سُوَرُ القرآنِ مُحدَّدة ومنضبطة منذُ العهد النبويِّ

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي علا بتوحيده ودنا في تفريده وجلَّ في سلطانه وعظُمَ في برهانه، له الإحاطةُ بكلِّ شيءٍ والغلبةُ لكلِّ شيءٍ، والقوَّةُ بكلِّ شيء، والقدرةُ على كلِّ شيء، ليس كمثله شيء وهو منشئُ الشيءِ حينَ لا شيء، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً (ص) عَبْدُه ورَسُولُه.

أوصيكم -عبادَ الله ونفسي -بتقوى الله فيما أنتم عنه مسؤولون وإليه تصيرون.

يقول الله تعالى في محكم كتابه المجيد: ﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(1).

الحديثُ حول سُور القرآن المجيد هل كانت في العهد النبويِِّ الشريف كما هي عليه الآن أو أنَّ الآياتِ صُنِّفت إلى سُورٍ في عهدٍ لاحقٍ كما يزعمُ أو يتوهَّم البعض.

والجواب هو أنَّ سُوَر القرآن المجيد منها ما نزل دفعةً واحدة، كالكثير من قصار السُوَر، ومنها ما نزل منجَّماً على دفعات، وكان النبيٌّ الكريم (ص) يأمرُ بنفسه كتَّاب الوحي عند الشروع في سورةٍ جديدة بتصديرها بالبسملة ثم يأمرُ كتَّاب الوحي كلَّما نزلت آيةٌ أو مقطوعةٌ من الآيات أنْ تُضاف إلى تلك السورة إلى أنْ تنزل خاتمةُ تلك السورة، وقد يأمرُ (ص) بالشروع في سورةٍ جديدة قبل أنْ تُختمَ التي قبلها، وقد يأمرُ (ص) بالشروع في سورةٍ ثالثة قبل أن تُختم السورةُ أو السورتان أو الثلاث التي سبقتها ثم إذا نزلت آيةٌ أو مقطوعةٌ من الآيات يأمرُ كتَّابَ الوحي أن تُضاف إلى إحدى السور التي لم تُختم يُحدِّدها لهم إلى أنْ يُبيِّنَ لهم أنَّها خُتمت، وهكذا كانت الكيفيَّة في تصنيف السِور وترتيبِ آياتِها وضبطِ مقدارها إلى أنْ تمَّ نزولُ القرآنِ كاملاً.

سور القرآن التي هي عليه الآن هي ذاتها في العهد النبويِّ:

فسوَرُ القرآن التي هي عليه الآن في نظامِها ومقدارها هي ذاتُها السِوَر التي كانت على عهد رسول الله (ص) دون أدنى اختلاف، فالنبيُّ الكريم (ص) هو مَن أشرف -بأمر الله تعالى- على تصنيفها وترتيب آيات كلِّ سُورة، نعم قد لا تكون السور مرتَّبة في مصاحف الصحابة بالنحو الذي عليه الترتيب الفعلي، فقد يتَّفق أنْ تكون سورةُ النساء -مثلاً- في بعض مصاحف الصحابة قبل سورة آل عمران، وقد تكون سورة هود قبل سورة يونس وهكذا، فالاختلاف إنَّما هو في ترتيب السور، وأمَّا ترتيب آيات كلِّ سورة وتحديد مقدار ما هي مشتملةٌ عليه من الآيات فهو مِن فعل رسولِ الله (ص) وأمرِه المستنِد إلى أمر الله جلَّ وعلا.

عنوان السورة والسور نصَّ عليه القرآن:

 ويؤكِّد ذلك أنَّ عنوان السورة والسُور قد تمَّ النصُّ عليه في العديد من الآيات كقوله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ﴾(2) وكقوله تعالى: ﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ فهذه الآية والتي قبلها ظاهرة في معهوديَّة عنوان السورة وأنَّها المشتملة على مجموعة من الآيات، وأنَّها قد تنزل على قلب رسول الله (ص) دفعةً واحدة فتكون مرتَّبة ومسوَّرة من حين نزولها.

