طروء الفسق بعد أداء الشهادة هل يضرُّ بحجيَّتها
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
إذا شهد شاهدان عادلان في قضيَّة ثم فسقا أو فسق أحدُهما قبل أنْ يفصل القاضي قي القضيَّة فهل تسقطُ شهادتهما بطروء الفسق أو تبقى الشهادة على الحجيَّة الثابتة لها حين أداء الشهادة؟
الجواب:
إذا كان طروء الفسق على الشاهدين أوجب الشك في عدالتهما من أول الأمر أي أنَّ طروء الفسق صار سبباً في الشك في عدالة الشاهدين حين أداء الشهادة ففي مثل هذا الفرض تكون شهادتهما ساقطة عن الحجيَّة دون ريب إلا أنَّ ذلك خارج عن مفروض المسألة، فمفروض المسألة هو ما إذا كان فسْقُ الشاهدين طارئاً وأنَّهما كانا واجدين لشرط العدالة حين أداء الشهادة تماماً كما افترضنا كونهما عاقلين حين أداء الشهادة ثم طرأ الجنون عليهما بعد أداء الشهادة، فشرط العدالة كان مُحرزاً وجداناً أو تعبداً حين أداء الشهادة والفسق إنَّما طرأ بعد الأداء للشهادة فهل يضرُّ ذلك بحجيَّة الشهادة أولا ؟.
المشهور بين الفقهاء رضوان الله عليها بل المجمع عليه -كما قيل(1) - هو سقوط الحجيَّة عن الشهادة إذا كانت متعلِّقة بموجب حدٍّ من الحدود المصنَّفة على أنَّها من حقوق الله تعالى كحدِّ الزنا وحدِّ شرب الخمر، فلو شهد أربعةٌ من العدول على أحدٍ بالزنا ثم فسقوا أو فسَقَ بعضُهم قبل إقامة الحدِّ على المشهود عليه لم يجز في هذا الفرض ترتيب الأثر على الشهادة بل تسقط عن الحجيَّة ويُدرء الحد عن المشهود عليه، هذا ما عليه المشهور بل ادُّعي الإجماع عليه.
وأمَّا إذا كانت الشهادة متعلِّقة بشيءٍ من حقوق الناس فاختلف الفقهاءُ في سقوط الشهادة عن الحجيَّة بعد طروء الفسق وعدم سقوطها عن الحجيَّة، فنُسب -كما في الجواهر(2)- إلى الشيخ الطوسي في أحد قوليه وابن إدريس الحلِّي والعلامة الحلي القول بعدم سقوط الشهادة عن الحجيَّة بطروء الفسق، وفي مقابل ذلك نُسب للشيخ الطوسي في القول الآخر وللعلامة في المختلف والشهيدين وآخرين البناءُ على سقوط الشهادة عن الحجيَّة بطروء الفسق على الشاهد .
الاستدلال على سقوط الشهادة عن الحجيَّة بطروء الفسق:
ونبدأ باستعراض الوجوه التي ذُكرت لإثبات دعوى سقوط الحجيَّة عن الشهادة بعد طروء الفسق إذا كانت متعلِّقة بحقوق الناس :
الوجه الأول: أنَّه لو تمَّ البناء على حجيَّة الشهادة بعد طروء الفسق وحَكَمَ القاضي استناداً إلى هذه الشهادة لكان مؤدَّى ذلك هو الحكم استناداً إلى شهادة الفاسق، فالقاضي حين حكَم كان الشاهدان فاسقين -وإنْ كانا عادلين حين أداء الشهادة- والحكم استناداً إلى شهادة الفاسق باطلٌ دون ريب.
والجواب: إنَّ القاضي لم يحكم في هذا الفرض استناداً إلى شهادة الفاسق بل حكم استناداً إلى شهادة العدل، فالشاهدان حين أداء الشهادة كانا عادلين، ولا يعتبر في حجيَّة الشهادة ونفوذها أكثر من وجدان الشاهدين للأهليَّة في ظرف الأداء، فالأهليَّة المعتبرة في نفوذ شهادة الشاهد لا يشترط وجدان الشاهد لها حدوثاً وبقاءً وإلى الأبد، ولهذا لو فقدَ الشاهدُ عقله فصار مجنوناً أو وفقدَ وعيَه أو مات بعد أداء الشهادة فإنَّ ذلك لا يضرُّ بحجيَّة شهادته بعد افتراض وجدانه للأهليَّة حين أداء الشهادة، فالمناطُ في حجيَّة الشهادة ونفوذها هو الوجدان للأهلية المعتبرة شرعاً في ظرف الأداء للشهادة، فالشهادة في هذا الفرض تكون حجَّة وإنْ فقَدَ الشاهد الأهلية بعد أدائه للشهادة . ومن هنا لو أدَّى الشاهدان الواجدان للأهليَّة شهادتهما ثم غابا فلم يُعلم الحال الذي صارا إليه فإنَّ شهادتهما تكون نافذة وليس على القاضي التحرِّي والبحث عن أحوالهما، وما ذلك إلا لأنَّ المعتبر في حجيَّة الشهادة هو إحراز وجدان الشاهدين للأهليَّة في ظرف الأداء.
