"بُعثتُ بالسيفِ" .. هل هو حديثٌ صحيحٌ وما هو معناه؟
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّه فَاطِرِ الأَشْيَاءِ .. خَلَقَ مَا شَاءَ كَيْفَ شَاءَ، مُتَوَحِّداً بِذَلِكَ لإِظْهَارِ حِكْمَتِه وحَقِيقَةِ رُبُوبِيَّتِه، لَا تَضْبِطُه الْعُقُولُ، ولَا تَبْلُغُه الأَوْهَامُ، ولَا تُدْرِكُه الأَبْصَارُ، ولَا يُحِيطُ بِه مِقْدَارٌ .. احْتَجَبَ بِغَيْرِ حِجَابٍ مَحْجُوبٍ، واسْتَتَرَ بِغَيْرِ سِتْرٍ مَسْتُورٍ، عُرِفَ بِغَيْرِ رُؤْيَةٍ، ووُصِفَ بِغَيْرِ صُورَةٍ، ونُعِتَ بِغَيْرِ جِسْمٍ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ. وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً (ص) عَبْدُهُ ورَسُولُهُ.
أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ ونفسي بِتَقْوَى اللَّه، فَإِنَّه لَا يَصِلُ إِلَى اللَّه مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ إِلَّا مَا خَلَصَ مِنْهَا ولَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ إِلَّا مِنَ الْمُتَّقِينَ.
الحديثُ حول روايةٍ منسوبةٍ للنبيِّ الكريم (ص) هذه الروايةُ لم تردْ في شيءٍ من طُرقنا، وإنَّما وردت في بعض طُرق العامة عن عبد الله بن عمر قال: قال رسولُ الله (ص): "بُعثتُ بين يدي الساعة بالسيفِ حتى يُعبدَ اللهُ وحده لا شريك له، وجُعل رزقي تحت ظلِّ رُمحي .."(1).
وإذا كان المقصود من الحديث أنَّ الرسول الكريم (ص) بُعث لإلجاء الناس وقهرهم وقسْرِهم على الإيمان بالتوحيد بواسطة السيف فهذا المعنى منافٍ للقرآن الكريم، وكلُّ حديثٍ منافٍ للقرآن فهو مكذوب فيجبُ طرحُه وإلقاؤه عرضَ الجدار كما نصَّت على ذلك الروايات المتواترة عن الرسول (ص) وأهل بيته (ع)(2).
الرسول (ص) بُعث للدعوة إلى التوحيد بالحكمة والموعظة الحسنة:
فالقرآن المجيد صريحٌ في أنَّ الرسولَ الكريم (ص) بُعث للدعوة إلى التوحيد بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن كما قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾(3) وقال تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾(4) وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ / وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ / وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾(5) فالوسيلةُ التي أُمرَ النبيُّ (ص) باعتمادها في الدعوة إلى الله تعالى هي الدفع بالتي هي أحسن، فهذه الوسيلة هي التي تصيِّر من العدو -إذا كان من الأسوياء- وليَّاً وصديقاً حميماً.
الرسول (ص) مذكِّر وليس مُسيطراً:
وقال تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ / لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ / إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ / فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ﴾(6).
فهذه الآيةُ متصدِّيةٌ أيضاً لبيان الوسيلة التي يتعيَّنُ على النبيِّ الكريم (ص) اعتمادُها في الدعوة إلى التوحيد وأصول العقيدة، فالوسيلةُ هي التذكير بمقتضيات الفطرة ومُدركات العقل الفطري التي لو رجع الإنسانُ إلى نفسِه لوجدها مذعِنةً بأنَّها الحقُّ الذي لا يشوبُه ريبٌ ولا يعتريه شك، فمفادُ الآية هو أنَّ التذكير بالفطرة والتنبيه على مقتضياتها بالبراهين الواضحة هي الوسيلةُ التي عليك اعتمادها، فأنتَ لا تملكُ السيطرةَ عليهم بالقهر والغلبة، فإذا تولَّى منهم متولٍّ أو جحدَ منهم جاحدٌ بعد قيام الحجَّةِ عليه فأمرُه إلى الله تعالى، فهو مَن سيُعذِّبه يوم القيامة بالعذاب الأكبر.
الرسول (ص) مُعلِّم للكتاب والحكمة:
وقال تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾(7) وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾(8).