وكذلك هو الشأن في قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ﴾(3) فالقرآن تحدَّى في هذه الآية بالإتيان بعشر سور من مثل سور القرآن، ومعنى ذلك أنَّ السُور القرآنية كانت محدَّدة ومشخَّصة منذُ العهد النبويِّ، ولهذا صحَّ التحدِّي بها، إذ لا معنى للتحدِّي بعشر سور لو لم تكن السور مصنَّفة وقابلة لأنْ يُشار إليها.

الدليل من الروايات الكثيرة الواردة عن الرسول(ص):

ويؤكِّد بل يدلُّ على أنَّ السوَر كانت مصنَّفة محدَّدة منذُ العهد النبويِّ الكثيرُ من الروايات الواردة من طريق الفريقين:

منها: ما أورده الكليني بسند معتبر عَنْ سَعْدٍ الإِسْكَافِ قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّه (ص): أُعْطِيتُ السُّوَرَ الطِّوَالَ مَكَانَ التَّوْرَاةِ، وأُعْطِيتُ الْمِئِينَ مَكَانَ الإِنْجِيلِ، وأُعْطِيتُ الْمَثَانِيَ مَكَانَ الزَّبُورِ، وفُضِّلْتُ بِالْمُفَصَّلِ ثَمَانٌ وسِتُّونَ سُورَةً، وهُوَ مُهَيْمِنٌ عَلَى سَائِرِ الْكُتُبِ والتَّوْرَاةُ لِمُوسَى والإِنْجِيلُ لِعِيسَى والزَّبُورُ لِدَاوُدَ"(4). فهذه الرواية صريحةٌ في أنَّ السوَر كانت قائمة وأنَّ كلاً منها كانت ذاتَ هويَّةٍ مشخَّصة محدَّدة في عهد النبيِّ الكريم (ص) بالنحو الذي عليه الآن.

والمراد من السبع الطوال هي سورةُ البقرة، وسورة آل عمران، وسورة النساء، وسورة المائدة، وسورة الأنعام، وسورة الأعراف، وسورة يونُس، وقيل هي سورة التوبة. وأمَّا المئين من السور فهي التي يصلُ عددُ آياتِها إلى مائة أو يزيدُ وهي السور التي تقع بعد السبع الطوال أولُها سورة بني إسرائيل وهي سورةُ الإسراء، وأمَّا المثاني فهي السورُ التي هي دون المِئين في الطول وفوق المفصَّل، وأما المفصَّل من السور فهي الواقعة بعد الحواميم من السور إلى آخر القرآن وهي ثمان وستون سورة بحسب الرواية كلُّها كانت مشخَّصة ومحدَّدة، وسُمِّيت كلُّ سورةٍ من هذه السور بالمفصَّل لتقارب الفواصل بين آياتها.

ومنها: ما أورده الكليني بسنده عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ رَفَعَه قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع) إِنَّ سُورَةَ الأَنْعَامِ نَزَلَتْ جُمْلَةً شَيَّعَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى أُنْزِلَتْ عَلَى مُحَمَّدٍ (ص)"(5). هذه الرواية ظاهرةٌ في أنَّ سورة الأنعام كانت ذات شخصية قائمة ومنضبطة -مقداراً وترتيباً- منذُ نزولها على قلبِ رسول الله (ص)

ومنها: ما أورده الكليني بسنده عَنْ دُرُسْتَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه (ص): "مَنْ قَرَأَ أَلْهَيكُمُ التَّكَاثُرُ عِنْدَ النَّوْمِ وُقِيَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ"(6) ومقتضى هذه الرواية أنَّ سورة التكاثر كانت مشخصة ومنضبطة وإلا فلا معنى للإحالة عليها والحثِّ على قراءتها.

