معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
السؤال:
قال تعالى: ﴿فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا﴾(1) علّق الله تعالى رؤيتة على الممكن وهو استقرار الجبل، وكلُّ ما عُلِّق على الممكن فهو ممكن فرؤيته ممكنة؟
الجواب:
الآية المباركة لم تُعلِّق الرؤية على أمرٍ ممكنٍ بل علَّقته على أمرٍ مستحيل الوقوع، فاستقرار الجبل مستحيل في فرض التجلِّي، لذلك فرؤيتُه تعالى مستحيلةٌ أيضًا.
فالجبلُ وإنْ كان استقراره ممكنًا في حدِّ ذاته إلا أنَّ ذلك لم يكن موردًا للتعليق في الآية المباركة حتى يُقال إنَّ المعلَّق على الممكن يكون ممكنًا، فما هو موردٌ للتعليق في الآية المباركة إنَّما هو استقرار الجبل في فرض التجلِّي، واستقراره في هذا الفرض مستحيل، لذلك كانت الرؤية مستحيلة لانَّها قد عُلِّقت على أمرٍ مستحيل.
ويُمكن التنظير لهذه الآية باحتجاج ابراهيم (ع) على نمرود حين ادَّعى الربوبيَّة فقال له: ﴿فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾(2) فكأنَّ ابراهيم (ع) قال لنمرود (إنْ جئت بالشمس من المغرب فأنت رب) فهو قد علَّق ثبوت الربوبية لنمرود على أمرٍ مستحيل وهو أنْ يأتي بالشمس من المغرب.
فظهور الشمس من المغرب وإنْ كان ممكنًأ في حدِّ ذاته إلا أنَّ ذلك لم يكن موردًا للتعليق في كلام ابراهيم (ع)، فما هو موردٌ للتعليق في كلامه هو ظهور الشمس من المغرب بارادة نمرود دون إرادة الله تعالى، وذلك مستحيلٌ قطعًا لاستحالة أنْ تظهر الشمس في أيِّ موقع بغير إرادة الله جلَّ وعلا، لذلك بُهِت الذي كفر.
والمقام من هذا القبيل فاستقرار الجبل وإنْ كان ممكنًا في حدِّ ذاته إلا أنَّ استقراره إنَّما هو بفيض اللهِ وعنايته وأمره، فمتى ما انتفى عنه الفيض الالهي فإنَّ استقراره طرفةَ عينٍ يكون مستحيلاً شأنُه في ذلك شأنُ سائر الممكنات.
فالممكن مفتقرٌ إلى العلِّة ابتداءً واستمرارًا، فوجوده ليس نابعًا من ذاته وإنَّما هو مُفاض عليه من علِّة الوجود وهو الله جلَّ وعلا، فمتى ما انقطع عنه الفيض الالهي انقطع وجودُه لحظةَ انقطاع الفيضِ عنه.
فالممكنات لا تستقلُّ بوجودها بمجرَّد ايجادها بل تظلُّ مفتقرةً في استقرار وجودها إلى مُوجدها، ذلك لانَّ الوجود للممكنات ليس ذاتيًا لها.
وعليه فاستقرار الجبل كان مستحيلاً في فرض التجلِّي، وذلك لاستحالة انْ يظلَّ مستقرًا وقد أراد الله له انْ يندكَّ.
فمفاد الآية المباركة هو أنَّه إنْ بقَى الجبل مستقرًا بعد انْ أردنا له أنْ يندكَّ فسوف تراني، ولانَّ بقاءه مستقرًا بعد إرادة الله تعالى لنسفِه مستحيلٌ لذلك فرؤيتُه تعالى مستحيلة.
ومنشأ استظهار أنَّ المعلَّق عليه الرؤية هو استقرار الجبل في فرض التجلِّي هو أنَّ الله تعالى كان في مقام البرهنة على ما أفاده في صدر الآية حيث قال تعالى: ﴿لَن تَرَانِي﴾(3) فحرف (لن) الداخل على الفعل المضارع مفيدٌ للنفي المؤبَّد أي أنَّه مفيد لنفي الرؤية أبدًا، وهذا معناه أنَّ الآية بعد النفي التأبيدي كانت بصدد البرهنة على هذه الدعوى.
فلو كان مفادها أنَّه إنْ استقرَّ هذا الجبل فسوف تراني فإنَّ هذه الجملة الشرطية سوف تكون أشبه شيءٍ بالعبث، إذ أنَّ الجبل كان مستقرًا وبمقتضى طبعة أن يظلَّ على حاله مستقرًا، فتعليقُ أمرٍ يُراد نفيه على شيءٍ من هذا القبيل يكون نقضًا للغرض بل يكون إثباتًا لأمرٍ يُراد نفيه، وذلك إمَّا ان يصدر لغرض السخرية بالمخاطَب أو يصدر من سفيه لا يُحسن الدفاع عن دعواه. تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرا.
فمساقُ الآية المباركة -لو كان هذا هو مفادها- هو أن يقول الرجل الذي طلَّق زوجته وأصرَّ على عدم الرجوع اليها فحين دُعي للرجوع اليها قال: (إنْ بقي منزلي هذا قائمًا فسأرجع إلى مطلَّقتي). يقصد من ذلك أنَّه لن يرجع.
فهو قد علَّق رجوعه الذي من المفترض أنَّه كان يأباه علَّقه على أمرٍ ليس ممكن التحقُّق وحسب بل إنَّ تحققه فعليٌّ عرفًا.
فهذا الرجل إمَّا ان يكون ساخرًا أو سفيهًا، إذ لا يُمكن أنْ يكون جادَّا في عدم الرجوع ومع ذلك يُعلِّق رجوعه على بقاء منزله قائمًا إلا أن يكون سفيهًا.
فالمقام من هذا القبيل، إذ لا يصحُّ أنْ تُعلِّق الآيةُ الرؤيةَ التي بدأت بنفيها التأبيدي لا يمكن أنْ تُعلِّقها على أمرٍ هو متحقِّق عرفًا، ولذلك لا بدَّ من استظهار أنَّ المراد من الآية المباركة هو تعليق الرؤية على استقرار الجبل في فرض التجلِّي بمعنى تعليق رؤية الله عزَّ وجل على استقرار الجبل في فرض إرادة الله تعالى لنسفه.
فتكون الآية قد علَّقت الرؤية على أمرٍ مستحيل التحقُّق وذلك لاستحالة استقرار الجبل مع إرادة الله عزَّ وجلَّ لدكِّه ونسفه.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
1- سورة الأعراف / 143.
2- سورة البقرة / 258.
3- سورة الأعراف / 143.