توبة مرتكب موجب الحدِّ قبل قيام البيِّنة

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

هل يسقط الحدُّ عن مرتكب موجب الحد بالتوبة؟

الجواب:

المشهور بين الفقهاء -كما أفاد صاحب الجواهر(1)- هو عدم سقوط الحدِّ إذا كانت توبةُ مرتكب موجب الحدِّ بعد قيام البينة عليه، فلو قامت البيِّنة على أحدٍ أنَّه زنا فتاب من خطيئته بعد قيام البيِّنة عليه فإنَّ الحدَّ لا يسقط عنه بل يتعيَّن إقامة الحدِّ عليه.

مستند المشهور في عدم سقوط الحدِّ بالتوبة بعد البيِّنة:

وقد نصَّت على ذلك مرسلة أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) فِي رَجُلٍ أُقِيمَتْ عَلَيْه الْبَيِّنَةُ بِأَنَّه زَنَى ثُمَّ هَرَبَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ؟ قَالَ: إِنْ تَابَ فَمَا عَلَيْه شَيْءٌ وإِنْ وَقَعَ فِي يَدِ الإِمَامِ أَقَامَ عَلَيْه الْحَدَّ وإِنْ عَلِمَ مَكَانَه بَعَثَ إِلَيْه"(2)

فمفاد هذه الرواية أنه لو تاب بعد قيام البينة عليه فإنَّ توبته تقبل فيما بينه وبين ربِّه جلَّ وعلا إلا أنَّه لو وقع في يد الإمام أقام عليه الحدَّ وكذلك لو علم الإمام بمكانه بعث إليه مَن يأتي به ليقام عليه الحدُّ، فظاهر الرواية هو عدم سقوط الحد بالتوبة بعد قيام البينة، نعم هي مقبولة فيما بينه وبين ربه جلَّ وعلا. فالرواية تامَّة من حيث الدلالة إلا أنَّه لمكان ضعفه سندها بالإرسال لا يمكن الاستناد إليه وإن كانت صالحة للتأييد.

فالمستند فيما ذهب إليه المشهور من عدم سقوط الحد بالتوبة بعد قيام البيِّنة هو إطلاقات ما دلَّ على لزوم إقامة الحد على مَن ارتكب موجب الحد، فإنَّ مقتضاها وجوب إقامة الحدِّ عليه سواءً تاب قبل إقامة الحدِّ عليه أو لم يتب، وحيث لا دليل على تقييد هذه الإطلاقات لذلك يتعيَّن إقامة الحدِّ على مرتكب موجبِه وإنْ كان قد تاب قبل إقامة الحدِّ عليه. هذا في فرض ثبوت الحد على الجاني بالبيِّنة دون الإقرار ويؤكد ذلك أعني عدم سقوط الحد بالتوبة بعد قيام البيِّنة ما ورد في صحيحة الْحُسَيْنِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي الْحَسَنِ (ع) أَخْبِرْنِي عَنِ الْمُحْصَنِ إِذَا هُوَ هَرَبَ مِنَ الْحَفِيرَةِ هَلْ يُرَدُّ حَتَّى يُقَامَ عَلَيْه الْحَدُّ فَقَالَ: يُرَدُّ ولَا يُرَدُّ فَقُلْتُ: وكَيْفَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ إِذَا كَانَ هُوَ الْمُقِرَّ عَلَى نَفْسِه ثُمَّ هَرَبَ مِنَ الْحَفِيرَةِ بَعْدَ مَا يُصِيبُه شَيْءٌ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمْ يُرَدَّ وإِنْ كَانَ إِنَّمَا قَامَتْ عَلَيْه الْبَيِّنَةُ وهُوَ يَجْحَدُ ثُمَّ هَرَبَ رُدَّ وهُوَ صَاغِرٌ حَتَّى يُقَامَ عَلَيْه الْحَدُّ وذَلِكَ أَنَّ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ أَقَرَّ عِنْدَ رَسُولِ اللَّه (ص) بِالزِّنَى فَأَمَرَ بِه أَنْ يُرْجَمَ فَهَرَبَ مِنَ الْحَفِيرَةِ فَرَمَاه الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ بِسَاقِ بَعِيرٍ فَعَقَلَه فَسَقَطَ فَلَحِقَه النَّاسُ فَقَتَلُوه ثُمَّ أَخْبَرُوا رَسُولَ اللَّه ص) بِذَلِكَ فَقَالَ لَهُمْ: فَهَلَّا تَرَكْتُمُوه إِذَا هَرَبَ يَذْهَبُ فَإِنَّمَا هُوَ الَّذِي أَقَرَّ عَلَى نَفْسِه وقَالَ لَهُمْ: أَمَا لَوْ كَانَ عَلِيٌّ حَاضِراً مَعَكُمْ لَمَا ضَلَلْتُمْ قَالَ: ووَدَاه رَسُولُ اللَّه ص مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ"(3)

فقوله (ع): "وإِنْ كَانَ إِنَّمَا قَامَتْ عَلَيْه الْبَيِّنَةُ وهُوَ يَجْحَدُ ثُمَّ هَرَبَ رُدَّ وهُوَ صَاغِرٌ حَتَّى يُقَامَ عَلَيْه الْحَدُّ" ظاهر في أنَّه مع قيام البينة على الجاني يتعين إقامة الحدِّ عليه مطلقاً تاب أو لم يتب. وهذا بخلاف مَن ثبت الحدُّ عليه بالإقرار.

