منافاة الصغائر للعدالة

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآل محمد

المسألة:

هل ارتكاب صغائر الذنوب يضرُّ بالعدالة؟

الجواب:

بناءً على تصنيف الذنوب إلى ذنوبٍ كبيرة وأخرى صغيرة -كما هو المعروف- يكون البحث عن ضائرية ارتكاب الذنوب الصغيرة للعدالة متَّجهاً، وأمَّا بناءً على أنَّ كلَّ ذنبٍ ومعصية لله تعالى فهو من الكبائر، غايته أنَّ بعضَها أعظمُ من البعض الآخر كالقتل العمدي والزنا، فإنَّ القتل العمدي أعظمُ من الزنا إلا أنَّ كلاً منهما ذنبٌ كبير، نعم إذا أضفنا الزنا للقتل العمدي يكون من الصغائر بالإضافة إلى القتل العمدي، وإذا أضفنا النظر للأجنبيَّة إلى الزنا فإنَّه يكون من الصغائر بالإضافة إلى الزنا وإلا فكلٌّ من الزنا والنظر للأجنبية من الكبائر، فبناءً على أنَّ كلَّ الذنوب كبائر -كما هو مبنى جمعٍ من الأعلام- لا يكون ثمة موضع للبحث عن ضائرية الصغائر للعدالة، إذ لا صغائر في الذنوب بناءً على هذا المبنى.

ثم إنَّه بناءً على تصنيف الذنوب إلى صغائر وكبائر فإنَّ البحث يكون عن ضائرية ارتكاب الصغائر للعدالة إنَّما هو في فرض عدم الإصرار عليها وذلك لأنَّ الإصرار على الذنب الصغير يُعدُّ من الكبائر، كما هو المتسالم عليه ظاهراً بين الفقهاء.

الاستدلال على أنَّ الصغائر غير قادحة في العدالة:

وكيف كان فالمعروفُ بين الفقهاء أنَّ ارتكاب الصغائر لا تضرُّ بالعدالة بمعنى أنَّه لا يُعتبر في تحقُّق العدالة -التي هي شرطٌ في إمام الجماعة مثلاً- التجنُّبُ عن ارتكاب الصغائر، فلا يخدش في عدالة الرجل مقارفته لبعض صغائر الذنوب. واستدلُّوا لذلك بعددٍ من الوجوه أهمُّها:

الاستدلال بمعتبرة ابن أبي يعفور:

الأول: معتبرة عبد الله بن أبي يعفور قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): بِمَ تُعرف عدالةُ الرجل بين المسلمين حتى تُقبل شهادته لهم وعليهم؟ فقال: أنْ تعرفوه بالستر والعفاف، وكفِّ البطن والفرج واليد واللسان، ويُعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار .. والدلالةُ على ذلك كلِّه أنْ يكون ساترا لجميع عيوبه، حتى يحرمُ على المسلمين ما وراءَ ذلك من عثراتِه وعيوبِه وتفتيش ما وراء ذلك .."(1).

فالرواية معتبرة، إذ لا إشكال في سندها إلا من جهة أحمد بن محمد بن يحيى العطار، وهو من المعاريف، ولم يرد فيه قدح وذلك أمارةٌ على وثاقته.

وأمَّا موضع الاستدلال بالرواية على دعوى أنَّ ارتكاب الصغائر غير قادحٍ في العدالة فهو قوله (ع): ".. ويُعرف باجتناب الكبائر التي أوعد اللهُ عليها النار .." يعني تُعرفُ عدالة الرجل باجتناب الكبائر، ومقتضى ذلك أنَّ اجتناب الصغائر ليس شرطاً في تحقُّق العدالة فيكفي لتحقُّق العدالة اجتناب الكبائر، إذ لو كان اجتناب الصغائر دخيلاً في تحقُّق العدالة لم يكن لحصر تحقُّق العدالة باجتناب الكبائر وجهٌ، بل كان اللازم التعبير بمثل: ويُعرف باجتناب الكبائر والصغائر أو ويُعرف باجتناب الذنوب ليشمل ذلك الأعمَّ من الكبائر والصغائر، فحصر ما تُعرفُ به عدالة الرجل باجتناب الكبائر ظاهرُ في أنَّ اجتناب الصغائر ليس دخيلاً في تحقُّق العدالة وأنَّ العدالة تتحقَّق حتى في فرض عدم الاجتناب للصغائر.

