أين الرجبيُّون؟

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين اللهمَّ أنتَ الملكُ المالكُ، وكلُّ شيء سوى وجهِك الكريمِ هالك، سخَّرت بقدرتِك النجومَ السوالك، وأمطرتَ بقدرتك الغيومَ السوافك، وعلمتَ ما في البرِّ والبحر، وما تسقطُ من ورقةٍ في الظلمات الحوالك، وأنزلت من السماء ماءً فأخرجت به من ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ يا سميع يا بصير يا بَرُّ يا شكور يا رحيم يا غفور يا مَن يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور يا من له الحمدُ في الأولى وهو الحكيم الخبير، أَشْهَدُ أَن لا إِلهَ إِلاّ الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً (ص) عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.

من هم الرجبيُّون؟

رُوي أنَّ الإمام الصادق (ع) أفاد فيما أفاد: أنَّه إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ من بطنان العرش: أين الرجبيون؟ فيقوم أناسٌ يُضيء وجوههم لأهل الجمع، على رؤوسِهم تيجان، تزفُّهم ملائكة عن يمينهم وعن شمالهم. فيُمنحونَ الكثيرَ من الكرامات والمِنَح الإلهية، ثم أفاد(ع) بأنَّ هؤلاء إنَّما استحقُّوا هذه المِنَح، وهذه الكرامات؛ لأنَّهم قد صاموا شيئاً من رجب ولو يوماً واحداً من أوَّلِه أو وسطه أو آخره(1).

ورُوي عن الإمام أبي الحسن موسى بن جعفر (ع) أن َّشهر "رجب شهرٌ عظيم يُضاعِفُ اللهُ فيه الحسنات، ويمحو فيه السيئات، ومَن صام يومًا من رجبٍ تباعدت عنه النار مسيرة سنة"(2).

وثمة رواية أخرى عن أهل البيت (ع): "أنَّ الله تعالى -وكرامةً لهذا الشهر الشريف عنده- خلق نهرًا في الجنَّة سمَّاه رجبًا، أشد بياضًا من اللَّبن، وأحلى مذاقًا من العسل، يُسقى منه الرجبيُّون حتى الذين صاموا يومًا واحدًا من شهر رجب"(3). ورواياتٌ أخرى كثيرة وردت في فضل هذا الشهر عن الرسول الكريم (ص)، وعن أهل بيته (ع).

ثم إنَّ الفضل في هذا الشهر المبارك، لا يختصُّ بفعل الصوم بل إنَّ العديد من العبادات يكون أجرُها مُضاعفًا في هذا الشهر الشريف كأداء العمرة والصلاة، وتلاوة القرآن، والدعاء، والمناجاة، والصدقة، والزيارة لسيد الشهداء(ع) وصِلَة المؤمنين ونفِعهم وقضاء حوائجهم، بل إنَّ كلَّ عملٍ محبوبٍ لله عز وجل فهو مُضاعفُ الأجر في هذا الشهر الشريف، فإفشاء السلام محبوبٌ لله، وله أجرٌ في سائر الشهور، ولكنَّ أجرَه في شهر رجب يكونُ مضاعفًا، وهكذا البُشْر، والخُلُق الحسن، والكلمةُ الطيِّبة، والتواصل، وصلةُ الرّحم، وبرّ الوالدين، كلُّ ذلك محبوب في سائر السنة، ولكنّه أشدُّ محبوبيةً عند الله تعالى في هذا الشهر الشريف.