مستند المشهور في سقوط الحدِّ بالتوبة قبل البيِّنة:

والفرض الآخر هو ما لو تاب مرتكبُ مُوجب الحدِّ قبل قيام البيِّنة عليه ثم قامت عليه البيِّنة بعد التحقُّق من توبته فهل يسقطُ عنه الحدُّ في هذا الفرض؟

المشهور بين الفقهاء هو سقوط الحدِّ في هذا الفرض بل أفاد صاحب الجواهر(4) أنَّه لم يجد خلافاً في ذلك واستظهر الفاضل الهندي رحمه الله في كشف اللثام الاتفاق على سقوط الحد في هذا الفرض(5)

واستُدلَّ على ذلك مضافاً إلى دعوى الإجماع بمرسلة ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَحَدِهِمَا (ع) فِي رَجُلٍ سَرَقَ أَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ أَوْ زَنَى فَلَمْ يُعْلَمْ بِذَلِكَ مِنْه ولَمْ يُؤْخَذْ حَتَّى تَابَ وصَلَحَ؟ فَقَالَ: إِذَا صَلَحَ وعُرِفَ مِنْه أَمْرٌ جَمِيلٌ لَمْ يُقَمْ عَلَيْه الْحَدُّ"(6) 

فبناءً على حجيَّة مراسيل ابن أبي عمير تكون الرواية صالحة للاعتماد على أنَّه يمكن البناء على حجيَّتها نظراً لانجبارها بعمل المشهور حيث لم يؤثر عن أحدٍ من الفقهاء الفتوى بخلاف مضمونها كما أفاد ذلك صاحب الجواهر وصاحب الرياض(7) ويتعزَّز ذلك بما استظهره الفاضل الهندي من الاتفاق على سقوط الحد في هذا الفرض وهو التحقق من التوبة قبل قيام البيِّنة.

ويُمكن تأييد ذلك بصحيحة عَبْدِ اللَّه بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: السَّارِقُ إِذَا جَاءَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِه تَائِباً إِلَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ ورَدَّ سَرِقَتَه عَلَى صَاحِبِهَا فَلَا قَطْعَ عَلَيْه"(8)

فإنَّ ظاهر الرواية هو سقوط الحدِّ عنه بالتوبة حتى لو قامت عليه البيِّنة بعد ذلك، ولهذا التزم السيد الخوئي(9) بسقوط الحد عن السارق إذا تاب قبل قيام البينة عليه إلا أنَّه ونظراً لعدم ظهور الرواية في الإطلاق لذلك فهي خاصَّة بموردها وهي توبة السارق قبل قيام البينة عليه، نعم هي صالحة لتأييد ما أفادته مرسلة ابن أبي عمير من سقوط الحد عن مطلق مرتكب أحد الحدود إذا عُرفت منه التوبة قبل قيام البيِّنة عليه.

نعم يبقى إشكالٌ وهو ظهور العديد من الروايات في عدم سقوط الحدِّ بالإقرار الناشئ عن التوبة وأنَّ للإمام أن يُقيم عليه الحدَّ في هذا الفرض وله أن يعفو، وقد نصَّت بعض الروايات أنَّ الإمام (ع) وكذلك الرسول (ص) أقاما الحدَّ على المقرِّ التائب(10) نعم أفاد العديدُ من الروايات أنَّ للإمام أنْ يعفو(11) ولكنَّ ذلك أمرٌ آخر غير سقوط الحد، فالتائب المقر بموجب الحدِّ مستحقٌّ- بحسب هذه الروايات- للحدِّ ولكنَّ الإمام له أن يعفو عنه، فالتوبة وحدها لا توجب سقوط الحدِّ عن المقرِّ ما لم يقرِّر الإمام العفو وإسقاط الحد. فإذا كان المقرُّ أحسن حالٍ ممَّن قامت عليه البيِّنة فكيف يسقط الحدُّ عنه بالتوبة قبل قيام البيِّنة ولا يسقط الحدُّ عن المقرِّ بالتوبة قبل الإقرار غايته أنَّ للإمام العفو عنه إلا أنَّ له في ذات الوقت إقامة الحدِّ عليه.

والحمد لله ربِّ العالمين

الشيخ محمد صنقور

23 من ذي القعدة 1446ه

21 مايو 2025م

 


1- جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج41 / ص308.

2- الكافي -الكليني-ج7 / ص251. وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج 28/ 37.