إيراد السيد الخوئي على الاستدلال بمعتبرة ابن يعفور:

وأورد السيِّد الخوئي(2) على التقريب المذكور بما حاصلُه: أنَّ الرواية ليست بصدد بيان المعرِّف المنطقي للعدالة ليُقال إنَّ الإمام (ع) عرَّف العدالة بارتكاب الكبائر فيكون ارتكاب الصغائر غير دخيلٍ في تحديد حقيقة المعرَّف بل إنَّ الإمام (ع) كان بصدد بيان الأمارات والعلامات الكاشفة عن واجديَّة الرجل لصفة العدالة، ومن الواضح أنَّ هذه الأمارات إنما يتمُّ اللجوء إليها في ظرف الشك في واقع الرجل وأنَّه عدل أو لا، ولهذا لو كنَّا نعلم بأنَّ هذا الرجل فاسقٌ واقعاً ولكنَّه كان يتظاهر بالستر والعفاف واجتناب الكبائر فإنَّه لا يصحُ البناءُ على عدالته لمجرَّد تظاهره بالستر والعفاف واجتناب الكبائر، لأنَّ هذه الأمارة إنَّما يصحُّ اعتمادها في ظرف الشك في الواقع، وعليه فالرواية ليست بصدد تحديد ما تتحقَّق به العدالة واقعاً، فلو ثبت أنَّ الصغائر تقدحُ بالعدالة واقعاً واتَّفق أنْ علمنا أنَّ الرجل يرتكب الصغائر فإنَّه لا يصحُّ اعتماد أماريَّة اجتناب الكبائر للبناء على عدالته، فإنَّ هذه الأمارة إنَّما يصحُّ اعتمادها في ظرف الشك والمفروض أنَّنا نعلم بعدم عدالته واقعاً.

وبتعبير آخر: من الممكن أن تكون العدالة متقوِّمة واقعاً باجتناب الكبائر والصغائر ولكن يجعل اجتناب الكبائر أمارةً على استكشاف العدالة في ظرف الشك. فيقال إذا شككت في عدالة أحدٍ فانظر إذا كان متحرِّزاً عن ارتكاب الصغائر فتلك أمارة كاشفة عن أنَّه واجد لصفة العدالة وليس معنى ذلك أنَّ العدالة متقوِّمة واقعاً باجتناب الكبائر وحسب. تماماً كما يقال إذا شككت أنَّ زيداً نائم أو لا فصوِّت عليه فإنْ لم يُجبك فهو نائم فإنَّ هذه الأمارة لا تدلُّ على أنَّ النوم متقوِّم بعدم السماع فقط وإنَّما ذلك أمارة في ظرف الشك على أنَّه نائم كذلك المقام فإنَّ جعل اجتناب الكبائر أمارة على العدالة لا يعني أنَّ اجتناب الكبائر وحده المقوِّم واقعاً للعدالة.

وأجاب بعضُ الأعلام على ما أفاده السيد الخوئي أنَّ الرواية وإنْ لم تكن بصدد بيان المعرِّف المنطقي للعدالة وأنَّها كانت بصدد بيان الأمارة الكاشفة عن العدالة لكنَّها صالحة لإثبات أنَّ اجتناب الصغائر ليس من مقوِّمات العدالة واقعاً، وذلك لأنَّ قوله (ع): "ويُعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار" يقتضي بإطلاقه أنَّ اجتناب الكبائر كاشفٌ عن العدالة حتى في فرض احراز الارتكاب للصغائر. يعني أنَّ مَن وجدته مجتنباً للكبائر فذلك كاشفٌ عن عدالته وإنْ وجدته مرتكباً للصغائر، فمقتضى إطلاق قوله: "ويُعرف باجتناب الكبائر" أنَّ اجتناب الكبائر كاشفٌ عن العدالة سواءً علمتَ باجنتابه للصغائر أو لم تعلم، ومعنى ذلك أنَّ اجتناب الصغائر ليس دخيلاً في تحقُّق العدالة.

