البكاء على الميت
الحزن والتأثر عند فقدان الأحبة أمر جُبلت عليه الفطرة الإنسانية فإذا ابتلي بمصاب عزيز من أعزّائه أو فلذة من أفلاذ كبده وأرحامه يحس بحزن شديد يتعقبه ذرف الدموع على وجناته، دون أن يستطيع أن يتمالك حزنه أو بكاءه.
ولا أجد أحدًا ينكر هذه الحقيقة إنكار جدٍ وموضوعية ومن الواضح بمكان انّ الإسلام دين الفطرة يجاريها ولا يخالفها.
قال سبحانه: ﴿فَأقِم ْوَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنيفًا فِطْرَتَ اللّهِ الّتي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها﴾.(1)
ولا يمكن لتشريع عالمىٍّ أن يحرم الحزن والبكاء على فقد الأحبة ويحرم عليه البكاء إذا لم يقترن بشيء يغضب الرب.
ومن حسن الحظ نرى انّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان ساروا على وفق الفطرة.
وهذا رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) يبكي على ولده إبراهيم، ويقول: "العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلاّ ما يرضي ربنا، وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون".(2)
روى أصحاب السِّيَر والتاريخ، أنّه لمّا احتضر إبراهيم ابن النبي، جاء(صلى الله عليه وآله وسلم) فوجده في حجر أُمّه، فأخذه ووضعهُ في حجره، وقال: "يا إبراهيم إنّا لن نغني عنك من اللّه شيئًا - ثمّ ذرفت عيناه وقال: - إنّا بك يا إبراهيم لمحزونون، تبكي العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الربّ، ولولا أنّه أمرٌ حقٌّ ووعدٌ صدقٌ وأنّها سبيل مأتيّة لحزَنّا عليك حزنًا شديدًا أشدّ من هذا".
ولمّا قال له عبد الرحمان بن عوف: أو لم تكن نهيت عن البكاء؟ أجاب بقوله: "لا، ولكن نهيتُ عن صوتين أحمقين وآخرين، صوت عند مصيبة وخمش وجوه وشقّ جيوب ورنّة شيطان، وصوت عن نغمة لهو، وهذه رحمة، ومن لا يَرحم لا يُرحَم".(3)
وليس هذا أوّل وآخر بكاء منه(صلى الله عليه وآله وسلم) عند ابتلائه بمصاب أعزّائه، بل كان(صلى الله عليه وآله وسلم) بكي على ابنه "طاهر" ويقول: "إنّ العين تذرف وإنّ الدمع يغلب والقلب يحزن ولا نعصي اللّه عزّ وجلّ".(4)
وقد قام العلاّمة الأميني في موسوعته الكبيرة "الغدير" بجمع موارد كثيرة بكى فيها النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والصحابة والتابعون على موتاهم وأعزّائهم عند افتقادهم، وإليك نصّ ما جاء به ذلك المتتبع الخبير.
