واقعُ الشفاعةِ والمحرومونَ منها

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله الذي يُحيي الموتى ويُميتُ الأحياءَ وهو على كلِّ شيء قدير، والحمدُ لله الذي تواضعَ كلُّ شيءٍ لعظمته، والحمد لله الذي ذلَّ كلُّ شيء لعزَّته، والحمد لله الذي استسلمَ كلُّ شيء لقدرته، والحمد لله الذي خضع كل شيء لمُلكه، والحمد لله الذي يفعلُ ما يشاء ولا يفعل ما يشاءُ غيرُه، وَأَشْهَدُ أَن لا إِلهَ إِلاّ الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً (ص) عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ

 عبادَ اللهِ اتقوا اللهَ، وأَشْعِرُوا قُلُوبَكُمْ خَوْفَ اللَّه، وتَذَكَّرُوا مَا قَدْ وَعَدَكُمُ اللَّه فِي مَرْجِعِكُمْ إِلَيْه مِنْ حُسْنِ ثَوَابِه كَمَا قَدْ خَوَّفَكُمْ مِنْ شَدِيدِ الْعِقَابِ، فَإِنَّه مَنْ خَافَ شَيْئاً حَذِرَه، ومَنْ حَذِرَ شَيْئاً تَرَكَه.

دلالة الآية على وقوع الشفاعة:

يقول الله تعالى في محكم كتابه المجيد: ﴿يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾(1) هذه الآية المباركة هي إحدى الآيات الواضحةِ الدِّلالةِ على ثبوت الشفاعة، وأنَّها تنفعُ في نفي العقوبة أو تخفيفِها، وأنَّ ثمة مَن له مقامَ الشفاعة يوم القيامة وهم الأنبياء والأولياء والصالحون والصدِّيقون والشهداء وكذلك الملائكة، فهؤلاءِ هم المعنيُّون بقوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾ وقد ورد في تفسير القمِّي عند قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾(2) قال: لا يشفع أحدٌ من أنبياء الله ورسله يوم القيامة حتى يأذنَ الله له إلا رسول الله صلى الله عليه وآله فإنَّ الله قد أذِن له في الشفاعة من قبلَ يوم القيامة"(3).

هذا وقد تواترت الروايات عن الرسول (ص) وأهل بيته (ع) أنَّ الرسول (ص) يُشفَّع فيشفع وأنَّ الأئمة من أهل البيت(ع) يُشفَّعون فيشفعون، فمن ذلك ما أورده القمي بسندٍ معتبر عن أبي جعفرٍ (ع): "ما أحد من الأولين والآخرين إلا وهو محتاجٌ إلى شفاعة محمد صلى الله عليه وآله يوم القيامة، ثم قال أبو جعفر عليه السلام: إن لرسول الله صلى الله عليه وآله الشفاعةَ في أُمتِه ولنا الشفاعةُ في شيعتنا"(4).

وأورد الشيخ الصدوق بسندٍ معتبر عن محمد بن أبي عمير قال: سمعتُ موسى بن جعفر (ع) قال: حدثني أبي عن آبائه عن عليٍّ عليهم السلام قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إنَّما شفاعتي لأهلِ الكبائر من أُمتي"(5).

وأورد في الفقيه قال: قال الصادق عليه السلام: "شفاعتُنا لأهل الكبائر من شيعتِنا"(6).

هل الشفاعة تُنافي العدل الإلهي:

وهنا أودُّ أنْ أُجيب على إشكالٍ يُثيره البعض وهو أنَّ الشفاعة للعصاة وأهل الكبائر يتنافي مع العدل الإلهي، إذ أنَّ الشفاعة لمرتكب الكبيرة تقتضي سقوط العقوبة عنه وبذلك يتساوى مع المطيع لله تعالى، فكلٌّ منهما ينجو من العذاب، وكلٌ منهما يدخل الجنَّة، وهذا منافٍ للعدل الإلهي، إذ كيف يُساوي بين المطيع والعاصي فيُدخل كلاً منهما الجنَّة؟

