ما يُستحلَف به الكتابي في القضاء 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

المعروف بين الفقهاء أنَّ اليمين في القضاء -التي يطالب بها المنكر أو المدَّعي في بعض الفروض- لا يترتَّب عليها الأثر إلا أنْ تكون يميناً بالله تعالى أو بأسمائه جلَّ وعلا، فماذا لو كان المطلوب منه اليمين من أهل الكتاب هل يُستحلف بالله تعالى أيضاً أو يُستحلف بما يعتقد؟

الجواب:

المشهور بين الفقهاء رضوان الله عليهم(1) أنَّه لا يصحُّ الاستحلاف في القضاء إلا بالله تعالى وأسمائه جلَّ وعلا سواءً كان المطلوب منه الحلف مسلماً أو من أهل الكتاب، وفي مقابل مبنى المشهور نُسب للشيخ الطوسي في النهاية والمحقق الحلِّي والعلامة الحلِّي وجماعة آخرين القول بجواز إحلاف الذمِّي بما يقتضيه دينُه(2). 

مستند المشهور:

واستُدلَّ للمشهور بعددٍ من الروايات الواردة عن أهل البيت (ع):

منها: صحيحة الْحَلَبِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) عَنْ أَهْلِ الْمِلَلِ يُسْتَحْلَفُونَ؟ فَقَالَ: لَا تُحْلِفُوهُمْ إِلَّا بِاللَّه عَزَّ وجَلَّ"(3).

ومنها: موثقة سَمَاعَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: سَأَلْتُه هَلْ يَصْلُحُ لأَحَدٍ أَنْ يُحْلِفَ أَحَداً مِنَ الْيَهُودِ والنَّصَارَى والْمَجُوسِ بِآلِهَتِهِمْ؟ قَالَ: لَا يَصْلُحُ لأَحَدٍ أَنْ يُحْلِفَ أَحَداً إِلَّا بِاللَّه عَزَّ وجَلَّ"(4).

ومنها: صحيحة سُلَيْمَانَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: لَا يُحْلَفُ الْيَهُودِيُّ ولَا النَّصْرَانِيُّ ولَا الْمَجُوسِيُّ بِغَيْرِ اللَّه إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ يَقُولُ: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ الله﴾"(5).

ومنها: رواية جَرَّاحٍ الْمَدَائِنِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ لَا يُحْلَفْ بِغَيْرِ اللَّه، وقَالَ: الْيَهُودِيُّ والنَّصْرَانِيُّ والْمَجُوسِيُّ لَا تُحْلِفُوهُمْ إِلَّا بِاللَّه عَزَّ وجَلّ"(6).

فهذه عدَّةٌ من الروايات الظاهرة في أنَّه لا يصحُّ استحلاف أهل الكتاب إلا بالله تعالى شأنُهم في ذلك شأن سائر المسلمين إلا أنَّه في مقابل ذلك وردت عدَّةُ روايات يظهرُ منها صحَّة استحلاف أهل الكتاب بما يُستحلَفون به ممَّا يعتقدونه:

فمن ذلك: معتبرة السَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (ع) اسْتَحْلَفَ يَهُودِيّاً بِالتَّوْرَاةِ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى (ع)"(7).

ومنه: صحيحة محمد بن قيس قال: سمعتُ أبا جعفر (عليه السلام) يقول: "قضى عليٌّ (عليه السلام) فيمَن استحلف أهل الكتاب بيمين صبْر أنْ يُستحلَف بكتابه وملَّته"(8).

ومنه: صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام) قال: سألتُه عن الأحكام؟ فقال: في كلِّ دينٍ ما يُستحلفون به"(9) .

ومنه: صحيحة محمد بن مسلم قال: سألتُه عن الأحكام؟ فقال: تجوزُ على كلِّ دينٍ بما يُستحلفون"(10).

