كيفيَّة استشهاد الإمام الجواد (ع)

أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله رب العالين، الحمدُ لله على حِلمِه بعد علمه، الحمدُ لله على عفوِه بعد قدرتِه، الحمدُ لله القادرِ بقدرته على كلِّ قدرة، الحمدُ لله باسطِ اليدينِ بالرحمة، الحمدُ لله عالمِ الغيبِ والشهادة وهو عليمٌ بذاتِ الصدور، والحمدُ لله خالقِ الخلقِ وقاسمِ الرزق، الحمدُ لله الخالقِ لما يُرى وما لا يُرى، الحمدُ لله عالمِ الغيوب، الحمدُ لله بجميع محامدِه، الحمدُ لله على جميع نعمائه، الحمدُ لله على جميلِ بلائه، لا تُدركه الأبصارُ وهو يُدرك الأبصارَ وهو اللطيفُ الخبير، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً (ص) عَبْدُه ورَسُولُه.

أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} واعلموا أنَّ أحبَّ العبادِ إلى الله عزَّ وجلَّ رجلٌ صدوقٌ في حديثِه، محافظٌ على صلاتِه وما افترض اللهُ عليه، مع أداء الأمانة.

أعظم اللهُ أجوركم أيُّها المؤمنون وأحسنَ لكم العزاءَ بذكرى استشهاد الإمام أبي جعفرٍ الثاني محمد بن عليٍّ التقي الجواد الإمام التاسع من أئمة أهل البيت (ع) الذين اصطفاهم اللهُ تعالى مِن خلقه، وانتجبهم واختارهم ليكونوا أدلَّاءَ على دينه وهداةً لعباده وأذهبَ عنهم الرجسَ وطهَّرهم تطهيرا، وأودُّ بهذه المناسبةِ الجليلةِ الحديثَ حولَ قضيتين:

أئمة أهل البيت (ع) رحلوا جميعاً شهداءَ:

القضية الأولى: حول ما هو المعروف لدينا من أنَّ أئمةَ أهل البيت (ع) قد رحلوا جميعاً من الدنيا شهداءَ وأنَّه ما مِن أحدٍ منهم دون استثناء إلا وهو مقتولٌ شهيد، فهل هذه الدعوى تامَّة وهل ثبتَ ذلك بدليلٍ معتبر؟

والجواب: هو تماميَّةُ هذه الدعوى وصحتُها استناداً للمستفيض من الرواياتِ الواردة عن الرسول الكريم (ص) وأهلِ بيته (ع) والتي اشتملت على الإخبار بأنَّه ما من أحدٍ من الأئمة الإثني عشر (ع) إلا وهو مقتولٌ شهيد. 

فمِن ذلك ما أوردَه الشيخُ الصدوقُ في العيون، وفي الأمالي، وفي كتاب مَن لا يحضره الفقيه قال: كما في العيون: حدَّثنا محمد بن موسى بن المتوكِّل (رحمه الله) قال: حدَّثنا عليُّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي الصلت عبد السلام بن صالح الهروي، قال: سمعتُ الرضا (عليه السلام) يقول: "واللهِ ما منَّا إلا مقتولٌ شهيد. فقيل له: فمَن يقتلُك يا بن رسول الله؟ قال: شرُّ خلقِ الله في زماني، يقتلُني بالسُّمِّ، ثم يدفنُني في دار مضيعة وبلاد غربة .."(1).

والرواية من حيثُ السند صحيحةٌ فرجال سندها كلُّهم من الثقات الإماميَّة.

أمَّا محمد بن موسى بن المتوكِّل فهو من مشايخِ الصدوق، وقد أكثر الروايةَ عنه مترضِّياً ومترحِّما عليه في عامَّة كتبه الروائية تقريباً مثل كتاب مَن لا يحضره الفقيه، ومعاني الأخبار، والخصال، والتوحيد، والأمالي، وصفاتِ الشيعة، وكتاب فضائل الأشهر الثلاثة، وعيون أخبار الرضا (ع)، وكمال الدين، وعلل الشرائع، وثواب الأعمال، هذا وقد ذكره في المشيخة في طرقه إلى الكتب في ثمانية وأربعينَ مورداً، كما أفاد السيِّدُ الخوئي (رحمه الله)(2) وهو ما يكشفُ عن كونه مُعتمَداً عنده، هذا مضافاً إلى ما أفاده السيِّد ابن طاووس في فلاح السائل مِن الاتِّفاق على وثاقته(3)، ولهذا -أعني الوجهَ الأخير- بنى السيِّدُ الخوئي (رحمه الله) على وثاقة الرجل، وأفاد بأنَّه لا ينبغي التوقُّفُ في وثاقته(4).