والجواب: هو أنَّ قبولَ الشفاعة تفضُّلٌ من الله تعالى، لذلك فهي لا تُنافي العدل الإلهي، لأنَّ معنى العدل هو إعطاء كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فمَن كان مستحقَّاً للجنَّة فإنَّه سيدخلُها، ومَن كان مستحقَّاً لمرتبةٍ فيها فإنَّه سينالُها. وعليه فلو تفضَّل الله تعالى بعد ذلك على بعض مَن لا يستحقُّ الجنَّة بإدخاله الجنَّة فإنَّ ذلك لا يُنقِصُ من حقِّ أصحاب الجنَّة شيئاً، فهم سيُعطَون حقَّهم وزيادة إلا أنَّ ذلك لا يمنع من أنْ يتفضَّل اللهُ تعالى على مَن لا يستحِقُّ فيُدخله بفضله الجنَّة.

ويُمكن التنظير لذلك بما لو استأجرتَ اثنين للقيام بعملين فأنجزَ أحدُهما العمل وأهمل الآخر فلم يُنجِزْه، فالأوَّل يكون مُستحقِّاً للأُجرة والآخرُ لا يكونُ مستحقَّاً لها. فلو أَعطيتَ الأوَّل أُجرته فإنَّك تكون قد أَوفيته حقَّه فتكون بذلك عادلاً، وأمَّا الآخر الذي لم يُنجزْ عملَه فإنَّ عدم إعطائه للأُجرة لا يكون ظلماً ولكن لو تصدَّقتَ عليه بها فإنَّك تكونُ متفضِّلاً، فهو إذن تفضُّلٌ على الثاني وليس ظلماً للأوَّل، لأنَّ الأوَّل قد استوفى حقَّه كاملاً، والثاني قد أُعطيَ من أموالِ المالك الخاصَّة التي لا يستحقُّها الأوَّل والتي للمالك أنْ يفعلَ بها ما يشاء.

نعم قد يُقال إنَّ الله تعالى قد ساوى إذن بين العاصي والمُطيع فأدخل كلَّاً منهما الجنَّة فإنَّه يُقال إنَّ ذلك لا يُنافي العدالة بعد أنْ كان المستحقُّ قد استوفى حقَّه كاملاً، فليس لصاحب الحقِّ أنْ يمنع مَن عليه الحق من أنْ يتفضَّل على غير ذي الحق إذا كان قد استوفى منه حقَّه كاملاً. هذا أولاً.

الشفاعة لا تعني مساواة المُطيع للعاصي ولا تنفي العقوبة:

وثانياً: إنَّ الشفاعة لا تعني مساواة المُطيع للعاصي فإنَّ الدرجات في الجنَّة متفاوتة، فقبول الشفاعة في العاصي وإدخاله الجنَّة لا يعني أنَّه سيحظى بذات الدرجة والمنزلة التي سيحظى بها المطيع هذا مضافاً إلى أنَّه قد لا ينال العاصي شفاعة الرسول (ص) وأهل بيتِه (ع) إلا بعد أنْ يُعذَّب في النار حُقَباً متمادية أو يكون قد عُذَّب في قبرِه، وأمَّا المُطيع فهو في عافيةٍ من ذلك.

المحرومون من الشفاعة:

وهنا يحسن بنا التنبيه على أمرٍ وهو أنَّ شفاعة النبيِّ الكريم (ص) وأهل بيته (ع) وإنْ كانت تشمل كلَّ مرتكبي الكبائر بمقتضى قوله (ص) "ادخرتُ شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" وبمقتضى قول الإمام الصادق (ع): "شفاعتنا لأهل الكبائر من شيعتنا" إلا أنَّ لهذا العموم استثناءاتٍ عديدةً نصَّت عليها الروايات المتواترة إجمالاً

المُستخِفُّ بصلاته:

منها: ما ورد في المستفيض عن الرسول الكريم (ص) وعن أهل بيته (ع) أنَّ شفاعتهم لا ينالها المستخف بصلاته وهو الذي لا يرعى حدودها وهي آخر ما يشغل اهتمامه.

