هل ألقى عليٌّ (ع) نفسَه في التهلكة بخروجه لمسجد الكوفة؟

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

هل ألقى الإمامُ أميرُ المؤمنين (ع) نفسَه في التهلكة حين خرج لجامع الكوفة وهو يعلمُ بأنَّه يقتل؟

الجواب:

إنَّ إلقاء النفس في التهلكة والموت الحتمي ليس محرَّماً على إطلاقه، فقد يكون محرَّماً وقد يكون مباحاً، وقد يكون راجحاً بل قد يكون واجباً، فلو توقَّف مثلاً حفظُ نفس الرسول الكريم (ص) أو الامام المعصوم (ع) على أنْ يُعرِّض أحدٌ نفسه للهلاك الحتمي لاستنقاذ نفس الرسول (ص) أو الإمام (ع) فإنَّ تعريض نفسه للهلاك في هذا الفرض واجبٌ عليه، وكذلك لو أنَّ السلطان الجائر -مثلاً- خير عالماً -من عظماء علماء الإسلام- بين فعل شيءٍ فيه طمسٌ لمعالم الإسلام بحسب تشخيص هذا العالم وبين قتله صبراً فإنَّ وظيفتَه هي اختيار القتل يعني أنَّ إلقاء نفسِه في التهلكة والموت الحتمي يكون واجباً عليه.

وكذلك هو الشأن في بعض موارد الجهاد، فلو أنَّ حفظ بيضة الإسلام توقَّف على أنْ يُلقي جمعٌ من المجاهدين أنفسهم في التهلكة الحتميَّة فإنَّ إلقاء أنفسِهم في التهلكة حفظاً لبيضة الإسلام ليس محرَّماً بل هو واجبٌ في مثل هذا الفرض.

وقد يكون إلقاء النفس في التهلكة مباحاً أو راجحاً، ولعلَّ من موارده ما فعله حجر بن عدي وميثم التمار حينما عُرضت عليهما البراءةُ من أمير المؤمنين (ع) أو القتل، فاختيارهما للقتل كان مباحاً أو راجحاً. وكذلك هو مباحٌ أو راجحٌ في كلِّ موردٍ يكون في التعرُّض للموت الحتمي مصلحةٌ أهمُّ للإسلام ومعالمِه.

فإلقاءُ النفس في التهلكة ليس محرَّماً على إطلاقه وإنَّما هو حكم من أحكام الشريعة يثبتُ عند تحقُّق موضوعِه ويرتفعُ بارتفاع موضوعه.

وباتِّضاح هذه المقدِّمة ينتفي الإشكال المذكور، فخروجُ الإمام عليٍّ (ع) إلى مسجد الكوفة لأداء الصلاة مع علمِه بأنَّه يُقتل لو كان من إلقاء النفسِ في التهلكة فإنَّه لا يضرُّ، إذ أنَّ إلقاءَ النفس في التهلكة لا يحرمُ بل قد يكون واجباً كما لو كان المكلَّفُ مأموراً من قِبلِ الله تعالى بإلقاء نفسِه في التهلكة في هذا المورد أو ذاك، ومن أين لصاحب الإشكال العلم بأنَّ عليَّاً (ع) لم يكن مأموراً من قِبَلِ الله تعالى بتعريض نفسِه للموت في هذا المورد؟! بل إنَّ خروجه مع علمِه بوقوع القتل عليه يكشفُ كشفاً قطعياً أنَّه كان مأموراً من قِبَل الله تعالى بتعريض نفسه للتهلكة والموت الحتمي، فمثلُه (ع) -وحريجته في الدين فضلاً عن عصمته- لا يُعرِّض نفسَه للتهلكة لولا أنَّ مالك النفوس وهو اللهُ تعالى قد أمرَه بذلك.

فهنا مقدِّمتان:

المقدِّمة الأولى: أنَّ عليَّاً (ع) كان يعلمُ قطعاً بمقتله لو خرج للصلاة في تلك الليلة، وهذه المقدِّمة ثابتة دون إشكال، فالشواهدُ التأريخيَّة المتظافرة والموجبة للوثوق والاطمئنان تُثبت أنَّ عليَّاً (ع) كان على علمٍ مُسبقٍ بمقتلِه ومكانه وكيفيته ووقته.

والمقدِّمة الثانية: أنَّه خرج في تلك الليلة للصلاة ووقع عليه القتل، وهذه المقدِّمة لا ريب في وقوعها، إذ لا يختلفُ اثنان في أنَّ علياً (ع) خرج للصلاة وتمَّ اغتيالُه في مسجد الكوفة.

فإذا أضفنا إلى هاتين المقدِّمتين العلمَ القطعي بأنَّ عليَّاً (ع) لا يُقدِمُ على الموت الحتمي لو كان محرَّماً عليه، فالمتعيَّن هو أنَّه أقدم على الموت لأنَّه كان مكلَّفاً من قبل الله عزوجلَّ بذلك، لعصمته أو حريجته في الدين المانعة له من الإقدام على الحرام متعمِّداً، ودعوى أنَّه خرج لعدم علمِه أنَّه يقتل تنفيها المقدِّمة الأولى وهي الشواهد المتظافرة الدالَّة على علمه التفصيلي أنَّه يقتل في تلك الليلة لو خرج للصلاة، وحيث لا ريب في أنَّه قد خرج في تلك الليلة -كما في المقدِّمة الثانية- فلا محيص من الالتزام بأحد أمرين إما أنْ يكون عليَّاً (ع) قد عرَّض نفسَه للموت رغم حرمة ذلك عليه أو أنَّه عرَّض نفسَه للموت لأنَّه كان مكلَّفاً من قِبَل الله تعالى بذلك، وحيث إنَّ الاحتمال الأول ممتعٌ جزماً على أمير المؤمنين (ع) فالمتعيَّن أنَّه (ع) عرَّض -بخروجه- نفسَه للموت الحتمي لأنَّه كان مكلَّفاً بذلك من قِبَل الله تعالى.