شهر رجب شهر عليٍّ (ع):

 ثم إنَّ هنا فضيلةً أخرى لهذا الشهر الشريف وهي أنَّه منسوبٌ لعليٍّ (ع)، فشهرُ رجب هو شهرُ عليٍّ (ع) -كما هو المأثور عن أهل البيت (ع)(4)- وشهرُ شعبان هو شهر رسولِ الله (ص) وشهرُ رمضان هو شهرُ اللهِ جلَّ وعلا.. ولعلَّ واحدًا من مناشئ إسناد هذا الشهر الشريف لعليٍّ (ع) هو ما لهذا الإسناد من أثرٍ تربويٍّ على عشَّاق عليٍّ (ع) فهو يستبطنُ الحضَّ على تحرِّي ما يُحبُّ عليٌ فعلَه والزجرَ عمَّا يكره عليٌّ فعلَه، لذلك ينبغي للمؤمن أن يجعل من هذا الشهر منطلقًا لتمثُّل الخصال التي يُحبُّها عليٌّ (ع).

إنَّ عليًا (ع) يحبُّ الخير، يُحبُّ الطاعة لله تعالى، يُحبُّ التقوى والورع وتهذيبَ النفس، يُحبُّ الخلقَ الرفيع ومحامدَ الخصال ومكارمَ الأخلاق، يحبُّ تلاوة القرآن والدعاء والمناجاة وصلةَ الرحم والتواصل والتوادّ وإسداءَ المعروف وقضاءَ حوائج المؤمنين.. كلُّ ذلك يحبُّه عليٌّ (ع)، فمَن شاء أن يفعل ما يُحبُّه؛ عليٌّ (ع) فهذا هو ما يُحبُّه، ومَن شاء أن يكون قريبًا من عليٍّ (ع)، وبذلك يكونُ قريبًا من رسولِ الله (ص)، فيكونُ حينئذٍ قريبًا من الله عزَّوجل فليلتزمِ الخصالَ التي يُحبُّها عليٌّ (ع).

وثمَّة أمور يكرهُها ويبغضُها علي(ع)، ففي الرواية إنَّ عليًا يكرهُ الحرام، وعليّ(ع) يكرهُ كلَّ مستخبَثٍ مُستقبحٍ من الفعال والخصال، فعليٌّ (ع) يكره الفُحش والبذاءة في اللسان وسوء الخلق والكسل والضجر من العبادة وفعلِ الخير، وعليّ (ع) يكرهُ البُّخل والحسدَ والحِقد والضغينة والعجب والخيلاء وكلّ مساوئ النفس، ويكرهُ الغيبة والنميمةَ وإفشاءَ السرِّ والسخريةَ وغمط الناسِ حقوقَهم .. هذا ما يكرهه عليٌّ (ع)، فإنْ شئنا أن نكون أكثر قربًا من عليّ (ع) فليكن ما يبغضُه عليٌّ (ع) خلفَ ظهورنا، وعندئذٍ نكونُ قد سلكنا طريق عليٍّ (ع).

السؤال: لماذا خصَّ الله -تعالى- بعض الشهور والأزمنة؟

ما أودُّ الإشارةَ إليه على نحو السرعة، هو أنَّه لماذا خصَّ الله تعالى شهر رجب وبعض الشهور والأزمنة 

نماذج من الأزمنة الخاصة:

ثمَّة خصوصيَّاتٌ أعطاها الله جلَّ وعلا لبعض الأزمنة، وثمَّة خصوصياتٌ منحَها لبعض الأمكنة، فلماذا التخصيصُ والتفضيل لأزمنةٍ وأمكنة معينة؟! فمثلًا ما يتَّصل بالأزمنة، نقرأ في قوله تعالى: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾(5) ونقرأ: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾ ونقرأ: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾(6) ليس للمكلَّف أن يحج، في أيِّ شهرٍ شاء بل ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾(7) ونقرأ قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ﴾(8) ومن هذه الأشهر الأربعة شهر رجب.

نماذج من الأمكنة الخاصة:

وأما ما يتَّصل بالمكان فنقرأ قوله تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ / رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾(9) ونقرأ قوله تعالى: ﴿جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ﴾(10) وقوله تعالى: ﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾(11) فللمسجدِ الحرام خصوصيةٌ ليست لسائر الأمكنة، فالذنب في غيره ليس كالذنب فيه، فعندما يُذنب الإنسان في الكعبة أو المسجد الحرام يكون ذنبه مساويًا للإلحاد -بمعناه القرآني- كما أفادت الآية المباركة.