الوجه الثاني: إنَّ افتراض طروء الفسق على الشاهدين أو على أحدهما بعد أداء الشهادة وقبل الحكم يُشبهُ افتراض تراجع الشاهدين عن شهادتهما قبل الحكم فكما تسقطُ شهادة الشاهدين عن الحجيَّة بالتراجع عن الشهادة قبل الحكم كذلك تسقط بفسقهما بعد الأداء وقبل الحكم .
والجواب كما أفاد السيد الخوئي رحمه الله (3) أنَّ ذلك من القياس المحض، على أنَّه قياس مع الفارق فإنَّ تراجع الشاهدين عن شهادتهما معناه إقرار الشاهدين بالخطأ أو الكذب فهو إبطال وإلغاء لما شهدا به، وهذا بخلاف عروض الفسق على الشاهدين بعد أداء الشهادة فإنَّه لا يتضمَّن إقرار الشاهدين بكذب ما شهدا به بل هما بحسب الفرض على ما شهدا عليه، غايته أنَّهما فقدا بالفسق ما يُعتبر في حجيَّة الشهادة لو شهدا على شيء لاحقاً، فالفسقُ الطارئ يمنع من حجيَّة الشهادة اللاحقة لفقدان الشاهد لشرط العدالة، وأما الشهادة التي تمَّ أداؤها قبل طروء الفسق فإنَّه لا موجب لبطلانها وسقوطها عن الحجيَّة بعد افتراض وجدان الشاهد للعدالة حين أدائها .
الوجه الثالث: إنَّ افتراض طروء الفسق على الشاهدين أو على أحدهما بعد أداء الشهادة يوجب ضعف الظنِّ بعدالتهما حين الأداء أو يوجب الظن بعدم عدالتهما حين أدائهما للشهادة، لذلك فهي فاقدةٌ للحجيَّة من حينها.
والجواب : أنَّه لا ملازمة بين الفسق اللاحق وبين الظنِّ بضعف العدالة أو عدمها في المرحلة التي سبقت طروء الفسق، فقد يبقى الاطمئنان بوجدان الشاهد لمرتبةٍ عالية من العدالة في السابق رغم صيرورته فاسقاً بعد ذلك، فقد يتَّفق بعد تعاقب الوقت نشوء عوامل شديدة التأثير أدَّت إلى فسق الشاهد، هذه العوامل لم تكن موجودة لذلك لا يكون الفسق العارض موجباً لظن المتلقِّي للشهادة بأنَّ عدالة الشاهد حين أداء الشهادة كانت ضعيفة أو معدومة، فمثلاً لو أدَّى الشاهدان الواجدان لشرط العدالة شهادتهما وبعد مدَّة من الوقت سافرا إلى بلاد الكفر ومكثا في أجواء الفاسقين فصارا فاسقين فإنَّ طروء الفسق عليهما لا يوجب بالضرورة الظنَّ بضعف عدالتهما أو عدمها حين أدائهما للشهادة وقبل أنْ يسافرا إلى بلاد الكفر. هذا أولاً .
وثانياً: مجرَّد الظنِّ بضعف عدالة الشاهدين أو عدمها لا يضرَّ بحجيَّة شهادتهما إذا ثبتت لهما العدالة بالأدلَّة المعتبرة شرعاً، فالمعتبَر في نفوذ شهادة الشاهد وجدانه للعدالة وإنْ كانت في أضعف مراتبها، كما أنَّه لا يُشترط في حجيَّة شهادة مَن ثبتت له العدالة بالوسائل المعتبرة الظنُّ بمطابقتها للواقع بل ولا يضرُّ بحجيَّة من ثبتت له العدالة بالوسائل المعتبرة الظنُّ بعدم مطابقتها للواقع، فمناط حجيَّة شهادة الشاهد هو ثبوت العدالة له بالوسائل المعتبرة شرعاً. سواءً وقع الظنُّ بالوفاق أو وقع الظنُّ بالخلاف أو لم يقع ظنٌّ لا بالوفاق ولا بالخلاف.
