على أعتاب موسم عاشوراء

الحمدُ لله الأَوَّلِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ ولَا قَبْلَ لَه، والآخِرِ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ ولَا بَعْدَ لَه، الظَّاهِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِالْقَهْرِ لَه، والْمُشَاهِدِ لِجَمِيعِ الأَمَاكِنِ بِلَا انْتِقَالٍ إِلَيْهَا، لَا تَلْمِسُه لَامِسَةٌ ولَا تُحِسُّه حَاسَّةٌ، هُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَه، وفِي الأَرْضِ إِلَه وهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ، نَحْمَدُه بِجَمِيعِ مَحَامِدِه كُلِّهَا عَلَى جَمِيعِ نَعْمَائِه كُلِّهَا ونَسْتَهْدِيه لِمَرَاشِدِ أُمُورِنَا ونَعُوذُ بِه مِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا ونَسْتَغْفِرُه لِلذُّنُوبِ الَّتِي سَبَقَتْ مِنَّا ونَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه بَعَثَه بِالْحَقِّ نَبِيّاً دَالاًّ عَلَيْه وهَادِياً إِلَيْه فَهَدَى بِه مِنَ الضَّلَالَةِ واسْتَنْقَذَنَا بِه مِنَ الْجَهَالَةِ.

عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله والعمل بطاعته، واعلموا أنَّ أقرب ما يكون العبد إلى الرحمة والمغفرة حين ما يعمل بطاعة الله ومناصحته في التوبة، فعليكم بتقوى الله عز وجل فإنَّها تجمعُ من الخيرِ ما لا يجمعُ غيرُها ويُدرَكُ بها مِن الخيرِ ما لا يُدركُ بغيرها من خيرِ الدنيا وخيرِ الآخرة يقول الله سبحانه: ﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ﴾([1]).

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ ورَسُولِكَ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وإِمَامِ الْمُتَّقِينَ ورَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، اللَّهُمَّ وصَلِّ عَلَى عليٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ووَصِيِّ رَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وصلِّ على السيدةِ الطاهرةِ المعصومة فاطمةَ سيدةِ نساءِ العالمين، وصلِّ أئمةِ المسلمين الحسنِ بنِ عليٍّ المجتبى، والحسينِ بن عليٍّ الشهيد، وعليِّ بنِ الحسينِ زينِ العابدين، ومحمدِ بنِ عليٍّ الباقر، وجعفرِ بنِ محمدٍ الصادق، وموسى بن جعفرٍ الكاظم، وعليِّ بن موسى الرضا، ومحمدِ بن عليٍّ الجواد، وعليِّ بن محمدٍ الهادي، والحسن بن عليٍّ العسكري، والخلفِ الحجَّةِ بن الحسن المهدي صلواتُك وسلامُك عليهم أجمعين.

اللهمَّ صلِّ على وليِّ أمرِك القائمِ المهدي، اللهم افْتَحْ لَه فَتْحاً يَسِيراً وانْصُرْه نَصْراً عَزِيزاً، اللَّهُمَّ أَظْهِرْ بِه دِينَكَ وسُنَّةَ نَبِيِّكَ حَتَّى لَا يَسْتَخْفِيَ بِشَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ مَخَافَةَ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ.

أما بعدُ أيُّها المؤمنون:

ونحن على أعتابِ موسمِ عاشوراء والذي هو مِن أخصبِ المواسمِ الدينيَّةِ وأكثرِها تأثيراً وأقدرِها على تأصيلِ القيمِ الإسلاميَّةِ نظراً للاستعدادِ الروحي لدى مختلفِ الشرائحِ الاجتماعيَّةِ لتلقِّي وتمثُّلِ قيمِ النهضةِ الحسينيَّة والتي هي قيمُ الإسلام. وذلك ما يضعُ القائمينَ على احياءِ موسمِ عاشوراء أمامَ مسئوليةٍ إلهيَّةٍ كبرى تسترعي منهم شحذَ الهممِ وبذلِ أقصى المجهودِ من أجلِ انجاحِ هذا الموسمِ العظيم.

وضابطُ نجاحِ موسمِ عاشوراء يكونُ بتمكُّنِ القائمينَ على إحيائِه من الإنجازِ لأمرينِ أساسيين:

الأمر الأول: هو تأصيلُ وتجذيرُ قيمِ النهضةِ الحسينيَّةِ في المجتمعِ روحيَّاً وثقافياً وعلى مستوى السلوكِ والعلائق، فبمقدارِ ما نقتربُ بالمجتمعِ من قيمِ النهضة تتحدَّدُ درجةُ النجاح، وهذا ما يسترعي من الخطباءِ والرواديد والشعراء وكتابِ المسرحيَّات والرسَّامينَ التركيزَ على بلورةِ قيمِ النهضةِ الحسينيَّةِ أولاً وصياغتِها ثانياً بمختلفِ الأساليب المؤثرةِ والمقتضيةِ لتأصيلها في وجدانِ المجتمعِ والباعثةِ على تمثُّلها في سلوكِه وممارساته اليوميَّة وعلاقاتِه الشخصيةِ والعامة.

فحين يتمكنُ مثلُ الخطباءِ والشعراءِ والكتَّابِ والرسَّامين من بلورةِ قيم النهضةِ الحسينيَّةِ كالصدقِ والوفاءِ والعبوديةِ الخالصةِ للهِ تعالى، والتقيُّدِ التامِّ بشريعةِ الله في السرِّ والعلنِ، والكرامةِ والإباءِ والإيثارِ والعفَّةِ والسماحةِ والإخاءِ والتضامنِ والتكافلِ والتضحيةِ بكلِّ نفيسٍ من أجلِ إعلاءِ كلمةِ الله، وحبِّ الخيرِ ونبذِ الشرور، والصبرِ على عظائمِ الأمورِ وسعةِ الصدرِ ونبذِ اليأسِ والثقةِ بوعدِ الله تعالى.

