دلالة حديث المنزلة

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

ما هو قولكم في دعوى أنَّ أقصى ما يدلٌّ عليه حديثُ المنزلة هو كون عليٍّ (ع) وزيراً للنبيِّ (ص) ومهمة الوزير هي مساعدة الملك أو الحاكم في شؤون حكمه أو تولِّي شؤون الحكم في الغياب المؤقت للملك وتنتهي مهمَّته بموت الملك أو تنحيه عن الحكم.

وأمرُ الوزير يكون في يد الملك أو الحاكم الجديد هل يُبقي عليه في منصبِه أو يعزله، فإذا كان هذا الأمر صحيحاً، فحديث المنزلة لا ينفع لإثبات أحقَّية عليٍّ (ع) في الخلافة، والتشبيه بهارون ليس تامَّاً في إثبات أحقَّيته (ع) وذلك لأنَّ هارون (ع) قد توفي قبل نبيِّ الله موسى (ع) ومهمته لم تتجاوز الوزارة في حياة موسى (ع) فاذا كان عليٌّ (ع) هو بمنزلة هارون من موسى فهو وزير في حياة رسول الله (ص) وبموت رسول الله (ص)  تنتهي هذه الوزارة.

الجواب:

عليٌّ هو الأعلى منزلةً فهو الأفضل على الإطلاق:

مفاد الحديث النبويِّ الشريف: "أنت منِّي بمنزلة هارونَ من موسى إلا أنَّه لا نبيَّ بعدي" أو "إلا النبوَّة"(1) مفاده أنَّ منزلة عليٍّ (ع) من رسول الله (ص) هي الأعلى على الإطلاق من بين سائر الصحابة، إذ ليس في بني إسرائيل رجلٌ أعلى منزلةً لدى نبيٍّ الله موسى (ع) من هارون، فتنزيلُ عليٍّ (ع) من رسول الله (ص) منزلةَ هارونَ من موسى يعني صريحاً أنَّ عليَّاً (ع) يحظى من بين سائر الناس بأعلى منزلة في نفس رسول الله (ص) تماماً كما هي منزلةُ هارون من موسى، حيث ليس من أحدٍ أعلى منزلةً منه في نفس نبيِّ الله موسى (ع).

فإذا كان عليٌّ (ع) هو الأعلى منزلةً في نفس رسول الله (ص) فهو الأفضلُ على الإطلاق، إذ إنَّ رسول الله (ص) لا يُحابي على الحقِّ، ولا يتحدَّث جزافاً، وليس للأهواء -مهما تضاءلت- سبيلٌ فيما ينطقُ به، وفيما يتَّخذه من مواقف، فمَن اعتقد غير ذلك فقد خالف صريح القرآن في مثل قوله تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى / إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾(2).

وعليه فإذا كان عليٌّ (ع) بمقتضى حديث المنزلة هو الأعلى منزلةً في نفس رسول الله (ص) فهو الأفضل والأليق بشؤون النبوَّة، إذ لا يمكن أنْ يحظى الأدون فضلاً والأقلُّ لياقةً المنزلةَ العليا من نفس رسول الله (ص) وإلا كان منشأ هذه المنزلة هو الهوى، وقد نزَّه اللهُ تعالى نبيَّه (ص) عن أن ينطق عن الهوى، وأفاد أنَّ ما ينطق به -حصراً- وحيٌّ يُوحى.

الأفضلية متَّصلة بشؤون النبوَّة ووظائفِها:

ثم إنَّ الأفضلية المطلقة الثابتة لعليٍّ (ص) بمقتضى حديث المنزلة هي الأفضلية المتَّصلة بشؤون النبوَّة ووظائفِها، إذ أنَّ ذلك هو المناسب لكون المتكلم نبيَّاً، فحين يصفُ المهندس أحدَ تلامذته أنَّه الأفضل، فإنَّ المتفاهم عرفاً مِن وصفه لتلميذه أنَّه الأفضل هو أنَّه الأفضل من بين تلامذته في الهندسة، وكذلك حين يصفُ عالمُ الفلك أحد تلامذته أنَّه الأفضل فإنَّ ما يفهمُه العرف من ذلك هو أنَّه الأفضل من بين تلامذته في علم الفلك، وهكذا فإنَّ مَن صدع بحديث المنزلة هو النبيُّ (ص) فالمناسب والمُتفاهَم عرفاً من ذلك هو أنَّ عليَّاً (ع) هو الأفضلُ والأليقُ من بين صحابته بشؤون النبوَّة، فالصادع بحديث المنزلة لم يكن ملكاً أو سلطاناً وإنَّما كان نبيَّاً، فوصفُه لأحدٍ من تلامذته وأصحابه أنَّه الأقضل والأعلى منزلةً يعني أنَّه الأقضلُ والأليقُ بشؤون النبوَّة ووظائفِها.