قصَّة من تاريخ عليٍّ (ع):

رجلٌ كان في عهد أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب (ع) في الكوفة، كان شاعرًا وكان على ظاهر الصلاح اتَّفق له أن التقى برجلٍ من أصحاب السوء. وبعد أن تجاذب معه أطراف الحديث، دعاه ذلك الرجل إلى بيته وقال له: إنِّي قد وضعتُ رؤوس شياه في التنور منذ البارحة، فتكون قد نضجت في هذه الساعة وأصبح أكلُها مستطابًا، فقال له: ويحك نحن في نهار شهر رمضان! فقال: دعنا مما لا نعرف فاستخفَّه فاستجاب إلى دعوته فتغذيا معاً ثم جاءه بنبيذ الخمر فشرِبا منه حتى ثملا، وفي آخر النهار تعالت أصواتُهما وافتضح أمرهما وتمَّ الإمساك بالشاعر وأفلتَ الآخر فأخذوه إلى عليٍّ أمير المؤمنين (ع) وكان قد غضب من فعله وزاد من غضبه أنَّه على ظاهر الصلاح ثم يرتكب هذه الموبِقة وفي نهار شهر رمضان، ثم إنَّ عليًّا (ع) وبعد أن تثبَّت من ذنبه أمر بجلده الحد -حدّ شارب الخمر-، فجُلد ثمانين جلدة، ثم أمر الإمام (ع): أنْ يضيفوا إليها عشرين جلدة، وحينئذٍ غضبت عشيرةُ الرجل وغضب هو أيضًا لأنَّ عليًّا (ع) تجاوز معه الحدَّ المقرَّر شرعًا، وحين أنكروا على عليٍّ (ع) أنَّه تجاوز معه الحدَّ. قال (ع): لأنَّه شرب الخمر في شهر رمضان، ولهذا الشهر حرمته الخاصَّة، لذلك تكون المعصية فيه ليست كالمعصية في سائر الشهور، فالثمانون جلدة هي حدُّ الشارب للخمر والعشرون جلدة جزاء الهتك لحرمة شهر رمضان(12).

الجواب عن منشأ اختصاص بعض الشهور والأزمنة عند الله تعالى:

إذن فثمة خصوصياتٌ جعلها الله -عز وجلَّ- لبعض الأزمنة، وخصوصياتٌ جعلها لبعض الأمكنة.