وهذا هو (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا أُصيب حمزة - رضي اللّه عنه - وجاءت صفيّة بنت عبد المطلّب - رضي اللّه عنها - تطلبه فحال بينها و بينه الأنصار، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): دعوها، فجلست عنده فجعلت إذا بكت بكى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وإذا نشجت نَشَجَ، وكانت فاطمة (عليها السلام) تبكي، ورسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كلّما بكت يبكي، و قال: لن أُصاب بمثلك أبدًا.(5)
ولمّا رجع رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) من أُحد بكت نساء الأنصار على شهدائهن، فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: لكن حمزة لا بواكي له، فرجع الأنصار فقالوا لنسائهم: لا تبكين أحدًا حتّى تبدأن بحمزة، قال: فذاك فيهم إلى اليوم لا يبكين ميّتًا إلاّ بدأن بحمزة.(6)
وهذا هو(صلى الله عليه وآله وسلم) ينعي جعفرًا، وزيد بن حارثة، وعبد اللّه بن رواحة، وعيناه تذرفان.(7)
وهذا هو(صلى الله عليه وآله وسلم) زار قبر أُمّه وبكى عليها وأبكى من حوله.(8)
وهذا هو(صلى الله عليه وآله وسلم) يقبّل عثمان بن مظعون وهو ميّت ودموعه تسيل على خدّه.(9)
وهذا هو(صلى الله عليه وآله وسلم) يبكي على ابن لبعض بناته، فقال له عبادة بن الصامت: ما هذا يا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: الرحمة التي جعلها اللّه في بني آدم وإنّما يرحم اللّه من عباده الرحماء.(10)
وهذه الصدّيقة الطاهرة تبكي على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتقول: يا أبتاه من ربّه ما أدناه، يا أبتاه أجاب ربًّا دعاه، يا أبتاه إلى جبرئيل ننعاه، يا أبتاه جنّة الفردوس مأواه.(11)
وهذه هي - سلام اللّه عليها - وقفت على قبر أبيها الطاهر، وأخذت قبضة من تراب القبر فوضعتها على عينها وبكت وأنشأت تقول:
ماذا على مَن شمَّ تربة أحمد * ن لا يشمَّ مدى الزمان غواليا
صُبّت عليَّ مصائبٌ لو أنّها * صُبّت على الأيّام صِرن لياليا
وهذا أبو بكر بن أبي قحافة يبكي على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ويرثيه بقوله:
يا عين فابكي ولا تسأمي * وحُقَّ البكاء على السيّد
وهذا حسّان بن ثابت يبكيه(صلى الله عليه وآله وسلم) ويقول:
ظللت بها أبكي الرسول فأسعدت * عيونٌ ومثلاها من الجفن أسعد
ويقول:
يُبكّون من تبكي السّماوات يومه * ومن قد بكته الأرض فالناس أكمد
ويقول:
يا عين جودي بدمع منك إسبال * ولا تملنَّ من سحّ وإعوال
وهذه "أروى" بنت عبد المطّلب تبكي عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) وترثيه بقولها:
ألا يا عين! ويحكِ أسعديني * بدمعك ما بقيت وطاوعيني
ألا يا عين! ويحك واستهلّي * على نور البلاد واسعديني
وهذه عاتكة بنت عبد المطّلب ترثيه وتقول:
عينيَّ جودا طوال الدّهر وانهمِرا * سكبًا وسحًّا بدمع غير تعذير
يا عين فاسحنفري بالدَّمع واحتفلي * حتّى الممات بسجل غير منذور
يا عين فانهملي بالدّمع واجتهدي * للمصطفى دون خلق الله بالنور
وهذه صفيّة بنت عبد المطّلب تبكي عليه وترثيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقول:
أفاطمُ بكّي ولا تسأمي * بصحبك ما طلع الكوكبُ
هو المرء يُبكى وحقّ البكاء * هو الماجد السيّد الطيِّب
وتقول:
أعينيّ! جودا بدمع سجْم * يبادر غربًا بما منُهدمْ
أعينيّ! فاسحنفرا وأسكبا * بوجدٍ وحزنٍ شديد الألمْ
وهذه هند بنت الحارث بن عبد المطّلب تبكي عليه وترثيه وتقول:
يا عين جودي بدمع منك وابتدري * كما تنزّل ماء الغيث فانثعبا
وهذه هند بنت أثاثة ترثيه وتقول:
ألا يا عين! بكّي لا تملّي * فقد بكر النعيُّ بمن هويتُ
وهذه عاتكة بنت زيد ترثيه وتقول:
وأمست مراكبه أوحشت * وقد كان يركبها زينها
وأمست تُبكّي على سيِّد * تردَّد عبرتها عينها
وهذه أُمّ أيمن ترثيه(صلى الله عليه وآله وسلم) وتقول:
عين جودي فإنّ بذلك للدمـ * ـع شفاء فاكثري من بكاء
بدموع غزيرة منك حتّى * يقضي الله فيك خير القضاء
وهذه عمّة جابر بن عبد اللّه جاءت يوم أُحُد تبكي على أخيها عبد اللّه بن عمر، وقال جابر: فجعلتُ أبكي وجعل القوم ينهوني ورسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) لا ينهاني، فقال رسول اللّه (ص): أبكوه ولا تبكوه فواللّه ما زالت الملائكة تظلّله بأجنحتها حتى دفنتموه.(12)
نعم روي عن عمر بن الخطّاب وعبد اللّه بن عمر أنّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "إنّ الميّت يعذَّب ببكاء أهله".(13)
أقول: إنّ ظاهر هذا الحديث يخالف فعل الخليفة في مواطن كثيرة أثبتها التاريخ.