وأمَّا عليُّ بن إبراهيم القمي وأبوه إبراهيم بن هاشم فهما من أجلاء الطائفة وعظمائها، وأمَّا عبدُ السلام بن صالح المعروف بأبي الصلت الهروي فهو ثقةٌ، صحيحُ الحديث كما أفاد ذلك الشيخُ النجاشي رحمه الله(5). فالرواية صحيحةٌ من حيث السند، وهي من حيث الدلالة شديدةُ الظهور في أنَّ عامَّة أئمة أهل البيت (ع) قد أكرمهم الله تعالى وقدَّر لهم أنْ لا يرحلوا من هذه الدنيا إلا بالقتل شهداء.

رواياتٌ أخرى نصَّت على أنَّه ما منهم إلا مقتولٌ شهيد:

هذا ويُمكن تأييد هذه الرواية المعتبرة سنداً بالعديد من الروايات المشتملة على ذات المضمون:

منها: ما أوردَه الخزَّازُ القمِّي في كفاية الأثر بسنده عن هشام بن محمد عن أبيه قال: لمَّا قُتل أميرُ المؤمنين عليه السلام رقى الحسنُ بن علي عليهما السلام المنبر .. قال: ".. ولقد حدَّثني جدِّي رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أنَّ الأمر يملكُه اثنا عشر إماماً من أهل بيته وصفوتِه ما منَّا إلا مقتولٌ أو مسموم .."(6).

ومنها: ما أوردَه الخزَّازُ القمِّي أيضاً في كفاية الأثر بسنده عن جنادة بن أبي أميَّة قال: دخلتُ على الحسن بن علي (عليهما السلام) في مرضِه الذي تُوفي فيه وبين يديه طشتٌ يقذفُ فيه الدم .. -قال الحسن بن علي صلوات الله عليهما-: واللهِ لقد عهِد إلينا رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله أنَّ هذا الأمر يملكُه اثنا عشر إماماً مِن ولد عليٍّ وفاطمة، ما منَّا إلا مسمومٌ أو مقتول .."(7).

ومنها: ما أورده الشيخ الصدوق في العيون قال: حدَّثنا تميم بن عبد الله بن تميم القرشي قال: حدَّثني أبي عن أحمد بن علي الأنصاري عن أبي الصلت الهروي عن الإمام الرضا (ع) قال: ".. وما منَّا إلا مقتول وإنِّي والله لمقتولٌ بالسم باغتيالِ مَن يغتالني، اعرفُ ذلك بعهدٍ معهود إليَّ من رسول الله (ص) .."(8).

وكذلك أفاد الشيخُ الصدوق في كتاب الاعتقادات إلى دين الإماميَّة قال: "وقد أخبر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم والأئمة (عليهم السلام) أنَّهم مقتولون.." ثم عبَّر صريحاً بما يكشف عن جزمه بصدور هذه الروايات في الجملة وأنَّ الوقوف عليها يُورثُ القطع بأنَّ رحيل النبيِّ الكريم (ص) وأهلِ بيته (ع) كان مِن طريق القتل(9).

نعم لم يرتضِ الشيخُ المفيد (رحمه الله) دعوى القطع بأنَّ نبيَّنا الكريمَ (ص) والأئمة (ع) قد مضوا جميعاً بالسمِّ والقتل(10). ولعلَّه لم يقفْ على مقدار ما وقفَ عليه الشيخُ الصدوق من الروايات أو لعلَّها لم تُورثه القطع، وعلى أيِّ حالٍ فالمقدارُ الذي بلَغنا من الروايات -المُعتضِدة بما وردَ في كلِّ إمامٍ بخصوصِه، والمعتضِدة بالقرائن والحواضنِ التاريخيَّة لهذه الروايات، وتبنِّي الكثير من علمائنا لهذا الأمر- فمجموع ذلك صالحٌ للإثبات التأريخي. بل والوثوق بتماميَّة هذه القضية وهي أنَّ الرسول (ص) وأهل بيته (ع) رحلوا من عالم الدنيا بالقتل شهداء.