الجمع بين الطائفتين وجوابه:

هذا وقد جمع بعضُ الأعلام بين الطائفتين بحمل الطائفة الثانية على جواز استحلاف أهل الكتاب بما يُستحلفون به، وحمل الطائفة الأولى الناهية عن الحلف بغير الله تعالى على كراهة الحلف بغير الله جلَّ وعلا. وذلك لأنَّ الطائفة الثانية نصٌّ في إباحة استحلاف أهل الكتاب بما يعتقدون فيحمل النهي في الطائفة الأولى على الكراهة، فتكون النتيجة هي أنَّه يجوز للقاضي استحلاف أهل الكتاب بما يعتقدون به لكن ذلك مكروه له والأولى استحلافهم بالله تعالى.

إلا أنَّ هذا الجمع مخالفٌ للظاهر، فإنَّ المستظهَر من النهي عن الاستحلاف بغير الله تعالى هو عدم صحَّة الحلف بغير الله تعالى وعدم ترتُّب الأثر عليه، والمستظهر من الطائفة الثانية هو الصحَّة وترتُّب الأثر على الحلفِ بما يعتقدون. ولو كان البناء هو حمل النهي في الطائفة الأولى على الكراهة التكليفية لكان مقتضى ذلك هو جواز استحلافهم بغير الله وبغير ما يعتقدون غايته أنَّه مكروه.

الجمع الذي أفاده السيد الخوئي:

وأفاد السيِّد الخوئي (رحمه الله)(11) أنَّ الطائفة الأولى الناهية عن الاستحلاف بغير الله تعالى مطلقة، فهي تقتضي بإطلاقها المنع من استحلاف أهل الكتاب بغير الله تعالى سواءً كان ذلك بما يُستحلفون به عادةً مِن معتقداتهم وبما لا يُستحلفون به عادةً من معتقداتهم، وبذلك تكون الطائفة الثانية صالحة لتقييدها، لأنَّها صحَّحت استحلافهم بما يستحلفون به عادة فيكون محصَّل الجمع بين الطائفتين هو أنَّه لا يصحُّ استحلافهم بغير الله تعالى إلا أنْ يُستحلفوا بما يُستحلفونَ به عادة من معتقداتهم فإنَّه يصحُّ استحلافُهم بها، فيكون الباقي تحت إطلاق الطائفة الأولى هو استحلافهم بمعتقداتهم التي لا يُستحلفون عادة بها.

وأجاب عن ذلك بعضُ الأعلام بأنَّ هذا الجمع لا يُناسب التعليل الوارد في صحيحة سليمان بن خالد حيث علَّل الإمام(ع) فيها النهي عن الحلف بغير الله بقوله: "إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ يَقُولُ: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ الله﴾". فمساق هذا التعليل يأبي عن التقييد خصوصاً وأنَّ موضوع المسألة في الرواية هو اليهودي والنصراني والمجوسي يعني أنَّ موضوع المسألة في الرواية هو ذاته موضوع المسألة في الطائفة الثانية، وعليه فهي أي الصحيحة ناظرة إلى ما جرت عادة أهل الكتاب الحلف به، وذلك يقتضي ظهورها في المنع من إحلافهم بما اعتادوا الحلف به وتعيُّن استحلافهم بالله جلَّ وعلا. وبذلك لا يكون الجمع المذكور عرفياً. وعليه يستحكم التعارض بين الطائفتين.

بناءً على استحكام التعارض:

وأفاد السيد الخوئي (رحمه الله)(12) أنَّه مع البناء على التعارض المستحكِم تسقط كلا الطائفتين عن الحجِّيَّة فيكون المرجع هو إطلاقات القضاء بالأيمان الصادق على الحلف بغير الله من المعتقدات.

وأُجيب عن ذلك بأنَّ ثمة ارتكازاً متشرعيَّاً أنَّ الحلف لا يكون إلا بالله تعالى، وهو يصلح لاستظهار انصراف ما دلَّ على أنَّ القضاء بالأيمان إلى الحلف بالله تعالى خصوصاً مع وضوح عدم نفوذ الحلف بكلِّ شيء، فالإطلاق غير مرادٍ جزماً.