فهذه الآية والتي قبلها متصديَّة لبيان الغاية والوظيفة التي بُعث الرسولُ الكريم (ص) للقيام بها، فهو قد بُعث ليتلوَ على الناس آياتِ الله تعالى، وبُعث لتهذيبِهم وتزكيتهم وترويضهم على تمثُّل السجايا الحميدةِ ومكارم الأخلاق ومحاسنِ الصفات، وبُعث لتعليمِهم مقاصدَ القرآن وقيَم الدين، وبُعثَ لتعليمهم وإرشادِهم إلى مقتضياتِ الحكمة والتعقُّل، وهدايتهم إلى الطريق الذي أراده اللهُ لعباده أنْ يسلكوه.
سيرة الرسول (ص) والقيمُ التي جاء بها شاهدٌ:
فتلك هي الغايةُ التي بُعث لها الرسول (ص) وتلك هي الوظيفةُ التي كان عليه القيام بها، وعلى ذلك جرت سيرتُه المباركة في العهد المكي يدعو إلى التوحيد ونبذ الشرك وعبادة الأوثان، ويدعو إلى العدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكرِ والبغي وأكلِ مال اليتيم واستضعافِ النساء والفقراء والمُعدَمين، ويدعو إلى انصاف المظلوم وأداءِ الحقوق والوفاء بالعهود، ويدعو إلى التسامحِ وصلةِ الأرحام وإصلاحِ ذات البَين والتعاون على البرِّ والتقوى، وعدم الممالئةِ والتواطئ على الظلم والعدوان، ويدعو إلى الصدقِ وأداءِ الأمانة والتحلِّي بمكارمِ الأخلاقِ ومحاسنِ الصفات وسجايا الخير، ويحضُّ على طعامِ المسكين والتواضعِِ ونبذِ العصبيَّة وحميَّة الجاهليَّة، ونبذِ الاستكبارِ والتعالي على الضعفاء وامتهانِهم وتسخيرِهم بغير وجه حقٍّ، ويُشدِّد على احترامِ الدماءِ والأعراض وعدم التعدِّي عليها وعلى أموال الناس والأكلِ لها بالباطل بالسرقةِ والغصبِ والابتزازِ والقمارِ والغشِّ والغبنِ والاحتيالِ وبخسِ المكيالِ والميزانِ والربا والاستئثار، وكان يدعو إلى الاعتناء بذوي الحاجة والخصاصة والسعيِ في قضاء حوائجهم ومواساتهم بل وإيثارهم على النفس، وكان يدعو إلى نبذ التمايز والتفاخرِ بالأنساب والأعراق، ويؤكِّد أنَّه لا فضل لعربيٍّ على أعجمي ولا لأبيضَ على أسود وأنَّ الناس سواسيةٌ كأسنان المشط، فليس لأحدٍ أنْ يتعالى على أحدٍ.
خلفيَّات نزول آيات الجهاد:
ولهذا لم ترُق دعوتُه لجبابرة قريش وذوي النفوذ والسطوة والمترفين الذين كانوا ينتفعون من الوضع السائد، وذلك هو ما دفعهم إلى منابذة الرسول (ص) والإساءة إليه وإيذائه وإيذاء أتباعه وتعنيفهم والقسوة عليهم وتصفية بعضهم والتضييق عليهم في معايشهم وأُسرهم فاضطر النبيُّ (ص) إلى أمر عددٍ وازنٍ منهم بالهجرة إلى بلاد الحبشة فرغم سعة الجزيرة العربية إلا أنَّ النبيَّ (ص) كان يعلم أنَّ أتباعه لن يكونوا في مأمنٍ من استهداف قريش في مختلفِ بقاع الجزيرة العربية، وذلك لتعاظم نفوذ قريش بين مختلف القبائل العربية، ورغم هجرتهم إلى تلك البلاد النائية إلا أنَّ قريشاً لم تتركهم وشأنهم بل سعت جاهدةً لاسترجاعهم لولا عنايةُ الله تعالى والشهامةُ التي تحلَّى بها ملكُ الحبشة.