حين يتمكنُ هؤلاءِ الكرامُ من بلورةِ هذه القيمِ الحسينيَّة ويجتهدونَ ما وسعَهم في ابتكارِ مختلفِ الوسائلِ الباعثةِ على تمثُّلِ هذه القيمِ فإنَّهم حينذاك يكونونَ على درجةٍ متميِّزةٍ من النجاح، فالإحياءُ لموسمِ عاشوراء يساوقُ الإحياء لمثلِ هذه القيمِ التي نهضَ الحسينُ (ع) من أجلِ تأصيلِها وتجذيرِها في وجدانِ الأمة وثقافتِها.

والأمر الثاني الذي تتحدَّدُ به درجةُ النجاحِ هي طبيعةُ الرسالةِ التي نبعثُها للعالمِ من خلالِ ما نُمارسُه في عمليَّةِ الإحياءِ لموسمِ عاشوراء، فحين نقدِّمُ للعالمِ صورةً مشرقةً لنهضةِ الحسين (ع) كما هي واقعاً نكونُ قد احرزنا درجةَ النجاح، وكلَّما كانتِ الصورةُ أكثرَ اشراقاً وتعبيراً عن واقعِ النهضة كلَّما أحرزنا درجةً متقدمةً من النجاح، فقيمُ النهضةِ أقربُ شيءٍ للقيمِ الإنسانيَّة وهي التعبيرُ الصادقُ لقيمِ الإسلام، فحينَ يُعبِّر الخطابُ الحسيني بجلاءٍ عن قيمِ الحسينِ ومكارمِ أخلاقِ الحسين وأهدافِ نهضةِ الحسين والشعاراتِ التي رفعَها والبطولاتِ والملاحمِ التي سطَّرها فإنَّه يكونُ قد تمكَّن من تعريفِ العالمِ بنهضةِ الحسينِ وقدَّم له صورةً ناصعةً عن قيمِ الإسلام وروَّاده وهكذا حين تكونُ مضامينُ القصيدةِ الحسينيَّة ولوحةُ الفنان وقلمُ الكاتبِ المسرحي، وكذلك حين تكونُ مظاهرُ العزاءِ والرثاءِ والمواكبِ التي نُسيِّرها والشعاراتِ التي نكتبُها ونرفعُها والكلماتِ التي نُردِّدُها والنشيد الذي نترنَّمُ به، حين يكون كلُّ ذلك واقعاً في صراطِ الحسين ومناسباً لوقارِه وكمالِ ورعِه وحريجتِه في الدينِ فإنَّنا نكونُ قد نجحنا في تسليطِ شيءٍ من الضوءِ على واقعِ نهضة الحسينِ (ع) وهو ما يفضي إلى أنْ يكونَ الحسينُ بقيمِه ومبادئِه حاضراً في وجدانِ الامم على اختلافِ مشاربِها ومذاهبِها.

فنهضةُ الحسين (ع) سماويةٌ، فهي لكلِّ أبناء الأرض، والمسئوليَّةُ التي تقعُ على عاتقِنا هي ايصالُها ناصعةً مشرقةً لكلِّ أبناء الأرض، فكلُّ خطابٍ أو عملٍ أو ممارسةٍ تُساهمُ في تقزيمِ هذه النهضة أو تحجيمِها أو التشويشِ على عالميَّتِها يكونُ جنايةً -وإنْ لم تكن مقصودة- بحقِّ الحسين (ع) وهي جنايةٌ بحقِّ الدين.

هذا هو المحورُ الأولُ والمحورُ الثاني الذي أختمُ به الحديثَ هو انَّه لا ينبغي أنْ تستفزَّ الشعاراتُ والأعلامُ ومظاهرُ الحِدادِ أيامَ عشوراء أحداً من المسلمين، فالحسينُ (ع) إمامُ المسلمينَ قاطبةً وهو نجلُ الرسول (ص)، وشعاراتُ نهضتِه وخطاباتُه وكلماتُ أهلِ البيتِ (ع) التي تُكتبُ وتُرفعُ في المحافلِ والطرقاتِ إنَّما تعكسُ قيمَ الإسلام ومبادءَه، والأعلامُ والسوادُ الذي تتَّشحُ به القرى والمُدن إنَّما هو للتعبيرِ عن الحِدادِ والحزنِ والأسى على نجلِ الرسول (ص) وريحانتِه وسيدِ شبابِ أهلِ الجنة، لذلك لا ينبغي أنْ يستفزَّ ذلك أحداً من المسلمين.

اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآل محمدٍ الطيبينَ الطاهرينَ الأبرارِ الأخيار، اللهم اغفر ذنوبَنا واستُر عيوبَنا واكشِف ما نزل بنا وارحم موتانا وشهداءَنا وفكَّ أسرانا وأرجع مسافرينا واشفِ مرضانا وجرحانا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياءٍ منهم والأموات تابعِ اللهمَّ بيننا وبينهم بالخيرات إنَّك مولانا مجيبُ الدعوات وغافرُ الخطيئات ووليُّ الباقياتِ الصالحات إنَّك على كلِّ شيء قديرٌ شهيد.

﴿إِنَّ اللَّه يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإِحْسَانِ وإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ويَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ والْمُنْكَرِ والْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾([2])

خطبة الجمعة - الخطبة الثانية - الشيخ محمد صنقور

25 من ذي الحجة 1436هـ - الموافق 9 أكتوبر 2015م

جامع الإمام الصادق (عليه السلام) - الدراز


[1]- سورة النحل / 30.

[2]- سورة النحل / 90.