المنكر للشفاعة:

ومنها: ما أورده الشيخ الصدوق في الأمالي والعيون عن الرضا (ع) عن آبائه أنَّ رسول الله (ص) قال: "من لم يؤمن بحوضي فلا أورده اللهُ حوضي، ومن لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي"(7).

ومفاد هذه الرواية أنَّ الله تعالى يمنح نبيَّه (ص) يوم القيامة حين يُبعث الناس للحساب حوضاً وصفت الروايات المتظافرة سعته وعذوبة مائه وأنَّ من يسقى منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا وأنَّ عليَّاً (ع) هو الساقي بمعنى أنَّه لا يُسقى أحد من هذا الحوض إلا بإذنه وأنَّ ثمة أصنافاً يذادون عن الحوض فلا يؤذن لهم بالاقتراب منه بل يدفعون عنه دفعاً كما نصَّت على ذلك روايات الفريقين ومن هؤلاء الأصناف من أحدثوا في الدين ما ليس منه ومنهم بحسب هذه الرواية من أنكر أنَّ للنبيِّ الكريم (ص) حوضاً يمنحه الله له يوم القيامة وهذا هو معنى قوله (ص): "فلا أورده اللهُ حوضي" وكذلك فإنَّ الله تعالى يمنح نبيَّه (ص) مقام الشفاعة، فمن أنكر أنَّ للنبيِّ (ص) هذا المقام المحمود فإنَّه سيكون محروماً من شفاعته يوم القيامة فقوله: "ومَن لم يؤمن بشفاعتي فلا أنالَه الله شفاعتي" دعاءٌ من النبيِّ (ص) وهو مستجابٌ حتماً فلن يحظى من أنكر شفاعة النبيِّ (ص) بشفاعته يوم القيامة. وورد أيضاً في هذا المعنى عن النبيِّ (ص) أنَّه قال: شفاعتي يوم القيامة حقٌّ، فمَن لم يُؤمن بها لم يكنْ من أهلها".

مصاحبة السلطان العسوف والغلوٌّ في الدين:

ومن الكبائر التي لا يحظى مقترفها بشفاعة النبيِّ (ص) مصاحبة السلطان العسوف والغلوُّ في الدين كما ورد ذلك في الخصال عن النبيِّ (ص) أنه قال: "رجلان لا تنالهما شفاعتي: صاحب سلطانٍ عسوفٍ غشومٍ، وغالٍ في الدين مارقٌ"(8) وفي قرب الإسناد عن الصادق (ع) عن أبيه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله: صنفان لا تنالهما شفاعتي: سلطانٌ غشومٌ عسوفٌ، وغالٍ في الدِّين مارقٌ منه غير تائبٍ ولا نازع"(9).

فالرواية الثانية أفادت أن السلطان العسوف الظلوم محروم من الشفاعة والرواية الأولى أفادت أنَّ صاحب السلطان العسوف وهو الممالئ أو المعين له على الظلم والبغي محروم من الشفاعة، وأفات كلا الروايتين أنَّ الغلوَّ في الدين من موجبات الحرمان من الشفاعة، والمراد من الغلوِّ في الدين هو التجاوزُ في العقيدة أو في السلوك للحدِّ الذي رسمه الدين وبيَّنه، وحدود الدِّين تُعرف من طريق مَن جعلهم الله تعالى أدلاء على دينه وهم النبيُّ الكريم (ص) وأهل بيته (ع) فمَن أضاف شيئاً في الدين من عنده وزاد فيه ما لم يثبت عنهم أو ثبت عنهم نقيضُه فهو من الغلاة بالمعنى الأعم.

الإيذاء لذرية الرسول (ص):

ومن الكبائر التي لا يحظى مقترفها بالشفاعة الإيذاء لذرية الرسول (ص) كما ورد عن الإمام الصادق (ع) عن آبائه عن رسول الله (ص) قال: "إذا قمتُ المقام المحمود تشفَّعت لأهل الكبائر من أمتي فيشفِّعني اللهُ فيهم، والله لا تشفَّعتُ فيمن آذى ذريتي"(10).