والجواب أنَّ الرواية ليس لها ظهور في الإطلاق وذلك بقرينة قوله (ع): "والدلالةُ على ذلك كلِّه أنْ يكون ساتراً لجميع عيوبه" بعد فقرة: "ويُعرفُ باجتناب الكبائر" فإنَّ الظاهر من الستر لجميع العيوب هو الأعمُّ من الكبائر والصغائر، إذ لا ريب أنَّ الصغائر من العيوب، فإنَّ مَن يتجاهر بالنظر للأجنبية فإنَّه غير ساترٍ لعيوبه رغم أنَّ النظر للأجنبية ليس من الكبائر التي توعَّد الله فاعلَها بالنار.

وبتعبير آخر: إنَّ اشتمال الرواية على قوله (ع):"والدلالةُ على ذلك كلِّه أنْ يكون ساتراً لجميع عيوبه" مانعٌ من انعقاد الإطلاق في قوله: "ويُعرف باجتناب الكبائر" فجعل الستر لجميع العيوب أمارة على العدالة معناه الإطلاق في الفقرة الأولى ليس مراداً جدَّاً ولا أقل من صلاحية الفقرة الثانية على للقرينيَّة على عدم إرادة الإطلاق من فقرة: "ويُعرف باجتناب الكبائر".

والمتحصَّل أنَّ الرواية لا تصلح للاستدلال بها على أنَّ عدم قادحيَّة الصغائر للعدالة.

الاستدلال بالآية وجوابه:

الوجه الثاني: الاستدلال بقوله تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾(3) وذلك بأنْ يُقال إنَّ مفاد الآية هو أنَّها بصدد الوعد من الله تعالى بغفران كلِّ ذنبٍ يجترحه الإنسان إذا التزم اجتناب كبائر الذنوب، فاجتناب كبائر الذنوب يكون من مكفِّرات الصغائر بحسب الآية الشريفة، ومقتضى ذلك أنَّ صغائر الذنوب المرتكَبة تكون بمثابة العدم، لذلك لا تكون موجبةً للفسق تماماً كما هي التوبة من الذنب، فكما أنَّ التائب من الذنب كمَن لا ذنب له لذلك لا يعدُّ فاسقاً بعد التوبة، كذلك فإنَّ المجتنِب للكبائر يكون كمَن لا ذنب له لأنَّ اجتنابها مكفِّر للصغائر، فلا تكون الصغائر موجبةً لفسقه بل إنَّ اجتناب الكبائر أولى في نفي الفسق عن المرتكب للصغائر من التوبة وذلك لأنَّ التائب يكون فاسقاً قبل التوبة وينتفي عنه الفسق بعد التوبة وأمَّا المجتنِب للكبائر فإنَّ الفسق يكون منتفياً عنه ابتداءً، فاجتناب الكبائر يدفعُ الفسق عن مرتكب الصغائر، وأما التوبة فهي ترفع الفسق عن التائب، والدفع أولى من الرفع بمعنى أنَّ المنع من وقوع الفسق من أول الأمر أولى من رفعه بعد وقوعه.

والجواب عن الاستدلال بالآية الشريفة أنَّها لا تدلُّ على أكثر من أنَّ الله تعالى يعفو عن الصغائر إذا التزم المكلَّف اجتناب الكبائر، وذلك لا يعني أنَّ مرتكب الصغائر ليس فاسقاً، فالفسقُ يعني الانحراف والتجاوز لحدود الله تعالى، فلأنَّ الصغائر من الذنوب دون ريب لذلك فارتكابها يُعدُّ من التجاوز والفسوق المنافي للعدالة، وكون هذه الذنوب مغفورةً لا ينفي عنها صفة الفسوق والتجاوز لحدود الله تعالى.