ومنها: ما أورده الكليني بسنده عَنِ السَّكُونِيِّ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) وأَنَا مَغْمُومٌ مَكْرُوبٌ فَقَالَ لِي: يَا سَكُونِيُّ مِمَّا غَمُّكَ قُلْتُ: وُلِدَتْ لِي ابْنَةٌ فَقَالَ: يَا سَكُونِيُّ عَلَى الأَرْضِ ثِقْلُهَا وعَلَى اللَّه رِزْقُهَا تَعِيشُ فِي غَيْرِ أَجَلِكَ، وتَأْكُلُ مِنْ غَيْرِ رِزْقِكَ فَسَرَّى واللَّه عَنِّي .. ثُمَّ وَضَعَ يَدَه عَلَى جَبْهَتِه فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه (ص) حَقُّ الْوَلَدِ عَلَى وَالِدِه إِذَا كَانَ ذَكَراً .. وإِذَا كَانَتْ أُنْثَى أَنْ يَسْتَفْرِه أُمَّهَا، ويَسْتَحْسِنَ اسْمَهَا ويُعَلِّمَهَا سُورَةَ النُّورِ .."(7). ومقتضى أمر النبيِّ (ص) بتعليم البنت سورة النور هو أنَّ سورة النور كانت ذات هويَّة محدَّدة ومشخَّصة منذ العهد النبوي، إذ لا معنى للأمر بتعليمها وهي غير ذات وجود متعيِّن ومشخَّص يُمكن الرجوع إليه.

ومنها: ما أورده القاضي النعمانُ المغربي في دعائم الإسلام قال: وعن عليٍّ (ع) أنَّ رسول الله (ص) قال: مَن ولد له مولود، فليؤذِّنْ في أُذنِه اليمنى وليُقِم في اليسرى، فإنَّ ذلك عصمةٌ له من الشيطان .. وأنْ يقرأ مع الأذان والإقامة في آذانهما فاتحةَ الكتابِ وآيةَ الكرسيِّ وآخِرَ سورةِ الحشر، وسورة الاخلاص والمعوِّذتين"(8). فالأمر من قبل النبيِّ (ص) بقراءة آخر سورة الحشر معناه أنَّ ثمة سورة كاملة لها كيانٌ محدَّد -افتتاحية وخاتمة- اسمُها سورة الحشر.

ومنها: ما أورده الشيخ الصدوق في الخصال بسنده جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "أنا أشبه الناس بآدم .. وأنا القيم الكامل الجامع ومنَّ علي ربِّي، وقال: يا محمد صلى الله عليك قد أرسلتُ كلَّ رسولٍ إلى أُمتِه بلسانها وأرسلتُك إلى كلِّ أحمرٍ وأسود مِن خلقي، ونصرتُك بالرعب الذي لم أنصر به أحداً، وأحللت لك الغنيمة، ولم تحلَّ لاحدٍ قبلك، وأعطيتُ لك ولأُمَّتِك كنزاً من كنوز عرشي فاتحةَ الكتاب وخاتمةَ سورة البقرة .."(9). فالامتنان على النبيِّ (ص) بخاتمة سورة البقرة يقتضي أن تكون سورة البقرة ذات شخصيَّة محدَّدة ومنضبطة وأنَّ لها افتتاحيَّة وخاتمة.

ومنها: ما أورده الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا (ع) بأسانيد متعدِّدة عن الرضا (ع) عن آبائه عن عليِّ بن أبي طالب (ع) قال: قال رسول الله (ص): "من قرأ سورة إذا زلزلت الأرض أربع مرات كان كمن قرأ القرآن كله".(10) فالحثُّ من قبل النبيِّ (ص) على قراءة سورة إذا زلزلت فرع وجودها وانضباط آياتها في عهده الشريف.

ومنها: ما في صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: "فلقد قرأتُ على رسول الله (ص) بضعًا وسبعين سورة .."(11) قال عبد الله بن مسعود كما في المعجم الكبير للطبراني: "قرأتُ على رسول الله (ص) سبعين سورةً وختمتُ القرآن على خير الناس عليِّ بن أبي طالب"(12) يعني أن ابن مسعود حفظ عن رسول الله (ص) سبعين سورة وحفظ عن خير الناس علي بن أبي طالبٍ أربعاً وأربعين سورة.