ويؤكد ذلك الاستدراك الوارد في ذيل الحديث الشريف وهو قوله (ص): "إلا أنَّه لا نبيَّ بعدي" فهذا الاستدارك يؤكِّد أنَّ الحيثيَّة الملحوظة في وصفه لعليٍّ (ع) بأنَّه الأعلى منزلةً هي شؤون النبوَّة وإلا لم تكن ثمة حاجة إلى استثناء النبوَّة، على أنَّ الحاجة إلى استثناء النبوَّة يُعبِّر عن المتفاهَم عرفاً من خطابه هو أنَّ عليَّاً (ع) هو الأليق بمطلق شؤون النبوَّة فحتى لا يتوهَّم المتلقِّي للخطاب أنَّه شامل للنبوَّة احتاج إلى أنْ يُنبِّه على استثنائها.

فهذا الاستثناء يكشفُ بوضوح عن أنَّ علياً (ع) واجدٌ لتمام المراتب، ولائقٌ بتمام الوظائف والشؤون المتَّصلة بالنبوَّة غير أنَّه ليس نبيَّاً، فلو كان ثمة وظيفة أو شأنٌ من شؤون النبوَّة لم يكن عليٌّ (ع) لائقاً بها لها لكان على النبيِّ (ص) استثناؤها كما استثنى النبوَّة، فاستثناؤه للنبوَّة دون سائر الشؤون والوظائف يكشف عن أنَّه (ص) أراد من خطابه أنَّ عليَّاً (ع) واجدٌ لتمام الملكات، ولائقٌ بتمام وظائف النبوَّة إلا أنَّه ليس نبيَّاً.

وعليه فإذا كان عليٌّ (ع) بمقتضى حديث المنزلة- هو الأليق من بين سائر الناس بوظائف النبوَّة والتي منها ولاية الأمر والمرجعية في الدين والحماية لأمور المسلمين فإذا كان عليٌّ (ع) هو الأليق بكلِّ ذلك فهو الأحقُّ بخلافة النبيِّ (ص) ولا يصحُّ أنْ يقال إنَّه الأليق بكلِّ ذلك في حياة النبيِّ (ص) لكنَّه لم يكن كذلك بعد وفاته (ص) فإنَّ الخطاب بحديث المنزلة حينما ساقَه النبيُّ (ص) أراد منه القول بأنَّ ذلك هو واقعُ عليٍّ (ع) وأنَّ تلك هي ملكاتُه ومؤهلاتُه.

موتُ هارون لا ينفي أنَّه الأجدر بمهام النبوَّة:

وأمَّا أنَّ هارون (ع) قد تُوفي في حياة موسى (ع) -فلو سُلِّم ذلك- فإنَّه لا ينفي أنَّه الأجدر على الإطلاق بالقيام بمهامِّ النبوَّة لو قُدِّر له البقاء بعد نبيِّ الله موسى (ع)، وذلك وحده كافٍ لإثبات أنَّ عليَّاً (ع) هو الأجدرُ على الإطلاق بالقيام بمهام النبوَّة بعد رسول الله (ص) فإنَّ الواضح من حديث المنزلة أنَّ الغرض من التنزيل هو إفادة أنَّ عليَّاً (ع) هو الأجدر بمهام النبَّوَّة بعد النبيِّ الكريم (ص) كما أنَّ هارون كان هو الأجدرُ بالقيام بمهام النبوَّة بعد موسى (ع). هذا أولاً

القرآن لم يقصر دور هارون في الوزارة:

وثانياً: من أين لصاحب الشبهة الادِّعاء بأنَّ أقصى ما يدلُّ عليه حديث المنزلة هو أنَّ عليَّا (ع) لم يكن أكثر من وزيرٍ للنبيِّ (ص) فإذا كان منشأ ذلك هو ما أفاده القرآن المجيد من أنَّ هارون (ع) كان وزيراً لموسى (ع) بمقتضى قوله تعالى: ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي / هَارُونَ أَخِي﴾(3) فجوابه أنَّ القرآن المجيد لم يقصر دور هارون على الوزارة وحسب بل أفاد بأنَّ هارون كان شريكاً لموسى (ع) في أمره أي في أمر الرسالة قال تعالى: ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي / هَارُونَ أَخِي / اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي / وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي / كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا / وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا / إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا / قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى﴾(4) وقد استجاب الله تعالى  له حيث قال: ﴿قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى﴾.

عليٌّ كان شريكاً في أمر الرسالة كهارون:

وعليه فمقتضى حديث المنزلة أنَّ عليَّاً (ع) كان شريكاً لرسول الله (ص) في أمر الرسالة ووظائف النبوَّة باستثناء أنَّه لم يكن نبيَّاً وقد أوضح القرآن في العديد من الآيات الأمر الذي كان لرسول الله (ص)، فمِن ذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا / وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾(5) فالنبيُّ (ص) كان شاهداً على الأمَّة ومبشِّراً ونذيراً وداعياً إلى الله بتكليفٍ من الله تعالى، وكان سراجاً منيراً أي هادياً للصراط المستقيم، وحيث إنَّ علياً (ع) شريكٌ لرسول الله (ص) بمقتضى حديث المنزلة وقوله تعالى: ﴿وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾ فهو كذلك شاهدٌ على الأمةِ ومبشِّر ونذير وداعٍ إلى الله بتكليفٍ منه وسراجٌ منير. فكلُّ هذه المهام كانت لعليٍّ (ع) بمقتضى حديث المنزلة باستثناء النبوَّة.