وبتعبير آخر: لا ملازمة -كما أفاد السيد الخوئي(4)- بين العفو عن الذنب وبين نفي الفسق عن مرتكبه، فحتى الكبيرة قد يعفو الله تعالى عنها دون توبة ولكنَّ العفو عنها لا ينفي عن مرتكبها صفة الفاسق المتجاوز لحدود الله تماماً كما لو فُرض أنَّ أجيراً كان يتجاوز حدود مقتضيات الإجارة ويفرِّط في أداء الوظيفة المستأجَر عليها فإنَّ تسامح المستأجِر وتغاضيه عن تجاوزات الأجير لا يعني انتفاء صفة التجاوز عن الأجير.

والمتحصَّل أنَّ الآية الشريفة لا تدلُّ على أكثر من أنَّ الله تعالى يعفو عن الصغائر إذا التزم المكلَّف اجتناب الكبائر ولكنَّها لا تدلُّ على خروج المرتكب للصغائر من دائرة الفسق وصيرورته في دائرة العدالة. هذا أولاً

وثانياً: إنَّ المستظهَر من الآية الشريفة هو الوعد بأنَّ الله تعالى سوف يعفو عن الصغائر يوم القيامة لمَن اجتنب الكبائر في مجموع عمره، فهي لا تدلُّ على أنَّ الله يعفو عن الصغائر لمجرَّد ترك الكبائر آنا ما بل مفادها ظاهراً أنَّ من كان ملتزماً في حياته باجتناب الكبائر فإنَّ الله تعالى سوف يعفو عن صغائره يوم القيامة فلا يؤاخذه عليها، وعليه فالعفو عن ارتكاب الصغائر مراعى بنحو الشرط المتأخِّر - بعدم ارتكابه للكبائر إلى أنْ يموت أو مراعى بتوبته من الكبائر لو اتَّفق أنْ ارتكب شيئاً منها، فمرتكب الصغائر غير التائب منها عاصٍ لله تعالى، ويقدم على ربِّه جلَّ وعلا وهو عاص، غايته أنَّ الله تعالى وعده بالعفو لأنَّه مجتنب للكبائر.

وبهذا لا تكون الآية دالَّة على نفي صفة العاصي عن مرتكب الصغائر، ومع عدم انتفاء كونه عاصياً لا يكون خارجاً عن سمت الفاسقين، وذلك لأنّ العاصي متجاوزٌ لحدود الله تعالى وهو معنى الفسق المنافي للعدالة.

الوجه في منافاة الصغائر للعدالة:

وبما ذكرناه يظهر وجهُ البناء على أنَّ ارتكاب الصغائر قادحٌ في العدالة، فإنَ العدالة تعني الاستقامة على جادَّة الشرع، وذلك من طريق الالتزام بالواجبات وترك المحرَّمات، وحيث إنَّ الصغائر ذنوب ومعاصٍ فارتكابها يكون انحرافاً وتجاوزاً لحدود الله تعالى، فلا يكونُ مرتكبُها مستقيماً على جادَّة الشرع بل هو منحرفٌ عنها، فيكون بذلك فاقداً لصفة العدالة.

ويؤكِّد ذلك ملاحظة الروايات التي أفادت أنَّ العدالة تُعرف بمثل العفة وستر العيوب، والصغائر منافية لذلك فلا يصدق وصف العفَّة على مثل من يتعمَّد النظر إلى الأجنبيَّة أو مفاكهتها والخلوة بها رغم أنَّ مثل هذا الذنزب ليست من الكبائر بحسب تعريف الكبيرة بأنَّها ما توعَّد الله فاعلَها بالنار في كتابه.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

10 / شعبان / 1445هـ

21 / فبراير / 2024م


1- من لا يحضره الفقيه -الصدوق- ج3 / ص38، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص391.

2- التنقيح في شرح العروة الوثقى -السيد الخوئي- ج1 / ص228.

3- سورة النساء / 31.

4- التنقيح في شرح العروة الوثقى -السيد الخوئي- ج1 / ص229.