ويجدر في المقام التنبيه على أنَّ طروء الفسق على الشاهد إذا أوجب الشك في عدالة الشاهد من أول الأمر بمعنى أنَّ عروض الفسق على الشاهد إذا أدَّى إلى الشك في عدالته حين أداء الشهادة – وهذا هو المعبَّر عنه بالشك الساري- ففي مثل هذا الفرض تكون شهادته فاقدة للحجيَّة دون ريب لكن هذا الفرض خارجٌ عن محلِّ الكلام، فإنَّ مفروض المسألة هو طروء الفسق على الشاهد مع الاحراز وجدانا أو تعبداً لعدالته في ظرف الأداء للشهادة.
والمتحصل ممَّا ذكرناه أنَّ الصحيح هو أنَّ طروء الفسق على الشاهدين أو على أحدهما لا يضرُّ بحجيَّة شهادتهما التي تمَّ أداؤها في ظرف العدالة، فالمعتبر في حجيَّة الشهادة هو عدالة الشاهدين حين أداء الشهادة، هذا فيما لو كان متعلَّق الشهادة متصلاً بشيءٍ من حقوق الناس، وأما لو كانت الشهادة متعلِّقة بحدٍّ من الحدود المصنَّفة أنَّها من حقوق الله تعالى كحدِّ الزنا وحدِّ شرب المسكر فالمشهور -كما ذكرنا- هو أنَّ طروء الفسق على الشاهدين مسقِطٌ لشهادتهما عن الحجيَّة وإنْ كان قد تمَّ أداؤها في ظرف العدالة، واستُدلَّ على ذلك بالوجوه الثلاثة المذكورة مضافاً إلى الاستدلال بالإجماع وبأنَّ طروء الفسق يوجب الشبهة والحدود تُدرء بالشبهات .
أمَّا الاستدلال بالإجماع فالظاهر أنَّه لا يتمُّ، فمثل هذا الإجماع لا يكشفُ عن قول المعصوم (ع) لكونه من الإجماعات المُحتمِلة للمدركيَّة، إذ من المحتمل أنَّ الكثير أو بعض من تشكَّل بهم الإجماع قد استندوا فيما أفتوا به إلى بعض الوجوه المذكورة، وهو ما يمنعُ من صلاحيَّة مثل هذا الاجماع للكشف عن قول المعصوم (ع).
وأمَّا الاستدلال بقاعدة أنَّ الحدود تُدرأ بالشبهات فجوابه أنَّه لا مورد للشبهة في المقام، وذلك لاستناد الحكم إلى شهادة البيِّنة العادلة، وأمَّا حصول احتمال أنَّها ليست عادلة واقعاً بسبب طروء الفسق على الشهود أو بعضهم فلا يعدُّ من الشبهة الدارءة للحدود، فمثلُ هذا الاحتمال لا تخلو منه بيِّنة شرعيَّة، فما من بيِّنةٍ شرعيَّة إلا ويُحتمل في موردها المخالفة للواقع، فقد يكون الشهود الذين بنينا على عدالتهم استناداً إلى الضوابط المعتبرة ليسوا عدولاً واقعاً، ولعلَّهم اشتبهوا في شهادتهم لو كانوا عدولاً، فقيام مثل هذه الاحتمالات لا يضرُّ بحجيَّة البيِّنة ونفوذها ولا يمنع من صحَّة الاستناد إليها في الحكم بعد افتراض واجديتها لشرط الحجيَّة وهي العدالة في ظرف الأداء للشهادة .
ولهذا فالصحيح كما أفاد السيد الخوئي رحمه الله تعالى هو صحَّة استناد الحكم إلى شهادة الشهود إذا ثبتت عدالتُهم حين أدائهم للشهادة، ولا يضرُّ بصحَّة الاستناد إلى شهادتهم طروء الفسق عليهم أو على بعضهم بعد أداء الشهادة من غير فرق في ذلك كون الشهادة متعلِّقة بحقوق الناس أو بحقوق الله جلَّ وعلا .
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
15 شوال 1446ه
14 إبريل 2025م
------------------
1-جواهر الكلام - الشيخ حسن النجفي- ج41/ 219.
2-جواهر الكلام - الشيخ حسن النجفي-ج41/ 218.
3-مباني تكملة المنهاج - السيد الخوئي- ج41/ 181.
4-مباني تكملة المنهاج - السيد الخوئي- ج41/ 180.