كيفيةُ رحيل الإمام الحجَّة (عج):

ويبقى السؤال عن كيفيَّة رحيل الإمام الحجَّة (ع) وهل يكون بالقتل؟ والجواب أنَّه -لم نقف -رغم التتبع- في الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) ما ينفي أو يُثبِت ذلك، نعم نقل الشيخُ علي الحائري اليزدي في كتابه إلزام الناصب في إثبات الحجَّة الغائب المتوفى سنة 1322ه عن أحد العلماء -لم يُسمِّه- أنَّ الإمام (ع) يُقتل غيلةً تقتلُه امرأة ..(11).

إلا أنَّ هذا القول لا يُمكن اعتمادُه، فهو لا يرقى لمستوى الرواية المرسلة، إذ أنَّه لم ينسبْه لأحدِ الأئمة (ع) ولو تنزَّلنا فهي رواية مرسلة مجهولة المصدر، لذلك فهي فاقدةٌ لأدنى مراتب الاعتبار.

وعليه فليس في البين سوى الروايات العامَّة المتضمِّنة لإفادة أنَّه ما من إمامٍ من أئمة أهل البيت (ع) إلا وهو مقتولٌ شهيد، وقد تقدَّم أنَّ فيها ما هو معتبرٌ سنداً وأنَّها صالحةٌ للإثبات والاعتبار، فهي مقتضية للبناء على أنَّ الإمام الحجَّة (ع) يرحلُ عن الدنيا شهيداً، وأمَّا كيفيَّة ذلك فهو في علم الله تعالى، على أنَّ من المُحتمَل أنَّ الإمام (ع) مستثنى من هذه القاعدة فيحظى من الله تعالى بمقام الشهداء دون أنْ يقع عليه القتل.

كيفيَّةُ استشهاد الإمام الجواد (ع):

وأمَّا القضية الثانية فحول كيفيَّة استشهاد الإمام أبي جعفرٍ محمَّدِ بن عليٍّ الجواد (ع) فالثابتُ أنَّه استُشهد من طريق السُّم في عهد المعتصمِ العباسي والذي أشخص الإمام (ع) من مدينة الرسول (ص) إلى بغداد في العام التاسع عشر أو العشرين بعد المائتين للهجرة النبويَّة(12)، وكان الإمام قد اصطحب معه زوجتَه أمَّ الفضل ابنةَ المأمون، ومن حين وصوله بغداد أخذ المعتصم -رغم تظاهره بإكبار الإمام (ع) وتبجيله وتعظيمه- أخذ في تدبير اغتياله واستعانَ على ذلك بابن أخيه جعفر ابن المأمون شقيقِ أم الفضل، فاقتضى الرأيُ عندهما أن يُوعزا إلى أمِّ الفضل بوضع السمِّ في طعامه لأنَّهما وقفا على انحرافِها عن الإمام (ع) فاستجابتْ لذلك فجعلوا سُّماً في عنبٍ رازقيٍّ فقدَّمته بين يدي الإمام (ع) فلمَّا أكل منه ندمتْ وجعلتْ تبكي، فقال لها: ما بكاؤك؟ واللّه ليضربنَّك اللّه بفقرٍ لا يُنجي -لا ينجبر- وبلاءٍ لا ينستر. فبُليت بعلّة في أغمض المواضع من جوارحها، فأنفقت أموالَها لعلاج العلَّة التي أصابتها حتى احتاجت إلى الاسترفاد، وأما جعفر ابن المأمون فتردَّى في بئر فأُخرجَ ميتاً وكان حين تردَّى في البئر سكرانا كما في إثبات الوصية للمسعودي وغيره(13).