كان لعليٍّ دور التزكية والتعليم للكتاب وهو يقتضي التفوُّق والإحاطة:

وممَّا أفاده القرآن من الأمر الذي كان للنبيِّ (ص) قوله تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾(6) فكان للنبيِّ (ص) بحسب الآية دور التلاوة لآيات الله والتزكية للأمَّة وتعليمهم الكتاب والحكمة، ومعنى ذلك هو الإحاطة الكاملة للكتاب، وعليه فمقتضى حديث المنزلة وقوله تعالى: ﴿وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾ هو أنَّ عليَّاً (ع) شريكٌ لرسول الله (ص) في هذا الدور باستثناء النبوَّة، فله دور التزكية للأمَّة وتعليمها الكتاب والحكمة وهو يعني الإحاطة الكاملة بالكتاب ويعني تفوَّقه عليهم وإلا لَما أُنيط به دور التزكية لهم وتعليمهم الكتاب والحكمة، وكذلك فإنَّ إناطة دور التعليم للكتاب تعني أنَّ له دور المرجعيَّة الدينية.

عليٌّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم بمقتضى حديث المنزلة:

هذا وقد أفاد القرآن المجيد أنَّ النبيَّ(ص) أولى بالمؤمنين من أنفسهم قال تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾(7) ومقتضى حديث المنزلة وأنَّ لعليٍّ (ع) ما لرسول الله (ص) من الملكات والمقامات باستثناء النبوَّة، مقتضى ذلك أنَّ عليَّاً (ع) أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فالأولويَّة الثابتة لرسول الله (ص) والتي تعني ولاية الأمر والسلطنة المطلقة على المؤمنين هذه الأولوية الثابتة لرسول الله (ص) على المؤمنين ثابتةٌ لعليٍّ (ع).

هارون لم يكن وزيراً لملكٍ بل هو وزيرٌ لنبيٍّ:

ثم إنَّ الوزارة الثابتة لهارون (ع) لم تكن وزارةً لملكٍ أو قائدٍ عسكري وإنَّما كانت وزارةً لنبيٍّ، فالمناسب هو أن يكون جديراً بالوزارة فيما يتَّصل بشؤون النبوَّة، ثم لماذا وقع الاختيار على هارون دون سائر بني إسرائيل؟ ولماذا اختار اللهُ تعالى توزيره للنبوَّة لولا تميُّزه وتفوُّقه على سائر بني إسرائيل؟ وهكذا هو الشأن بالنسبة لاختيار الله تعالى توزير عليٍّ (ع) للنبيِّ (ص) لم يكن ليقع لولا تميُّز عليٍّ (ع) وتفوُّقه على سائر الناس فيما يتَّصلُ بشؤون النبوَّة، وهل يتعقلُ منصِفٌ يخشى الله تعالى أنْ يكون عليَّاً (ع) متميِّزاً ومتفوّقاً على سائر الناس في حياة الرسول (ص) ثم ينتفي تميُّزه وتفوُّقه بعد وفاته؟!!.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

15 / ذو الحجَّة / 1445ه

22 / يونيو / 2024م


1- صحيح مسلم -مسلم النيسابوري- ج7 / ص120، سنن الترمذي ج5 / ص304، سنن ابن ماجه -القزويني- ج1 / ص45، وورد بلسان آخر: "اما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبوة بعدي" صحيح مسلم -مسلم النيسابوري- ج7 / ص120، سنن الترمذي ج5 / ص302، المستدرك على الصحيحين -الحاكم النيسابوري- ج3 / ص109، وورد بهذا اللسان: أو ما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى الا النبوة" مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج1 / ص170. ولاحظ أيضاً من طرق الحديث مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج1 / ص177، 182، 184، 185، 331، ج3 / ص32، 338، ج6 / ص369، 438، ولاحظ صحيح البخاري -البخاري- ج5 / ص129، ولاحظ فضائل الصحابة -النسائي- ص13، 14، السنن الكبرى -البيهقي- ج9 / ص40، المصنف -ابن أبي شيبة- ج7 / ص496، ج8 / ص562، السنن الكبرى -النسائي- ج5 / ص44، 45، ، 108، 113، 120، 121، 122، 123، 124، 125، 144، 240، خصائص أمير المؤمنين -النسائي- ص48، 50، 64، 76، 77، 78، 79، 80، 81،82، 83، 84، 85، 116 وغيرها.

2- سورة النجم / 3-4.

3- سورة طه / 29-30

4- سورة طه / 29-36.

5- سورة الأحزاب / 45-46.

6- سورة آل عمران / 164.

7- سورة الأحزاب / 6.