منشأ التقديم والتأخير في الآيات
المسألة:
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته شيخنا الجليل:
قال تعالى في سورة النحل: ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾(1)
وقال تعالى في سورة فاطر : ﴿وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾(2) في الآية الأولى ﴿وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ﴾ وفي الآية الثانية: ﴿وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ﴾ ما هو سر التقديم والتأخير في الآيتين.
وقال تعالى في سورة الحديد: ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾(3).
وقال تعالى في سورة التحريم: ﴿يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾(4) في الآية الثالثة: ﴿يَسْعى نُورُهُمْ﴾ وفي الآية الرابعة ﴿نُورُهُمْ يَسْعَى﴾ ما هو سر التقديم والتأخير.
الجواب:
أمَّا تأخير الجار والمجرور في قوله: ﴿وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ﴾ فجاء على القياس فإنَّ الفلك مفعول أول للفعل ترى، ومواخر مفعول ثانٍ، والجار والمجرور ظرف متعلِّق بمواخر، والظرف حقُّه التأخير بمقتضى القياس.
وأمَّا تقديم الجار والمجرور في قوله تعالى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ فهو لرعاية التناسب بين فقرة: ﴿وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا﴾ وفقرة: ﴿وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ﴾ فحيث تقدَّم الجار والمجرور في الفقرة الأولى ناسبَ تقديم الجار والمجرور في الفقرة الثانية.
ففي هذه الآية قال: ﴿وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ﴾ فقدَّم الجار والمجرور على الأكل، وفي الآية الأخرى من سورة النحل قال: ﴿لِتَأْكُلُوا مِنْهُ﴾ فأخَّر الجار والمجرور على الأكل، فحيث قدَّم الجار والمجرور في قوله: ﴿وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ﴾ ناسب تقديم الجار والمجرور في قوله: ﴿فِيهِ مَوَاخِرَ﴾.
وأمَّا الآية من سورة الحديد: ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ فقوله تعالى: ﴿يَسْعَى نُورُهُمْ﴾ جملة فعليَّة في موضع حال من المؤمنين يعني أنَّ ﴿يَسْعَى نُورُهُمْ﴾ فعلٌ وفاعل في موضع حال للمؤمنين، ولو تمَّ تقديم ﴿نُورُهُمْ﴾ على الفعل ﴿يَسْعَى﴾ لتوهَّم القارئ أنَّ نورهم مفعول ثان للفعل ترى وهو غيرُ مرادٍ من الآية.
وأمَّا الآية من سورة التحريم: ﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ فقوله تعالى: ﴿نُورُهُمْ يَسْعَى﴾ جملة مستأنفة، فيكون ﴿نُورُهُمْ﴾ مبتدأ و﴿يَسْعَى﴾ خبره والجملة من المبتدأ والخبر حال من النبيِّ والذين آمنوا معه، وتقديم ﴿نُورُهُمْ﴾ في المقام لا يُوجب توهُّم أنَّه مفعول به. فيكون تقديم ﴿نُورُهُمْ﴾ أولى بالتقديم لأنَّه الأنسب بالبشرى.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
---------------------------
1- سورة النحل / 14.
2- سورة فاطر / 12.
3- سورة الحديد / 12.
4- سورة التحريم / 8.