وفي تفسير العياشي أنَّ اغتيال الإمام (ع) كان بتحريضٍ من ابن أبي دؤاد أحد علماء البلاط، فأوعز المعتصمُ إلى أحد وزرائه باغتيال الإمام (ع) من طريق السمِّ، فقدَّم بين يدي الإمام (ع) طعاماً مسموماً فتناول منه فشعر بأثره فورَ تناوله، ولم يلبثْ بعده سوى يومِه وليلته(14). وذكر ابنُ شهراشوب أنَّ السمَّ كان في شراب الأترج بعثه إليه المعتصمُ نفسُه(15) وكذلك يظهرُ من العديد من الأخبار أنَّ السمَّ الذي قدَّمته أمُّ الفضل كان في شراب.

فهذه هي مجملُ الأخبار التي وردت في كيفيَّة استشهاد الإمام (ع). وجميعُها متَّفقةٌ على أنَّ اغتياله قد تمَّ بتدبيرٍ من المعتصم، نعم ذكر أحدُ المؤرِّخين أنَّ اغتياله وقع في عهد الواثق ابن المعتصم(16) وهو اشتباهٌ منه، فإنَّ الواثقَ العباسي تولَّى الخلافة سنة سبعة وعشرينَ بعد المائتين، ورحيلُ الإمام (ع) وقع قبل هذا التاريخ بما يقربُ من السبع سنين. نعم ورد في بعض الأخبار أنَّ الواثقَ هو مَن صلِّى على جنازة الإمام (ع) الصلاة الظاهريَّة(17).

دعوى بقاء جثمان الإمام (ع) أياماً على السطح أو في الطريق لا تصح:

ثم إنَّ هنا أمراً يحسنُ التنبيهُ عليه وهو أنَّ ما يتمُّ تداولُه من أنَّ الإمام الجواد (ع) بقيَ ميتاً على سطح داره ثلاثة أيَّام أو أنَّ جثمانَه الشريف أُلقي مِن أعلى السطح وأنَّه ظلَّ ملقىً أياماً في الطريق دون تجهيز هذه الأخبار- وما تضمَّنته من تفاصيل- موهونةٌ ولا أصل لها، فلم نقفْ لها في شيءٍ من مصادرنا أو مصادرِ العامَّة على مستندٍ، نعم هي مدوَّنةٌ في بعض الكتب المتأخرةِ القريبةِ من عصرنا دونَ الإشارةِ إلى مصدرِها، ولهذا فمثلُ هذه التفاصيل فاقدةٌ للاعتبار.

اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآلِ محمد، واغفِرْ لعبادِك المؤمنين.

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ / الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ / إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ / إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}(18).

والحمد لله ربِّ العالمين

 

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

29 من ذي القعدة 1445هـ - الموافق 7 يونيو 2024م

جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز


1- الأمالي -الصدوق- ص140، عيون أخبار الرضا (ع) -الصدوق- ج2 / ص287، من لا يحضره الفقيه -الصدوق- ج2 / ص585، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج14 / ص568.

2- معجم رجال الحديث -السيد الخوئي- ج18 / ص300.

3- فلاح السائل -السيد ابن طاووس- ص158.

4- معجم رجال الحديث -السيد الخوئي- ج18 / ص300.

5- رجال النجاشي -النجاشي- ص 245.

6- كفاية الأثر -الخزاز القمي- ص162.

7- كفاية الأثر -الخزاز القمي- ص227.

8- عيون أخبار الرضا (ع) -الصدوق- ج2 / ص220.

9- الاعتقادات في دين الإمامية -الصدوق- ص99.

10- تصحيح اعتقادات الامامية -المفيد- ص131.

11- إلزام الناصب في إثبات الحجَّة الغائب -الشيخ علي الحائري اليزدي- ج2 / ص146.

12- لاحظ: بحار الأنوار -المجلسي- ج50 / ص12.

13- إثبات الوصية للإمام علي بن أبي طالب -المسعودي- ص227.

14- تفسير العياشي -العياشي- ج1 / ص319.

15- مناقب آل أبي طالي -ابن شهراشوب- ج3 / ص491.

16- مروج الذهب -المسعودي- ج3 / ص488.

17- مروج الذهب -المسعودي- ج3 / ص464.

18- سورة العصر.