ولم تنتهِ فصولُ العذاب والإيذاء للنبيِّ (ص) وأتباعه عند هذا الفصل بل إنَّ فشل قريش في استرجاع المهاجرين إلى الحبشة دفعهم إلى الإمعان في إيذاء مَن بقي من المسلمين في مكة، فكان التضييقُ عليهم والتعنيفُ بهم يزدادُ ضراوةً وقسوةً كلَّما شعروا بالفشل في إجهاض الدعوة أو الحدِّ من انتشارها، ولهذا لجأوا إلى استهداف النبِّي (ص) وأقاربه، وذلك بمحاصرته وعشيرته في شِعب أبي طالب، وتعاهدت بطون قريش مجتمعةً على منع الناس قسراً من التعامل مع النبيِّ (ص) وبني هاشهم ومن بيعهم الطعام ومختلفِ المتاع وضروراتِ المعاش ومنع الناس من التزوُّج فيهم ومنهم، وامتدَّ ذلك ثلاث سنين أو تزيد حتى وضَعَ النبيُّ(ص) حجَرَ المجاعةِ على بطنِه، واضطر بنو هاشمٍ إلى أنْ يقتاتوا أوراقَ الشجر والجلود.
وبعد أنْ انتهى الحصار وتُوفي أبو طالب اضطرَّ النبيُّ (ص) إلى أنْ يهاجر إلى الطائف فلاحقته قريشٌ ووظَّفت نفوذها لافشال دعوته هناك فاضطرَّ للعودة إلى مكة بعد أن أدمى أهل الطائف جسده الشريف بما كانوا يرضخونه به من الحجارة وبعد أنْ أمعنَ سفاؤهم وصبيانهم في إيذائه والسخرية منه.
وبعد عودته إلى مكة الشريفة واشتداد الوطأة عليه وعلى أتباعه جاء الأمرُ بالهجرةِ إلى يثربَ فأخذ المسلمون يتسلَّلون إلى يثربَ سرَّاً فعمدتْ قريشٌ إلى مصادرة ما خلَّفوه من أموالهم والاستيلاءِ على دورِهم ومواشيهم كما وصف القرآن ذلك في قوله تعالى: ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي﴾(9) وقوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾(10) ثم إنَّ بطون قريشٍ اجتمع رأيُها على تصفية النبيِّ (ص) إنْ أُتيح لهم ذلك أو حبسه أو إخراجه إلى الجهة التي يُريدونها كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾(11) لذلك أمره اللهُ تعالى بالهجرة سرَّاً إلى يثربَ والأمرِ لعليٍّ (ع) أنْ يبيتَ على فراشِه إيهاماً لهم، لأنَّهم كانوا قد اجتمع من كلِّ بطنٍ واحدٌ أو أكثر حول داره، وكانوا قد عقدوا العزم على اقتحامها عليه ليضربوه مجتمعين بأسيافهم ضربةَ رجلٍ واحد ليضيع دمُه بين القبائل، وقد أبطل اللهُ مكرَهم، فرجعوا خائبين بعد أن تفاجئوا بأنَّ المضَّجع على فراشِ الرسول (ع) كان عليَّاً (ع) ولم يكن الرسول (ص).
وهنا بدأ فصلٌ جديدٌ من الاستهداف للرسول (ص) ودعوته وأتباعه هو أشدُّ ضراوةً وخطورة على الدعوة من الفصول التي سبقته، فقد عقدوا العزم على أن لا يتركوه وشأنَه رغم هجرته عنهم، فبدأوا بتحذير قبائل العرب المنتشرة في عموم بقاع الجزيرة العربية المترامية الأطراف تحذيرهم من متابعته أو حتى التواصل معه، وكذلك عملوا على إبرام التحالفات مع قبائل اليهود المحيطة بأطراف يثرب وتحريضِهم على نقض العهود التي أبرمها الرسولُ (ص) معهم فوْرَ وصولِه إلى دار هجرته، فصار النبيُّ (ص) ومَن معه في المدينة فيما يُشبهُ العزلة الخانقة اقتصادياً واجتماعياً، وأصبح من العسير على النبيِّ (ص) التبليغ لدعوته فيما هو أوسع من حدود المدينة.