وأمَّا لماذا يُكلِّفُ الله تعالى عليَّاً (ع) بتعريض نفسِه للموت الحتمي فذلك شأنُ الله تعالى في عباده، فهو جلَّ وعلا: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾(1) ولعلَّ ذلك هو أحدُ ما ابتلى به اللهُ تعالى عليَّاً (ع) ليَظهر للعباد عظيمُ تسليمه المُطلق لله جلَّ وعلا كما ابتلى نبيَّه إسماعيل (ع) حين كلَّفه على لسان إبراهيم (ع) بأنْ يسلِّم نفسَه للذبح: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى﴾(2) فاستجاب لذلك دون تردُّد: ﴿قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾(3).

فخروجُ عليٍّ (ع) رغم علمِه التفصيلي بوقوع القتل عليه يحملُ أعظمَ الدِّلالات على تسليمه المُطلقِ لربِّه جلَّ وعلا، فملاحمُه التي كان قد خاضَها على مدى عقود لإعلاء كلمةِ الله تعالى كان يتعرَّضُ في كلِّ ملحمةٍ منها للموت القريب لكنَّ احتمال النجاة في كلِّ مرَّةٍ كان قائماً إلا أنَّه لم يكن يَعبأُ بهذا الاحتمال، فهو يُقدِم على الموت دون أن ينتظرَ النجاة، لكنَّ الأمَّةَ والتأريخ لم يكونوا على درايةٍ أنَّ عليَّاً (ع) لم يكن يشغلُه قطُ احتمالُ النجاة، فكانوا يتوهَّمون أنَّ عليَّاً(ع) حين يخوضُ غِمارَ الموت كان يرجو النجاة شأنُه في ذلك شأنُ سائر المجاهدين، فأراد الله تعالى أنْ يكشفَ للأمَّة والتاريخ أنَّ عليَّا (ع) لم يكن يشغلُه سوى التسليم المُطلقِ لله تعالى، فهو حين كُلِّف بأن يُسلِّم نفسَه للموت الحتمي لم يتلكأ ولم يتردَّد كما لم يكن يتردَّدُ في امتثال سائر التكاليف، فالتكاليفُ الإلهيَّة -في حسابات عليٍّ (ع)- واحدة أيَّاً كانت طبيعتَها، بل ما يشقُّ منها -عند الناس- أقربُ إلى نفسِه وأيسرُ عليها ممَّا لا يَشقُّ، ذلك لأنَّها أرضى لله تعالى، وهو أحرصُ ما يكون على ما هو الأرضى لله تعالى. فليس بين جوانح عليٍّ (ع) سوى الحرص المُطلقِ والراسخ على تمثُّل ما يُرضي الله تعالى ويقرِّبه منه، وهذا هو معنى الفناء -الذي ليس له ما وراء- في الله جلَّ وعلا.

وخلاصة القول: إنَّ المالك الحقيقي للنفوس هو اللهُ جلَّ وعلا، فهو تعالى حين يكلِّف أحداً لمصلحةٍ لا يعلمُها سواه بأنْ يُسلِّم نفسَه للموت الحتمي فإنَّ على هذا المكلَّف أنْ يأتمرَ بأمر الله تعالى، وليس له أنْ يقول يحرم إلقاء النفس في التهلكة، لأنَّ الذي حرَّم إلقاءَ النفس في التهلكة هو الله تعالى، وهو الذي يأمرُ في هذا المورد أو ذاك بإلقاء النفس في التهلكة، فإلقاءُ النفس في التهلكة الذي كان يحرمُ عندما نهى اللهُ تعالى عنه في موردٍ يُصبح واجباً حينما أمرَ الله به في هذا المورد.

وبهذا البيان يتضح لماذا خرج عليٌّ (ع) للصلاة رغم علمِه أنَّه يُقتل، فإنَّ تسليم النفس للقتل والصبر عليه يكون واجباً لأنَّ الله تعالى قد أمَر بذلك، وأمَّا أنَّه كيف علمنا بأنَّ الله تعالى قد أمر عليَّاً (ع) بأن يُسلِّم نفسَه للقتل فجوابه أنَّ خروج عليٍّ(ع) للصلاة رغم علمِه أنَّه يُقتل يكشفُ بنفسه عن أنَّه كان مأموراً بالخروج المؤدِّي للقتل، فمثلُ عليٍّ (ع) وكذلك سائر أئمة أهل البيت (ع) لا يُعرِّضون أنفسهم للتهلكة لولم يكونوا مأمورين بذلك من قِبل الله تعالى المالكِ لنفوسهم. فهم طَوعُ إرادته لا يتخلَّفون عنها قيدَ شعرة وذلك سرُّ كمالهم المُطلق اللائق بعبوديتهم المطلقة لله جلَّ وعلا.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

21 / شهر رمضان / 1445ه

1 / أبريل / 2024م


1- سورة الأنبياء / 23.

2- سورة الصافات / 102.

3- سورة الصافات / 102.