هذه مجموعةٌ مستفيضة من الروايات -وثمة الكثير غيرها- تدلُّ على أنَّ سور القرآن كانت محدَّدة ومنضبطة ومشخَّصة منذُ العهد النبويِّ الشريف، نعم لم تكن أسماء السور توقيفيَّة، وإنَّما يتمُّ تشخيصها بمثل السورة التي ذُكرت فيها البقرة، والسورة التي ذكرت فيها الأعراف أو يتمُّ تشخيصها بصدر السورة كأنْ يُقال سورة إذا زلزلت أو سورة ألهكم التكاثر وسورة قل يا أيها الكافرون، وثمة سورٌ كانت تعرَّف بأكثر من اسم مثل سورة الفاتحة وسورة قل هو الله أحد، وسورة براءة.

وخلاصة القول إنَّ سُور القرآن كانت محدَّدة ومنضبطة ومشخَّصة وكان ضبطها متلقَّى عن الرسول الكريم (ص) نعم لم تكن سِوَر القرآن مرتَّبة بالنحو الذي هي عليه فعلاً فالترتيب الفعلي بين السور لم يكن مُستنداً -ظاهراً- إلى الرسول الكريم (ص)، بل كان اجتهاداً من بعض الصحابة، فالقرآنُ الكريم وإنْ كان مجموعاً في عهد النبيِّ الكريم (ص) إلا أنَّه لم يكن مصنَّفاً ومرتَّباً ترتيباً واحداً، وإنَّما كان مكتوباً في الصحائف والجلود والحرير وغيره ممَّا يُكتَب عليه حينذاك.

ثم إنَّ عليَّاً (ع) قد تصدَّى لتصنيفه بُعيد رحيل الرسول (ص) وقد اعتمدَ في تصنيفه على تاريخِ النزول، فقدَّم ما نزل في مكَّة على ما نزَل في المدينةِ من السور، ورتَّب السور المكيَّة بحسب تاريخ نزولِها، فما نزَلَ في مكَّة أولاً أثبته في مصحفه أولاً، وما نزَلَ ثانياً أثبتَه ثانياً، وعلى هذا الترتيب التزمَ في إثبات تمامِ السور المكيَّة وكذلك المدنيَّة.

وهذا النهجُ الذي اعتمده الإمامُ عليٌّ (ع) في ترتيب سور القرآن لم يكن اجتهاداً، بل نشأ عن علمِه الوجداني بتاريخ نزول سور القرآن، فهو قد واكب نزول القرآن من أوَّل يومٍ إلى أنْ انقطع الوحي ورحل الرسولُ (ص) إلى ربَّه، ثم إنَّ عليَّاً (ع) حمل القرآنَ بعد تصنيفِه وترتيبه، وأراد عرضَه على الصحابة إلا أنَّ الخلافةَ أبتْ عليه ذلك وتمنَّعتْ من اعتمادِه، فعادَ به إلى بيتِه.

فبقي القرآنُ في أيدي الناس مجموعاً ولكنَّه غيرُ مصنَّفٍ ولا مرتَّب ترتيباً واحداً إلى أنْ انبرى عددٌ من الصحابة كعبد الله بن مسعود وأُبي بن كعب إلى تصنيفه وترتيبه بمنهجيَّةٍ أخرى غير التي اعتمدها الإمام عليُّ بن أبي طالب (ع) وذلك لأنَّ المنهجيَّة التي اعتمدها عليُّ بن أبي طالب (ع) يتوقَّف إتقانها على معرفةٍ تفصيليَّة بتواريخ النزول والذي امتدًّ لأكثر من عقدينِ من الزمن ولم يكن لأيٍّ من الصحابة إحاطةٌ بذلك سوى عليِّ بن أبي طالب (ع) فقد كان عليٌّ (ع) ملازماً لرسولِ الله (ص) قبل وحين نزول القرآن وإلى أنْ رحل الرسولُ الكريم (ص) إلى ربِّه جلَّ وعلا هذا مضافاً إلى تميُّز الإمام عليٍّ (ع) على سائر الصحابة بملكاتِه الاستثنائية وشدَّةِ عناية رسول الله (ص) به حتى نبزَه بعضُهم بكثرة مناجاتِه لعليٍّ (ع) فقال (ص): "ما انتجيتُه ولكنَّ الله انتجاه"(13).