ثم انتقلت قريشٌ من مرحلة العزل والمحاصرة إلى مرحلة التحريض لقبائل العرب على مناوشته ومداهمة أطراف المدينة، فكان على الرسول (ص) أن يعمل على اختراق هذه العزلة وفكِّ هذا الحصار، وذلك بمجاهدة قريش التي عملت جاهدةً على منعه من تبليغ دعوته إلى قبائل العرب كما قال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ / الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾(12) فما إنْ استهدف الرسولُ (ص) والعددُ اليسير من المسلمين قافلةَ قريش العائدة من الشام حتى استشاطت غضباً فعبأت جيشاً يزيدُ على عدد المسلمين ثلاثة أضعاف وأصرَّت على الحرب رغم سعي الرسول (ص) على تفاديها، وشاءَ الله تعالى أنْ تقعَ الحرب في بدر، ونصَرَ اللهُ تعالى المسلمينَ على ضعفِهم كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾(13) فعادت قريشٌ خائبة إلى مكة وأخذت تعدُّ العدَّة إلى حربٍ أخرى، فلمَّا استوثقت من قدرتِها جاءت بخيلها وخيلائها، وكان عددُ جيشها أضعافَ ما كان عليه عددهم في بدر، وعسكرت قريباً من جبل أحد عند أطراف المدينة بغيةَ اقتحامها، فمنعَهم المسلمون من اقتحامها وتصدَّوا لقريشٍ عند جبل أُحد، وبعد أنْ حميَ الوطيس وقعت الهزيمةُ في صفوف المسلمين، وأصيب النبيُّ (ص) بجراحاتٍ بليغة وكاد أنْ يُقتل لولا عنايةُ الله تعالى واستبسالُ من ثبت معه وفي طليعتهم عليٌّ أميرُ المؤمنين (ع) فلم تتمكن قريش من اقتحام المدينة، وعادت أدراجَها إلى مكة لتبدأ الاستعداد لحربٍ أخرى استعانت فيها بحلفائها من قبائل العرب فحزَّبت الأحزاب وجيشت الجيوش فأحاطوا بالمدينة من أطرافها وتمالأوا مع اليهود لينتقضوا على المسلمين من داخل المدينة، وقد صوَّر القرآنُ المجيد حجمَ الكرْب والرعبِ الذي أصاب المسلمين من محاصرة قريش وأحزابها فقال تعالى: ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا / هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾(14) وامتدَّ حصارُ قريش وحلفائها للمدينة قرابة الشهر، فلولا عنايةُ الله تعالى وحُسنُ إدارة الرسول (ص) للأزمة والوهنُ الذي أصاب قريشاً من سيفِ عليٍّ (ع) لاقتحمت بأحزابها المدينة، وحينذاك لن تقومَ للمسلمين قائمة.
اللازم فهمُ آيات الجهاد في سياقها:
فمِن هذه الأحداث والتي سبقتها والأحداث التي لحقتها نفهم المغزى من آيات الجهاد فلا يصح أن نفصل هذه الآيات عن سياقها، فالجهاد بالسيف إنَّما تمَّ تشريعه بعد أن استفرع الرسول الكريم (ص) وسعه واستنفذ تمام الوسائل السلمية لحماية دعوته وكيان المسلمين فلما وجد قريشاً والمشركين لا يألون جهداً في العمل على إجهاض دعوته والإجهاز على كيانه الوليد والتصفية لوجوده لم يكن من خيار سوى التشريع للجهاد بالسف لحماية الوجود الإسلامي الذي عقدت قريش والمشركون على إعدامه ومحو أثره ولهذا نزل القرآن بالإذن بالجهاد والقتال فجميع الحروب التي خاضها الرسول (ص) دون استثناء كانت دفاعيَّة وحتى الحروب التي بادر إليها النبيُّ (ص) كانت استباقية بمعنى أنَّه حين يعلم بأنَّ قبيلة من حلفاء قريش كانت تستعد لمداهمته فإنَّه كان يبادر إلى حربها قبل أن تستكمل استعدادها وأما القبائل التي نأت عن محاربته أو الممالئة عليه فإنَّه لم يكن يبادرها بالحرب.
الجهاد بالسيف شُرِّع للدفاع وردِّ الاعتداء:
فالجهاد بالسيف إنَّما شُرِّع للدفاع وردِّ الاعتداء والحماية للدعوة وكيانها، وقد نصَّت على ذلك الكثير من الآيات كقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ / وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾(15) وقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾(16) وقوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾(17) وقوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ .. وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ / وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾(18).
لم تكن الغايةُ من تشريع الجهاد توسيع نطاق الدعوة بالسيف:
والآيات التي تنصُّ على أنَّ الجهاد إنَّما شُرِّع لردِّ الاعتداء ودحرِ المعتدين المحاربين كثيرةٌ لا يسعنا استيعابها في المقام، فلم تكن الغاية من تشريع الجهاد توسيع نطاق الدعوة بالسيف، فالدعوةُ إلى التوحيد إنَّما هو بالحكمة والموعظة الحسنة كما نصَّ القرآن على ذلك، والسيفُ إنَّما هو للساعين بالسيف والقوة إلى تصفية الدعوة وأتباعها والذين يقفون في طريق إيصال الدعوة إلى الناس، ويعملون بالقهر والغلبة على فتنهم عن دينهم لذلك قال الله تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا﴾(19).
