نكول المدَّعى عليه وردُّ اليمين على المدَّعي

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

لو ادَّعى أحدٌ مالاً على آخر لدى القاضي فلم يُنكر المدَّعى عليه ولكنَّه لم يعترف بما ادَّعاه عليه المدَّعي، فما هي الوظيفة في هذا الفرض؟

الجواب:

في مثل هذا الفرض يتعيَّن على المدَّعي إقامة البيِّنة على دعواه فإنْ أقامها ثبتت دعواه، وذلك لما دلَّت عليه الروايات المستفيضة أنَّ البينة على المدَّعي وأنَّها من وسائل إثبات الدعوى. صحيحة مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ ع عَنِ الرَّجُلِ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى حَقِّه هَلْ عَلَيْه أَنْ يُسْتَحْلَفَ قَالَ: لَا"(1).

وأمَّا إذا لم تكن للمدَّعي بيِّنة على دعواه فإنَّ له أنْ يطلب من القاضي استحلاف المدَّعى عليه كما أنَّ له أنْ الرفض لاستحلاف المدَّعى عليه، برجاء أنْ يتمكن من إقامة البيِّنة فيما بعد أو يتمكَّن من إقناع المدَّعى عليه بالإقرار، فإنْ رفض استحلاف المدَّعى عليه لم تسقط الدعوى وإنَّما يتمُّ تعليقُها إلى أن يتمكَّن من إقامة البينة أو إقناع المدَّعى عليه بالإقرار.

وأمَّا إذا قبل باستحلاف المدَّعى عليه، فإنْ حلف سقطت دعوى المدَّعي وليس له إقامتُها بعد ذلك لما دلَّ على أنَّ يمينَ المدَّعى عليه تذهبُ بحقِّ المدَّعي، وأما إذا لم يحلف ولم يردَّ اليمين على المدَّعي فهل يُعدُّ ناكلاً وبذلك تثبت دعوى المدَّعي أو أنَّه لا تثبت الدعوى إلا بعد أنْ يحلف المدَّعي على صدق دعواه؟

وقع الخلاف في ذلك فذهب جمعٌ من الفقهاء إلى أنَّ دعوى المدَّعي تثبت بمجرَّد رفض المدَّعى عليه الحلف وردَّ اليمين، وفي مقابل ذلك ذهب المشهور إلى أنَّ دعوى المدَّعي لا تثبت بمجرد رفض المدَّعى عليه الحلف والرد وإنَّما تثبت لو حلف المدَّعي على صدق دعواه بعد رفض المدَّعى عليه للحلف والرد.

واستُدلَّ للقول الأول بصحيحة محمد بن مسلم قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن الأخرس كيف يحلف إذا ادُّعي عليه دين (وأنكره) ولم يكن للمدَّعي بينة؟ فقال: إنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) أُتي بأخرس فادُّعي عليه دينٌ ولم يكن للمدَّعي بيِّنة، فقال أميرُ المؤمنين (عليه السلام): الحمد لله الذي لم يُخرجني من الدنيا حتى بيَّنت للأمة جميع ما تحتاجُ إليه، ثم قال: ائتوني بمصحفٍ، فأُتي به، فقال للأخرس: ما هذ؟ فرفع رأسَه إلى السماء، وأشار أنَّه كتاب الله عزَّ وجلَّ، ثم قال: ائتوني بوليِّه، فأُتي بأخٍ له فأقعدَه إلى جنبِه، ثم قال: يا قنبر عليَّ بدواةٍ وصحيفة، فأتاه بهما ثم قال لأخي الأخرس: قل لأخيك هذا بينك وبينه (إنَّه علي)، فتقدَّم إليه بذلك، ثم كتب أميرُ المؤمنين (عليه السلام): والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم الطالب الغالب، الضارُّ النافعُ، المهلكُ المدرِك، الذي يعلم السرَّ والعلانية، إنَّ فلان بن فلان المدَّعي ليس له قِبَل فلان بن فلان أعني الأخرس حقٌّ ولا طلبة بوجهٍ من الوجوه، ولا بسببٍ من الأسباب، ثم غسَله، وأمر الأخرس أنْ يشربَه، فامتنع، فألزمه الدين"(2).

فهذه الرواية أفادت بأنَّ الإمام أمير المؤمنين (ع) ألزم المدَّعى عليه بالدين لمجرَّد امتناعه عن أداء اليمين على الانكار ولم يرد اليمين على المدَّعي وهو ما يثبت القول بأنَّ امتناع المنكر من أداء اليمين والرد كافٍ في ثبوت دعوى المدَّعي الذي ليس له بيِّنة.

وكذلك استُدلَّ بمعتبرة عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) فِي الرَّجُلِ يُدَّعَى عَلَيْه الْحَقُّ ولَا بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي؟ قَالَ: يُسْتَحْلَفُ أَوْ يَرُدَّ الْيَمِينَ عَلَى صَاحِبِ الْحَقِّ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا حَقَّ لَه"(3).