وقد أفاد عليٌّ (ع) يحكى عنايةَ الرسول (ص) به، فقال: "إنِّي كنتُ إذا سألتُه أنبأني، وإذا سكتُّ ابتدأني"(14) وقال(ع): "والله ما نزلتْ آيةٌ إلا وقد علمتُ فيما نزلت، وأينَ نزَلتْ، وعلى مَن نزلتْ، إنَّ ربي وهَبَ لي قلباً عقولاً ولساناً طلقاً"(15) وقال (ع): "سلوني عن كتابِ الله فإنَّه ليس من آيةٍ إلا وقد عرفتُ بليلٍ نزلتْ أم بنهار، في سهلٍ نزلتْ أم في جبل"(16).

فكان عليٌّ (ع) وحده الجديرَ باعتماد منهجيَّةِ الترتيب بحسب تاريخ النزول، وحيثُ كان من العسير على الصحابة اعتمادُ الترتيب بحسب تاريخ النزول، لذلك كانت لهم منهجيَّةٌ أُخرى في تصنيف القرآن وترتيبِه، فقد أثبتوا في مصاحفِهم السبعَ الطِوال أولاً وهي البقرة وآلُ عمران والنساءُ والأعرافُ والمائدةُ ويونس، ثم أثبتوا المئين من السِوَر وهي التي تجاوزتُ آياتُها المائة وهي اثنا عشر سورة تقريباً، ثم اثبتوا بعدها المثاني من السِور وهي التي لا تبلغُ آياتها المائة وإنَّما سُمِّيت بالمثاني لأنَّ الناس تُكرِّر قراءتها أكثر من تكرارِهم لقراءة السوَر الطوال والمئين، وسورُ المثاني تبلغ عشرين سورةً تقريباً. ثم اثبتوا بعد المثاني الحواميم وهي التي تبدأ بـ ﴿حم﴾ وهي سبعُ سور، وبعد الحواميم أثبتوا في المصاحف المُمتحنات وبعدها المفَّصلات وهي التي تبدأ من سورة الرحمن.

منهجية الصحابة في تصنيف القرآن:

وهذه المنهجيَّة معتمدةٌ في أكثر المصاحف كمصحف عبدالله بن مسعود، وأبي كعب، وزيد بن ثابت وغيرِهم، والاختلافُ بين المصاحف غالبا إنَّما هو في تقديم سورةٍ وتأخيرها، فالمصاحفُ وإنْ كانت متَّحدة في المنهجيَّة إلا أنَّ بعض السور من فصل السبع الطوال مثلاً متقدمةٌ في بعض المصاحف ومتأخِّرةٌ في مصاحفَ أخرى، وهكذا الشأن في بقية الفصول، وهذا الأمر لو قُدِّر له الاستمرار لأمكن أن يُحدث إرباكاً وتشويشاً لذلك كان الأنسب هو ما توافقَ عليه وجوهُ الصحابة من توحيدِ المصاحف.

وأمَّا منشأُ اعتماد هذه المنهجيَّة فهي لأنَّها أيسرُ الطرقِ في الترتيب حيث يتمُّ الاِثبات للسور الطوال أولاً ثم الأقلّ طولاً، وهكذا حتى يتمَّ الانتهاء بالسور القصار.

القرآن مجموعٌ مكتوب منذ العهد النبوي:

والمتحصَّل مما ذكرناه أنَّ جمع القرآن المجيد وقع في عهد رسول الله (ص) بأمرٍ مِن الله تعالى، فلم تكن آيات القرآن وسوره مبعثرةً، فهي وإنْ كانت قد نزلت متفرَّقة على امتداد عقدين من الزمن ويزيد إلا أنَّ السورة تارةً تنزل تامَّة، فلا يُضاف عليها شيء ممَّا ينزلُ بعد ذلك، وتارةً تنزل السورة وتنزلُ بعدها آيةٌ أو آياتٌ متعدَّدة فيأمرُ اللهُ تعالى نبيَّه (ص) أن يأمر كتَّاب الوحي أنْ يُضيفوا هذه الآية إلى هذه السورة ويُحدِّد لهم موضع الإضافة، وهكذا حتى تمَّ جمعُ القرآن في أواخر حياةِ الرسول (ص) بإرشادٍ من الله جلَّ وعلا.