فلم تُؤثر في تاريخ العهد النبويِّ واقعة واحدة ألجأ فيها النبيُّ (ص) قبيلةً أو أحداً على القبول بدعوته، فكان إذا حاربته قبيلةٌ وقُدِّر له الانتصار عليهم تركهم بعد هزيمتهم وشأنهم فمَن شاء فليؤمن ومن شاء بقي على كفره وحتى قريش التي حاربته وحزَّبت عليه الأحزاب ووظَّفت نفوذها لمنع القبائل العربية من القبول بدعوته بل ومن التواصل معه فإنَّه (ص) بعد أنْ كسر شوكتهم ودخل عليهم مكة فاتحاً لم ينتقم منهم، ولم يُلجأ أحداً منهم على الإيمان بدعوته بل قال لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"(20) والكثير منهم لم يُسلم في أول الأمر وإنَّما أسلم الكثيرُ منهم بعد ذلك لأنَّهم وجدوا الإسلام واقعاً قد فَرض نفسه عليهم، فلم يكن يسعهم إلا التعايش مع هذا الواقع الجديد، وما إن كُسرت شوكة قريش حتى توافدت القبائل على الرسول (ص) في المدينة ليقفوا على حقيقة دعوته، وعندها دخلت الكثيرُ من القبائل في دين الله أفوجا كما نصَّ على ذلك القرآن المجيد في قوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ / وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا﴾(21) فكانت قريش هي مَن تحول دون الوقوف على حقيقة الدعوة، فما إن ضعفت وانكسرت شوكتها حتى توافدت القبائل على الرسول (ص) بغية الاستماع منه إلى حقيقة ما يدعو إليه وإلى برهان صدقه ودلائله، فكان ذلك هو ما دفعهم إلى الدخول في دين الله أفواجا.
النبيُّ (ص) لم يعتمد السيف لنشر دعوته:
وممَّا ذكرناه يتبينُ أنَّ النبيَّ الكريم (ص) لم يُبعث بالسيف أي أنَّه لم يعتمد السيفَ لنشر دعوته وتبليغ رسالة ربِّه بل كان يدعو إليها بالحكمة والموعظة الحسنة، نعم لجأ إلى التوسُّل بالسيف لردِّ المعتدين والدفاعِ عن المستضعفين من أتباعه ومقارعة أئمة الكفر والمحاربين الذين يقفون سدَّاً منيعاً دون وصول دعوته للناس، فبعد أنْ لم تُجدِ معهم العهود والأيمانُ المغلَّظة كان عليه أنْ يحاربَهم لأنَّه إنْ لم يجاهدهم وتبنَّى عدم الشهر للسيف عليهم فإنَّهم لن يتركوه وشأنه بل سيعملون جاهدين على استئصاله والإجهاز على دعوته، لذلك أمره اللهُ تعالى بمحاربتهم في مثل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ﴾(22) فلو انتهوا عن عدوانهم وبغيهم وتخلَّوا عن مخططاتهم ومكرِهم بالمسلمين، وتركوا النبيَّ (ص) وشأنه لتركهم وتمحَّض عمله في الدعوة إلى رسالة ربِّه كما أمره الله تعالى بقوله: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾(23) وقوله تعالى: ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾(24).
احتمالٌ آخر لمعنى الحديث:
فإذا كان معنى ما نُسب إليه (ص) أنَّه: بُعثتُ بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبدَ الله وحده لا شريك له" إذا معناه أنَّه بُعث لإلجاء الناس وقهرهم وقسْرِهم على الإيمان بالتوحيد بواسطة السيف فهذا القول المنسوب إليه فِرية باطلة لمناقضتها لصريح القرآن.
نعم لو كان المراد من هذا الحديث المنسوب إلى النبيِّ (ص) أنَّ الله تعالى قد بعثه بتشريع الجهاد لمقارعة المعتدين المحاربين لدين الله وأتباعه فهو صحيح، فإنَّ تشريع الجهاد لهؤلاء ثابت إلى قيام الساعة، فمعنى: "بعثتُ بين يدي الساعة بالسيف" -بناءً على هذا المعنى- هو أنَّه (ص) بُعث بتشريع الجهاد للمعتدين إلى قيام الساعة، فالسيف -في الحديث- استُعمل للكناية عن الجهاد الذي وضع الإسلام له قيوداً وشروطاً صارمة ومنضبطة، وهو أمرٌ تقتضيه سيرة العقلاء ومرتكزاتهم، فليس من التعقل القبولُ بالضيم والعدوان دون أنْ تدفعَ عن نفسك وحريمك وكيانك ومقدراتك، فمعنى الحديث -لو صح- هو أنَّ جهاد المعتدين المحاربين مشروعٌ إلى قيام الساعة.
