيَّة تقسيم هذه الأموال، كما أنَّ مِن غير اللائقِ أن يتبرَّمَ الإنسانُ لمجرَّد أنَّهُ لم يُعطَ الحقَّ في الاستيلاء على كُلِّ ما في يدِه، فمَا في يدِه ليس سوى منحةٍ إلهيَّة مشروطةٍ بأداء حقِّها.

 وقد ضرب اللهُ لنا مثلاً بقارونَ الذي كان يتوهَّمُ أنَّ كُلَّ ما في يدِه مِلكٌ خالصٌ له وأنَّه إنَّما تحصَّل عليه بفطنتِه وجهدِه وعنائه، لذلك أبى أنْ يستجيبَ لنبيِّ الله موسى (ع) عندما دعاه إلى صرفِ بعض ما عنده على الفقراء، فكانَ مصيرُه أن سلبَ اللهُ تعالى منه ذلك النَّعيم الذي منحَه إيَّاه.

ثمرات الإيمان بأنَّ الله هو المالكُ الحقيقي:

فلو أنَّ الإنسانَ آمن بهذه الحقيقة وأذعَنَ لها لترتَّب على ذلك الكثيرُ من الآثار المُفضية لتقويم البناء الاجتماعيّ، فعندما يُؤمنُ الإنسان بأنَّ ما في يده إنَّما هو أمانةٌ أودَعها اللهُ إيَّاه، وأنَّ الذي له الحقُّ الكامل في تقسيمِها هو اللهُ تعالى فإنَّه حينئذٍ لن يرى لنفسِه الحقَّ في الاحتكار بعد أن نهى اللهُ عن ذلك، ولن يرى لنفسِه الحقّ في أخذ الرِّبا على القرض واكتنازِ الأموال في الوقت الذي لا يجدُ آخرون ما يقتاتونَ به، ولن يرى لنفسه الحقَّ في الاستحواذ على مقدَّرات النَّاس وأرزاقِهم، وعندها تتلاشى الطَّبقيَّةُ من المجتمع وتزولُ دواعي الحروبِ الطَّاحنة التي غالبًا ما يُؤجِّجها جشعُ الإنسان وحرصُه على الاستيلاء على أكبر قدرٍ من أرزاقِ النَّاس.

كما أنَّ الإيمانَ بهذه الحقيقةِ هو المنتجُ للتَّكافلِ الاجتماعيّ الذي هو من أهمّ الركائز التي يتقوَّمُ بها البناءُ الاجتماعيّ المتماسِك، وعندما يُؤمنُ الإنسانُ بهذه الحقيقةِ فإنَّه لن يرى لنفسِه امتيازًا وفضلاً عن الآخرينَ، فتزولُ عنده دواعي الكِبرِ والاستعلاءِ والاستطالةِ على الآخرين، وإذا زالَ الكبرُ انتفى واحدٌ من أهمَّ دواعي الحقدِ والحسدِ عند الضُّعفاء كما أنَّه ينتفي بذلك أحدُ أهمّ أسباب الجريمة، وكُلّ ذلك يُكرِّس حالةَ التَّماسكِ في النَّسيجِ الاجتماعيّ.

وعندما يُؤمنُ الإنسانُ بهذه الحقيقةِ فإنَّه لن يتبرَّمَ من تشريعِ اللهِ المرتبطِ بتقسيم الميراث، فلن تجدَ المرأةُ غضاضةً في أنْ يكونَ نصيبُها دون نصيبِ الرجل في الميراث كما أنَّه لن يجدَ الأبُ غضاضةً في أنْ يكون نصيبُه دون نصيب الولد، وذلك لأنَّ هذا النصيبَ أساسًا لم يكن له فمنَحَه اللهُ إيَّاه ثُمَّ فرض حقوقًا على مَن أعطاه النَّصيبَ الأعلى وأعفى منها مَن كان له النصيبُ الأدنى. فعندما يستشعرُ الإنسانُ ذلك فإنَّه لن يجدَ في نفسِه ما يُبرِّرُ الحسد والغيظ على شركائه في الميراث، وبذلك تستوثقُ اللُّحمة بين ذوي الأرحام.

منشأ الاهتمام المُلفتِ بالمسكين:

وعلى أيِّ حالٍ فقد ورد نظيرُ قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ في العديد من السورٍ وهو ما يُعبِّر عن اهتمام القرآن المجيد بهذه القضيَّة.

فقد ورد ذلك مثلاً في سورة الحاقَّة عند قوله تعالى: ﴿ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ / إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ / ولاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ / فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ / لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ﴾(8).

وورد كذلك في سورة الفجر عند قوله تعالى: ﴿كلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ / ولاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾(9).

وورد قريباً من ذلك في سورة المُدَّثِّر عند قوله تعالى: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ / قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ / وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ﴾(10).