حديث الثقلين دليل على أنَّ القرآن كان مجموعاً مكتوباً:

فالقرآنُ كان مجموعاً مكتوباً في عهد رسول الله (ص) ويكفي للدلالة على ذلك -كما أفاد السيد الخوئي(17)- حديثُ الثقلين المتواتر بين الفريقين، وهو قوله (ص): "إني تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه وعترتي" أو "إني مخلِّف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي" فإنَّ لفظ كتاب لا يُطلق إلا على ما هو مكتوبٌ مجموع، فلا يُقال للكلام المحفوظ في الصدور أنَّه كتاب كما لا يُقال للمكتوب المفرَّق والمبعثَر في الصحائف واللخاف والرقاع والعُسب والأكتاف أنَّه كتابٌ واحد، نعم يُقال للصحيفة الواحدة أنَّها كتاب وللصحائف المتفرِّقة أنَّها كُتب، فلو كان ما خلَّفه النبيِّ (ص) هو صحائف ورقاعاً مبعثرة لقال إنِّي مخلِّف فيكم كتباً، ولكنَّه لم يقل ذلك بل قال: "مخلِّف فيكم كتاب الله" وهذا معناه أنَّه كتاب واحدٌ مكتوب مجموع. نعم لا يضرُّ بصدق عنوان الكتاب الاختلافُ في ترتيب سوره.

ومن ذلك يتبيَّن أنَّ ما يُقال من أنَّ جمع القرآن وقع في عهد الخلفاء لا يصحُّ جزماً، نعم، ما وقع في عهد عثمان هو توحيد المصاحف بمعنى أنَّه اعتُمد تصنيفاً وترتيباً واحداً للسور بالنحو الذي هو عليه الآن، فكانت مصاحفُ الصحابة تختلفُ من حيث ترتيب مواقع السور فاعتُمد في عهد عثمان ترتيباً واحداً للسِوَر بمشهدٍ من الصحابة وفي طليعتهم أميرُ المؤمنين (ع) وعلى هذا الترتيب والتصنيف للسوَر جرت سيرةُ المسلمين من ذلك العهد إلى يومنا هذا.

اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآلِ محمد، واغفِرْ لعبادِك المؤمنين.

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ / فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ / إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾(18).

والحمد لله ربِّ العالمين

 

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

22 من ذي القعدة 1445هـ - الموافق 31 مايو 2024م

جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز


1- سورة النور / 1.

2- سورة محمد (ص) / 20.

3- سورة هود / 13.

4- الكافي -الكليني- ج2 / ص601.

5- الكافي -الكليني- ج2 / ص622.

6-الكافي -الكليني- ج2 / ص623.

7- الكافي -الكليني- ج6 / ص48.

8- دعائم الإسلام -القاضي المغربي- ج1 / ص147.

9- الخصال -الصدوق- ص425، معاني الأخبار -الصدوق- ص51، علل الشرائع -الصدوق- ج1 / ص128.

10- عيون أخبار الرضا (ع) -الصدوق- ج2 / ص41.

11- صحيح مسلم ج7 / ص148.

12- المعجم الكبير -الطبراني- ج9 / ص76.

13- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج38 / ص300، سنن الترمذي ج5 / ص303، كتاب السنة ص584، مسند أبي يعلى ج4 / ص119، المعجم الكبير -الطبراني- ج2 / ص186.

14- المستدرك على الصحيحين -الحاكم النيسابوري- ج3 / ص125، السنن الكبرى -النسائي- ج5 / ص142.

15- شواهد التنزيل -الحاكم الحسكاني- ج1 / ص45.

16- الطبقات الكبرى -ابن سعد- ج2 / ص338، تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج27 / ص100، ج42 / ص398.

17- البيان في تفسير القرآن -السيد الخوئي- ص251.

18- سورة الكوثر.