أمَّا لماذا هذه الخصوصية ولماذا تُضاعف الحسنات في مثل شهر رجب، وشهر شعبان، وشهر رمضان؟ فهناك جواب عام، وهو أنَّ هذا من فعل الله في خلقه، و﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾(13) إلَّا أنَّ من المُحتملِ قويًّا أنَّ منشأ هذه الخصوصيَّة المجعولة وهذا الاصطفاء لهذه الشهور ولبعض الأمكنة هو أنَّ الله جلَّ وعلا أراد من ذلك أن يروِّض عباده على الطاعة، وتهذيب النفس، فثمَّة وسائل كثيرة لذلك، ومنها أن يختار شهورًا أو أمكنة يجعلُ لها خصوصية، فجعْل هذه الخصوصية يُساهم في تجديد النشاط عند الإنسان، ويحفِّزه على مراجعة النفس، وبذلك تكون هذه الشهور ذات الخصوصية منطلقًا للشهور الأخرى. وهذه حالة طبيعية عند كلِّ إنسان، لاحظوا لو أنَّ بضاعةً كان سعرها خمسين دينارًا ثم يتمُّ الإعلان عن أنَّ سعرها سيكون خمسة وعشرين دينارًا في شهرٍ معيَّن، فإنَّ حالةً من الترقُّب سوف يستشعرها كلُّ من له رغبة في اقتناء هذه البضاعة وسوف يستحثُّه ذلك على شرائها رغم أنَّه ربما كان ذاهلًا عنها أو متثاقلًا من ثمنها. وهذا التاجر لو جعل سعر البضاعة خمسةً وعشرين دينارًا طوال السنة فلن تحصل هذه الحالة من الترقُّب، ومن المبادرة والمسارعة إلى الشراء. فهذه المواسم تخلق الشعور بأنَّ هنا (فرصةً)، وهذا ما يبعث على النشاط، والحيوية باتِّجاه استثمار هذه الفرصة. فاختيار الله تعالى لبعض الشهور تكون فيها المنح الإلهيَّة على فعل الطاعة وترك المعصية مضاعفةً يُساهم في كسر حالة الروتين، ويبعث النشاط عند الإنسان، وبذلك تكون هذه المواسم منطلقًا لترك الكثير من المحرمات، والترويض على فعل الطاعات. نعم، من الممكن أن يُعطي الله تبارك وتعالى عينَ هذه المنح لمن يُصلِّي أو يصوم في بقية الشهور من دون فرق، فهو جلَّ وعلا واسعٌ كريم ويُمكن أن يُعطي الثواب في تمام الأوقات، ولكنه إنَّما يختار أوقاتاً محدَّدة لغرض المزيد من الترويض، والتزكية وتجديد النشاط المفضي في المآل للتدرج في مدارج الكمال.

لعلَّ ذلك هو أحد المناشئ التي من أجلها اختار اللهُ تعالى أوقاتًا وأماكن فاعتبر لها خصوصية ليست لغيرها.

لاحظوا مثلًا حينما يصلِّي المؤمن في الحرم الشريف كيف يكون تعلُّقه وانجذابه للعبادة ومقدار ما يستشعره من نشاط وحيويَّة، فهذا النشاط، وهذه الحيوية، وهذا التعلُّق نشأ عن شعوره بأنَّ لهذا المكان خصوصية يتميَّز بها عن سائر الأمكنة، لذلك يجد نفسه أكثر ارتباطًا وأكثر تعلّقًا بالله عزَّ وجل، فطبيعة الإنسان تقتضي أن ينتابه هذا الشعور، فالطفل مثلًا، إذا تعاطيت معه في كلَّ يوم بنحوٍ من الخصوصية، فإنَّه يعتادُ على هذا الاسلوب، وبمرور تفقدُ هذه الخصوصية بريقَها وأثرها وينتابُه السأم والضجر، فلا يعتني ولا يلتفت بعد ذلك إلى تلك الخصوصية؛ لأنها حاصلة على أيِّ حال، ولكنْ لو منحته هذه الخصوصية في بعض الأيام دون غيرها فإنَّها تحتفظ ببريقها وأثرها، وإذا كان من سأمٍ أو ضجرٍ في نفسه فإنَّه يتلاشى وينبعث عنده النشاط من جديد، ويزداد التعلُّق بالأمر الذي أنت تريد تلقينه إيَّاه وغرزه في نفسه. فالإنسان وإنَّ كبر في سِنُّه إلا أنَّ مشاعره كمشاعر الطفل من هذه الجهة، ولذلك فالتأثير التربوي الناشئ عن التخصيص والتمييز لبعض الشهور يحصل لمطلق الناس.

الفرصة حفيقيَّة وكيف نستثمرها:

أيُّها الإخوة المؤمنون إنَّ هذه الفرصة الممنوحة من الله تعالى في شهر رجب ليست وهمية، وإنَّما هي فرصة حقيقية، صحيح أنّ الله -عز وجل- أراد للإنسان أن يزداد نشاطه وعبادته في شهر رجب، ولكنَّه في مقابل ذلك فإنَّ أعطاه ووعده، وليس ذلك في الآخرة وحسب، فثمَّة مِنَحٌ في الدنيا ينعمُ بها الرجبيون.