معنى: "وجُعل رزقي تحت ظلِّ رمحي":
وأمَّا قوله: "وجُعل رزقي تحت ظلِّ رمحي" فمعناه -ظاهراً- أنَّه قُدِّر له أو فُرضَ عليه أنْ يسعى لتحصيل رزقِه بجهده وكدِّه وتعبه، فذلك هو ما يضمنُ دوام عزَّته وكرامته، فقوله تحت ظلّ رمحي تعبيرٌ مجازيٌّ وكنائي أُريد به الإشارة إلى المعنى الذي ذكرناه، فلأنَّ الرمح يرمزُ في ثقافة العرب إلى بذل الجهد والمكابدة، ولأنَّه وسيلةُ الصيد، ولأنَّ حامله يكون منيعاً مهاباً لذلك استعمله الحديث للكناية عن لزوم تحصيل الرزق بالكدح والمثابرة المقتضية لدوام العزَّةِ والمهابة، ولعلَّ ممَّا يُؤيد هذا الفهم ما جاء في ذيل قوله وجُعل رزقي تحت ظلِّ رمحي" قال: "وجُعل الذلة والصغار على من خالف أمري"(25) فضمان دوام العزَّة والكرامة هو تحصيل الرزق من طريق الكدح والمثابرة.
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد واغفر لعبادك المؤمنين.
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ / فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ / إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾(26).
والحمد لله ربِّ العالمين
خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور
20 من شهر ربيع الأول 1445هـ - الموافق 6 اكتوبر 2023م
جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز
1- مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج2 / ص50.
2- كما في صحيحة هشَامِ بْنِ الْحَكَمِ وغَيْرِه عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: "خَطَبَ النَّبِيُّ (ص) بِمِنًى فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ مَا جَاءَكُمْ عَنِّي يُوَافِقُ كِتَابَ اللَّه فَأَنَا قُلْتُه ومَا جَاءَكُمْ يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّه فَلَمْ أَقُلْه" الكافي -الكليني- ج1 / ص69، ومعتبرة السَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه (ص): "إِنَّ عَلَى كُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً وعَلَى كُلِّ صَوَابٍ نُوراً فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّه فَخُذُوه ومَا خَالَفَ كِتَابَ اللَّه فَدَعُوه" الكافي -الكليني- ج1 / ص69، وصحيحة أَيُّوبَ بْنِ الْحُرِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) يَقُولُ: "كُلُّ شَيْءٍ مَرْدُودٌ إِلَى الْكِتَابِ والسُّنَّةِ وكُلُّ حَدِيثٍ لَا يُوَافِقُ كِتَابَ اللَّه فَهُوَ زُخْرُفٌ" الكافي -الكليني- ج1 / ص69، ومعتبرة هشام بن الحكم عن الصادق (ع) قال: ".. فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالفَ قول ربِّنا تعالى وسنَّة نبينا محمد (صلى الله عليه وآله)" جامع أحاديث الشيعة -البروجردي- ج1 / ص262.
3- سورة النحل / 125.
4- سورة المؤمنون / 96.
5- سورة فصلت / 33-35.
6- سورة الغاشية / 21-24.
7- سورة البقرة / 151.
8- سورة الجمعة / 2.
9- سورة آل عمران / 195.
10- سورة الحشر / 8.
11- سورة الأنفال / 30.
12- سورة الحج / 39-40.
13- سورة آل عمران / 123.
14- سورة الأحزاب / 10-11.
15- سورة البقرة / 190-191.
16- سورة التوبة / 36.
17- سورة البقرة / 194.
18- سورة الأنفال / 60-62.
19- سورة النساء / 75.
20- الكافي -الكليني- ج3 / ص513، السنن الكبرى -البيهقي- ج9 / ص118.
21- سورة النصر / 1-2.
22- سورة التوبة / 12.
23- سورة الأنفال / 61.
24- سورة النساء / 90.
25- مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج2 / ص50.
26- سورة الكوثر / 1-3.