فقوله (ع): "يُسْتَحْلَفُ" يرجع للمدَّعى عليه بقرينة أنَّ السؤال عن الرجل يدَّعى عليه الحقُّ فيكون المراد من قوله: "يُسْتَحْلَفُ" عائداً على المدَّعى عليه فهو الذي يُستحلف على نفي دعوى المدَّعي أي على أنَّه لا حقَّ عليه للمدَّعي ثم قال(ع): "أو يَرُدَّ الْيَمِينَ عَلَى صَاحِبِ الْحَقِّ" أي أنَّ المدَّعى عليه إمَّا أنْ يحلف أو يردَّ اليمين على المدَّعي "فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا حَقَّ لَه" يعني إنْ لم يحلف ولم يردَّ اليمين على المدَّعي فلا حقَّ له في الإنكار وتثبت عليه دعوى المدَّعي.

وأجاب السيد الخوئي رحمه الله (4) عن الاستدلال بصحيحة محمد بن مسلم أنَّها قضيَّة في واقعة، فلعلَّ الإمام أمير المؤمنين (ع) قد ردَّ اليمين على المدَّعي قبل أنْ يحكم له.

إلا أنَّ ذلك خلاف الظاهر فإنَّ الذي ساق القضيَّة التي وقعت لأمير المؤمنين (ع) -بحسب الرواية- هو الإمام الصادق (ع) وكان في مقام الاستدلال بها على حكم مسألة سُئل عنها وذلك يقتضي بيان كلَّ ما له دخلٌّ في الحكم الذي حكم به أمير المؤمنين (ع).

نعم، ما يرد على الاستدلال بالرواية هو أنَّها كانت بصدد البيان لكيفيَّة استحلاف الأخرس، وهذا المقدار قد تمَّ بيانُه من طريق ما حكاه الإمام الصادق (ع) عن فعل أمير المؤمنين (ع) لذلك لا يكون إغفال الإمام (ع) لذكر ما فعله أمير المؤمنين (ع) قبل الحكم للمدَّعي ضارَّا بما سيقت الرواية لبيانه، فلو كان الواقع أنَّ أمير المؤمنين قد استحلف المدَّعي قبل أنْ يحكم له فإنَّ عدم ذكر الإمام الصادق (ع) لذلك لا يضرُّ بما سيقت الرواية لبيانه. ولهذا لا يكون عدم ذكر ردِّ اليمين على المدعي دليلاً على عدم اعتباره.

وأجاب السيد الخوئي رحمه الله(5) عن الاستدلال بمعتبرة عبيد بن زرارة بأنَّ دلالتها على عدم لزوم ردِّ اليمين على المدَّعي وكفاية رفض المدَّعى عليه للحلف والردِّ في ثبوت الحق للمدَّعي دلالة المعتبرة على ذلك إنَّما هو بالإطلاق يعني أنَّ قوله (ع): "فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا حَقَّ لَه" يعني إنْ لم يحلف المنكر أو يرد فلا حقَّ له سواء ردَّ الحاكمُ اليمين على المدَّعي أو لم يردها عليه فإنَّ المنكر يسقط حقُّه في الانكار ويثبت الحقُّ للمدعي، فدلالة المعتبرة على المطلوب إنَّما هو بالإطلاق ولهذا تكون معارضة بصحيحة هشام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "ترد اليمين على المدَّعي"(6).

فإنَّ مقتضى إطلاقها هو أنَّ اليمين تردُّ على المدَّعي سواءً كان الرادُّ هو المدَّعى عليه أو أنَّ الرادَّ هو الحاكم، وبذلك يستحكم التعارض بين الروايتين، والمرجع حينئذٍ هو عمومات ما دلَّ على أنَّ القضاء لا يثبت إلا بالبيِّنات والأيمان فحيث لا بيِّنة والمفترض هو نكول المنكر، فالمتعيَّن لإثبات الحقِّ للمدَّعي هو ردُّ اليمين إليه ولو من طريق الحاكم. وبذلك يتبيَّن مستند المشهور فيما بنوا عليه من عدم ثبوت الحقِّ للمدَّعي بعد نكول المنكر إلا بعد أدائه لليمين على دعواه.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

22 / شوال / 1445ه

1 / مايو / 2024م


1- الكافي -الكليني- ج7 / ص417، وسائل الشيعة -الحر العاملي-ج 27 / ص243.

2- تهذيب الأحكام -الشيخ الطوسي- ج6 / ص319، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص302.

3- الكافي -الكليني- ج7 / ص416، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج 27 / ص241.

4- مباني تكملة المنهاج -السيد الخوئي- ج41 / ص20.

5- مباني تكملة المنهاج -السيد الخوئي- ج41 / ص20.

6- تهذيب الأجكام -الشيخ الطوسي- ج6 / ص230، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص241.