فما هو السرُّ في كلِّ هذا الاهتمام بإطعام المسكينِ والرعايةِ لأحواله؟ ولماذا كلُّ هذا الوعيد بالعذاب في الآخرة على كلِّ من لا يَحاضُّون على طعام المسكين؟

الظاهرُ أنَّ منشأ ذلك هو أنَّ المجتمع الذي لا يُراعى فيه الفقراء والمساكين ولا يُعبأُ بهم وبشؤونِهم يكونُ أشبه شيءٍ بالمجموعات البهيميَّة التي لا يشغلُّ كلَّ فردٍ منها سوى ما يتَّصل بشأنه الخاص، وهذا ما لا يُريده الإسلام لمجتمع الإنسان، فالمجتمعُ لا يكون مجتمعاً انسانياً ما لم يكن قائماً على التراحم والتعاطف والتكافل ورعاية كلٍّ للآخر في مختلف شؤونِه وإلا كان مجتمعاً بهيميَّاً شأنُه شأن سائر المجموعات البهيميَّة، هذا مضافاً إلى الآثار الكارثيَّة المترتِّبة في المآل على عدم المبالاة والاكتراث بالفقراء والمساكين.

فلكم أنْ تتصَّوروا مجتمعًا لا يُراعى فيه الفقراءُ والمساكين مطلقاً ولا يُعبَأ بهم وبشؤونهم، إنَّ مجتمعًا يكون كذلك سوف تستشري في ثناياه الطبقيةُ الفاحشة، وذلك ما يُنتِج التحاسدَ والتباغض، وهو ما سيُفضي في المآل إلى تنامي دوافع الانتقام، وحينذاك سوف تشيعُ الجريمةُ وينعدمُ الأمن، فلا يقوى أيُّ جهازٍ أو قانونٍ مهما بلغتْ سطوته أنْ يحفظَ للناس أمنَهم وسلامتَهم، فالأموالُ ستكونُ في معرض النهب والسلب والسرقة وتعمُّدِ التخريب والاتلافِ انتقاماً ولن يأمنَ أحدٌ في ذلك المجتمع على نفسه من الفتك وعلى عرضه من الهتك، وبذلك تنتقضُ بُنَى المجتمع وتضطربُ أوضاعُه ويعبثُ فيه الهرجُ والمرج.

ثم إنَّ مجتمعًا يعيشُ في ظلِّ هذا المناخ المحقون لا يكون مؤهَّلاً لتلقِّي القيمِ والمُثُل، وبذلك تتهاوى في ظِلِّ هذا المناخ كُلُّ المبادئ السامية التي حرص الإسلام على اشاعتها وتأصيلها في المجتمع. لذلك قيل إنَّه:" لولا الخبزُ لما عُبِدَ الله تعالى" وإنَّ الفقر إذا حلَّ في بلدٍ قال له الكفرُ خُذني معك".

من هنا يتبيَّنُ منشأُ حرصِ الإسلام على رعاية الفقراء والمساكين، فمضافًا إلى أنَّ رعايتهم يتناغمُ ومقتضيات الفطرةِ الإنسانيَّة فإنَّ عدم رعايتِهم يُنتجُ شريحةً اجتماعية ناقمة وعدوانية، قادرةً على تقويض أمنِ المجتمع وسلامتِه وهو ما يمنعُ من القدرة على البناء الروحي والقيمي للمجتمع والذي هو أحدُ أهم أهدافِ الرسالة الإلهية، فأحدُ أهمِّ الأسباب التي نشأَ عنها حرصُ الإسلام على رعايةِ الفقراء هو خلقُ المناخِ الاجتماعي القادرِ على تلقِّي قيمِ الإسلام الفاضلةِ ومبادئِه السامية.

ونختمُ الحديث حول هذا المحور بالإشارة إلى أنَّ الآيةَ لم تشنِّع مباشرةً على مَن لا يُطعمُ المسكين بل على مَن لا يحضُّ ولا يحثُّ على إطعام المسكين، وفي ذلك إشارةٌ بيِّنةٌ إلى أنَّ مسئولية الرعايةِ للمساكين لا تختصُّ بالأغنياء وذوي الجِدة بل هي شاملةٌ لكل قادرٍ على المساهمةِ في رفع العوزِ عن المسكين، فثمة من لا يملك مالاً ولكنَّه يملكُ جاهاً يتمكنُ من توظيفه، وثمة مَن يملكُ من الخبرة بأحوال الناس ما تُؤهله للسعي في قضاء حوائج المحتاجين منهم، وثمة من له خبرةٌ في الإدارة، وآخرُ يملكُ من الوقت والجهد ما يصيرُ بهما مسئولاً عن الانخراط في المؤسسات الخيريَّة، فقوله تعالى: ﴿وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ يضعُ المسئوليةَ الشرعيَّة تجاه المسكين على جميع أفراد المجتمع كلٌّ بحسبِه 

اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآل محمد، واغفرْ لعبادِك المؤمنين

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / وَالْعَصْرِ / إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ / إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(11).

والحمد لله ربِّ العالمين

 

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

1 من شهر صفر 1445هـ - الموافق 18 اغسطس 2023م

جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز


1- عيون أخبار الرضا (ع) -الصدوق- ج2 / ص180.

2- سورة الماعون / 2.

3- سورة الطور / 13.

4- تفسير العياشي -العياشي- ج1 / ص225، جامع أحاديث الشيعة -البروجردي- ج17 / ص392.

5- سورة الماعون / 3.

6- سورة التوبة / 60.

7- سورة المعارج / 24-25.

8- سورة الحاقة / 32-37.

9- سورة الفجر / 17-18.

10- سورة المدثر / 42-44.

11- سورة العصر / 1-3.