3- الكافي -الكليني- ج7 / ص185، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج28 / ص101.

4- جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج41 / ص308.

5- كشف اللثام -الفاضل الهندي- ج10 / ص435.

6- الكافي -الكليني- ج 7/ 250، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج 28 / ص37.

7- رياض المسائل -السيد علي الطبأطبائي- ج16 / ص141.

8- الكافي -الكليني- ج7 / ص220، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج28 / ص36.

9- مباني تكملة المنهاج -السيد الخوئي- ج41 / ص226.

10- مثل موثقة أَبِي الْعَبَّاسِ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع) أَتَى النَّبِيَّ (ص) رَجُلٌ فَقَالَ؛ إِنِّي زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي فَصَرَفَ النَّبِيُّ (ص) وَجْهَه عَنْه فَأَتَاه مِنْ جَانِبِه الآخَرِ ثُمَّ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ فَصَرَفَ وَجْهَه عَنْه ثُمَّ جَاءَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ لَه: يَا رَسُولَ اللَّه إِنِّي زَنَيْتُ وعَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ لِي مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه (ص) أبِصَاحِبِكُمْ بَأْسٌ يَعْنِي جِنَّةً؟ فَقَالُوا: لَا فَأَقَرَّ عَلَى نَفْسِه الرَّابِعَةَ، فَأَمَرَ بِه رَسُولُ اللَّه (ص) أَنْ يُرْجَمَ.. ثُمَّ قَالَ: لَوِ اسْتَتَرَ ثُمَّ تَابَ كَانَ خَيْراً لَه" الكافي -الكليني- ج7 / ص185، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج28 / ص103. ما رواه الكليني عن عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ رَفَعَه إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) قَالَ: أَتَاه رَجُلٌ بِالْكُوفَةِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي قَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ قَالَ: مِنْ مُزَيْنَةَ قَالَ: أتَقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئاً؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: فَاقْرَأْ فَقَرَأَ فَأَجَادَ، فَقَالَ: أبِكَ جِنَّةٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَاذْهَبْ حَتَّى نَسْأَلَ عَنْكَ فَذَهَبَ الرَّجُلُ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْه بَعْدُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي فَقَالَ: ألَكَ زَوْجَةٌ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَمُقِيمَةٌ مَعَكَ فِي الْبَلَدِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَمَرَه أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) فَذَهَبَ، وقَالَ: حَتَّى نَسْأَلَ عَنْكَ فَبَعَثَ إِلَى قَوْمِه، فَسَأَلَ عَنْ خَبَرِه، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صَحِيحُ الْعَقْلِ فَرَجَعَ إِلَيْه الثَّالِثَةَ، فَقَالَ لَه: مِثْلَ مَقَالَتِه فَقَالَ لَه: اذْهَبْ حَتَّى نَسْأَلَ عَنْكَ، فَرَجَعَ إِلَيْه الرَّابِعَةَ، فَلَمَّا أَقَرَّ قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) لِقَنْبَرٍ: احْتَفِظْ بِه، ثُمَّ غَضِبَ ثُمَّ قَالَ: مَا أَقْبَحَ بِالرَّجُلِ مِنْكُمْ أَنْ يَأْتِيَ بَعْضَ هَذِه الْفَوَاحِشِ فَيَفْضَحَ نَفْسَه عَلَى رُؤُوسِ الْمَلأِ أفَلَا تَابَ فِي بَيْتِه، فَوَاللَّه لَتَوْبَتُه فِيمَا بَيْنَه وبَيْنَ اللَّه أَفْضَلُ مِنْ إِقَامَتِي عَلَيْه الْحَدَّ، ثُمَّ أَخْرَجَه ونَادَى فِي النَّاسِ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ اخْرُجُوا لِيُقَامَ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ الْحَدُّ .. وروى نحوه علي بن إبراهيم تفسيره بسند صحيح عن أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) إنه جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال له يا أمير المؤمنين .." الكافي -الكليني- ج7 / ص188.

11- مثل معتبرة طلحة بن زيد عن جعفر (عليه السلام) «قال: حدّثني بعض أهلي أنّ شابّاً أتى أمير المؤمنين (عليه السلام) فأقرّ عنده بالسرقة، قال: فقال له علي (عليه السلام): إنّي أراك شابّاً لا بأس بهبتك، فهل تقرأ شيئاً من القرآن؟ قال: نعم، سورة البقرة، فقال: قد وهبت يدك لسورة البقرة، قال: وإنّما منعه أن يقطعه لأنّه لم يقم عليه بيّنة" وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج28 / ص250، فمثل هذه الرواية وإن لم تكن صريحة في توبة المقر بالسرقة ولكنها تدل على أن للإمام العفو لو أقر بعد التوبة بالأولوية أو بالإطلاق. ولا يسقط عنه الحد إلا بالعفو تاب أو لم يتب.