يقول النبيُّ الكريم (ص) فيما يُروى عنه: "وسُمِّي شهر رجب الأصب، لأنَّ الرحمة تُصبُّ على أمتي فيه صبًّا"(14) فالرحمة تنزل بنحو الانصباب تماماً كانصباب المياه من الميزاب حين يهطل المطر بغزارة، هذه الفيوضات، وهذه الرحمات التي تنزل كنزول المطر الغزير على الإنسان قد لا تصل إليه! وذلك إذا جعل بينه وبينها حائلاً فإنَّه حينذاك لن ينعم بآثارها وبركاتها فحتى يحظى بآثار هذه الرحمات وهذه الفيوضات يتعيَّن عليه السعي في إزالة العوائق التي تحول دون وصولها.

إزالة العوائق:

فثمَّة ذنوب، وثمَّة خصال تحول دون تلقِّي هذه الفيوضات الإلهيَّة، فإذا ما أراد المؤمن أنْ تشمله هذه الفيوضات وهذه الرحمات وهذه الكرامات فليس عليه إلَّا أن يُزيح عن نفسه ما هو مُقتضٍ للحيلولة دون وصولها.

التوسيع من الاستعداد والقابليَّة:

ثم إنَّ ثمَّة أعمالًا تخلقُ في النفس استعدادًا وقابليَّة أكبر لتلقِّي الرحمة، فالنفس بمثابة الآنية، فتارة تكون الآنية صغيرة فهذه لا تستوعب إلا قليلًا من الماء، وتارة تكون أكبر وهذه تستوعب مقدارًا أكبر من الماء، فالطاعات هي التي توسع من دائرة النفس وتخلق فيها استعدادًا لتلقِّي الفيوضات الإلهيَّة وبعض هذه الطاعات تكون سببًا لخلق استعدادٍ أكبر في النفس لتلقِّي الرحمة الإلهيَّة من طاعاتٍ أخرى لذلك فإنَّ على المؤمن أن يتحرَّى الطاعاتِ التي يكون أثرُها في تلقِّي الرحمات الإلهيَّة أكبر وأنْ لا يقصرَ عمله على ما يحفظ له دينَه وحسب.

أختم الحديث بالتأكيد على الدعوة التي أطلقها العلماء الأفاضل من اعتبار الأشهر الثلاثة المقبلة موسماً عباديَّاً تحت شعار ﴿وَتَزَوَّدُوا﴾ المقتبس من قوله تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾(15) فالعلماءُ والخطباءُ والمعلِّمون والكتاب المؤسساتُ الدينيَّة والتعليميَّةُ مدعوون إلى التحفيز على استثمار هذه الأشهر العباديَّة بما يليقُ بفضلها وعظمتِها عند الله تعالى.

 اللهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وآل محمَّد واغفرْ لعبادِك المؤمنين.

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / وَالْعَصْرِ / إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ / إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(16).

 والحمد لله ربِّ العالمين

 

 

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

29 من شهر جمادى الآخرة 1445هـ - الموافق 12 يناير 2024م

جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز


1- فضائل الأشهر الثلاثة -الصدوق- ص31.

2- ثواب الأعمال -الصدوق- ص53، 54.

3- ثواب الأعمال -الصدوق- ص53

4- مصباح المتهجد -الطوسي- ص797.

5- سورة القدر / 3.

6- سورة الدخان / 3.

7- سورة البقرة / 197.

8- سورة التوبة / 36.

9- سورة النور / 36-37.

10- سورة المائدة / 97.

11- سورة الحج / 25.

12- الغارات -إبراهيم بن محمد الثقفي- ج2 / ص535.

13- سورة الأنبياء / 23.

14- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج10 / ص512.

15- سورة البقر / 197.

16- سورة العصر.