والظاهر أنَّ المراد في الرواية الشريفة من ذرية الرسول (ص) لا يختصُّ بنسلِ عليٍّ وفاطمة القريبين بل يشمل مطلق النسل المبارك لعليٍّ وفاطمة (ع) ويؤيد ذلك ما أورده الشيخ الصدوق بسنده عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام قال النظر إلى ذريتنا عبادة فقيل له يا ابن رسول الله النظر إلى الأئمة منكم عبادة أو النظر إلى جميع ذرية النبي (ص) قال بل النظر إلى جميع ذرية النبي (ص) عبادة ما لم يفارقوا منهاجه ولم يتلوثوا بالمعاصي"(11).

تعاطي المسكرات:

ومن كبائر الذنوب الموجبة للحرمان من الشفاعة تعاطي المسكرات فقد ورد عن الإمام الصادق (ع) أنَّه قال: "إنَّ شفاعتنا لا تَنال مستخفًّا بالصلاة، ولم يرد علينا الحوض مَن يشرب من هذه الأشربة، فقال له بعضُهم: أيُّ أشربةٍ هي؟ فقال (ع): كلُّ مسكر"(12).

البغضُ لعليِّ (ع) ونصب العداء لأهل البيت (ع):

ومن كبائر الذنوب الموجبة للحرمان من الشفاعة بل هي من أوبقها البغض لعليٍّ (ع) وكذلك البغض ونصب العداء لأهل بيته (ع) فمما ورد في ذلك ما رواه الشيخ الطوسي بسنده عن ابن عباس أنَّ رسول الله (ص) قال لعليٍّ (ع): "قد أفلح مَن والاك وخاب وخسِرَ من قلاك -أي خاب وخسر من أبغضك- ثم قال: محبُّو محمدٍ (ص) محبُّوك ومبغضوه مبغضوك لا تناله شفاعة محمَّدٍ (ص)"(13). يعني أنَّ من أبغض عليَّاً (ع) فهو مبغض واقعاً لرسول الله (ص) وإنْ زعم أنَّه يُحبُّه.

وأورد الشيخ الصدوق في ثواب الأعمال بسنده عن حمران ابن أعين عن أبي جعفر عليه السلام قال: "لو أنَّ كلَّ ملكٍ خلقَه اللهُ عزَّ وجلَّ وكلَّ نبيٍّ بعثَه اللهُ، وكلَّ صدِّيقٍ وكلَّ شهيد شفعوا في ناصبٍ لنا أهلَ البيتِ أنْ يُخرجَه اللهُ جلَّ وعزَّ من النار ما أخرجه اللهُ أبدا، واللهُ عزَّ وجلَّ يقول في كتابه: ﴿مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا﴾"(14).فاحمدوا الله على الولاية واسألوه الثبات.

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد واغفر لعبادك المؤمنين

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / وَالْعَصْرِ / إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ / إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(15).

والحمد لله ربِّ العالمين

 

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

18 من شهر ربيع الثاني 1445هـ - الموافق 3 نوفمبر 2023م

جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز


1- سورة طه / 109.

2- سورة سبأ / 23.

3- تفسير القمي -علي بن إبراهيم القمي- ج2 / ص201.

4- تفسير القمي -علي بن إبراهيم القمي- ج2 / ص202.

5- التوحيد -الصدوق- 407.

6- من لا يحضره الفقيه -الصدوق- ج3 / ص574.

7- الأمالي ص56، عيون أخبار الرضا ج1 / ص125.

8- الخصال -الصدوق- ص63.

9- قرب الإسناد -الحميري- ص64.

10- الأمالي -الصدوق- ص370.

11- عيون أخبار الرضا (ع) -الصدوق- ج2 / ص55.

12- مستدرك الوسائل -النوري- ج17 / ص58.

13- الأمالي -الطوسي- ص604.

14- ثواب الأعمال- الصدوق- ص208.

15- سورة العصر.