وبتعبيرِ آخر: إنَّ هذا الارتكاز إما أن يكون قرينةً على الانصراف وعدم إرادة الإطلاق، وإما أن يكون صالحاً للقرينيَّة بما يقتضي المنع من الظهور في الإطلاق. هذا أولاً.

وثانياً: لا تصل النوبة للتساقط مع إمكان الرجوع لمرجِّحات باب التعارض، والظاهر أنَّ مرجِّحات باب التعارض تقتضي الترجيح للطائفة الأولى الناهية عن الحلف بغير الله تعالى وذلك لموافقة الطائفة الثانية لمذهب العامَّة كما قيل(13) فتُحمل على التقية مضافاً إلى الشهرة بناءً على كونها من المرجحات، وكذلك فإنَّ الطائفة الأولى مناسبة لقوله تعالى في الإشهاد لغير المسلمين على الوصية: ﴿أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ.. تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ﴾(14).

الاستدلال على عدم نفوذ استحلاف الكتابي بغير الله:

هذا وقد استُدلَّ على عدم صحَّة وعدم نفوذ الإحلاف بغير الله تعالى خصوصاً بعد البناء على تعارض الطائفتين وعدم امكان الجمع العرفي بينهما استُدل بصحيحة سُلَيْمَانَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: "فِي كِتَابِ عَلِيٍّ (ع) أَنَّ نَبِيّاً مِنَ الأَنْبِيَاءِ شَكَا إِلَى رَبِّه فَقَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَقْضِي فِيمَا لَمْ أَشْهَدْ ولَمْ أَرَ قَالَ: فَأَوْحَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ إِلَيْه أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِكِتَابِي وأَضِفْهُمْ إِلَى اسْمِي فَحَلِّفْهُمْ بِه وقَالَ: هَذَا لِمَنْ لَمْ تَقُمْ لَه بَيِّنَةٌ"(15).

فإنَّ إطلاقها يشمل الكتابي خصوصاً وأنَّه يؤمن بالله تعالى، وهذه الرواية ليست طرفاً في المعارضة ليُقال بسقوطها بالتعارض، وكذلك يمكن الاستدلال بمعتبرة السكوني عن جعفر عن أبيه عن عليٍّ (عليهم السلام) قال: إذا قال الرجل: أقسمتُ أو حلفتُ فليس بشيء حتى يقول: أقسمت بالله أو حلفت بالله"(16) فقوله "فليس بشيء" صريح في عدم النفوذ وترتُّب الأثر.

هذا مضافاً إلى أنَّ مقتضى الأصل -كما أفاد السيد الحائري(17)- هو عدم نفوذ الحكم القضائي بالحلف بغير الله تعالى، فإنَّ نفوذ القضاء بالحلف بالله تعالى ممَّا لا إشكال فيه على أيِّ تقدير، وأمَّا الحلف بغير الله تعالى فموردٌ للشك والأصل عدم النفوذ وترتُّب الأثر.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

3 / ذي القعدة / 1445ه

12 / مايو / 2024م


1- مستند الشيعة -النراقي- ج17 / ص468.

2- مستند الشيعة -النراقي- ج17 / ص468.

3- الكافي -الكليني- ج7 / ص450.

4- الكافي -الكليني- ج7 / ص450.

5- الكافي -الكليني- ج7 / ص451.

6- الكافي -الكليني- ج7 / ص451.

7- الكافي -الكليني- ج7 / ص451.

8- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج23 / ص267.

9- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج23 / ص267.

10- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج23 / ص268. 

11- مباني تكملة المنهاج -السيد الخوئي- ج41 / ص32.

12- مباني تكملة المنهاج -السيد الخوئي- ج 41 / ص32.

13- مستند الشيعة -النراقي- ج17 / ص468.

14- المائدة: 106.

15- الكافي -الكليني- ج7 / ص415.

16- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج23 / ص234.

17- القضاء في الفقه الإسلامي -السيد الحائري- ص689.