منها: أنّه بكى على النعمان بن مقرن المزني لَمّا جاءه نعيه فخرج ونعاه إلى الناس على المنبر ووضع يده على رأسه يبكي.(14)
ومنها:بكاؤه على خالد بن الوليد عند ما مات وامتنعت النساء من البكاء عليه، فلما انتهى ذلك إلى عمر، قال: و ما على نساء بني المغيرة أن يرقن من دمعهنّ على أبي سليمان ما لم يكن لغوًا ولا لقلقة.(15)
ومنها: بكاؤه على أخيه زيد بن الخطّاب، وكان صحبه رجل من بني عدي بن كعب فرجع إلى المدينة فلمّا رآه عمر دمعت عيناه، وقال: وخلّفت زيدًا قاضيًا وأتيتني.(16)
فالبكاء المتكرّر من الخليفة يهدينا إلى أنّ المراد من الحديث - لو صحّ سنده - معنى آخر، كيف وأنّ ظاهر الحديث لو قلنا به فإنّه يخالف الذكر الحكيم، أعني قوله سبحانه: (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى).(17) ب فأيّ معنى لتعذيب الميّت ببكاء غيره عليه!!
فقه الحديث
كلّ هذه النقول توقِفنا على أنّ المراد من الحديث "إنّ الميّت يعذَّب..." - إن صحّ سنده - غير ما يفهم من ظاهره، وقد كان محتفًّا بقرائن سقطت عند النقل، ولأجل ذلك توهّم البعض حرمة البكاء على الميّت استنادًا إلى هذا الحديث، غافلاً عن مرمى الحديث ومغزاه.
أخرج مسلم في صحيحه، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: ذُكر عند عائشة قول ابن عمر: الميت يعذب ببكاء أهله عليه، فقالت: رحم اللّه أبا عبد الرحمن، سمع شيئًا فلم يحفظه إنّما مرّت على رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) جنازة يهودي، وهم يبكون عليه، فقال: أنتم تبكون وانّه ليعذب.(18)
وأخرج أبو داود في سننه عن عروة عن عبد اللّه بن عمر قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّ الميّت ليعذَّب ببكاء أهله عليه، فذكر ذلك لعائشة فقالت - وهي تعني ابن عمر -: إنّما مرّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على قبر يهودي فقال: إنّ صاحب هذا ليُعذَّب وأهله يبكون عليه. ثمّ قرأت ﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾.(19)
قال الشافعي: ما روت عائشة عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أشبه أن يكون محفوظًا عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) بدلالة الكتاب والسنّة، فإن قيل: فأين دلالة الكتاب؟ قيل: في قوله عزّوجلّ: ﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى...﴾و﴿وَأنْ لَيْسَ لِلإنْسانِ إلاّ ما سَعى﴾ (20) ي وقوله: ﴿فَمَنْ يعْمَل مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيرًا يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَل مِثقالَ ذَرَّةٍ شَرًَّا يَرَهُ﴾ (21) وقوله:﴿...لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى﴾(22) فإن قيل: أين دلالة السنّة؟ قيل: قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) لرجل: ابنك هذا؟ قال: نعم، قال: أما أنّه لا يجني عليك ولا تجني عليه.
فأعلم رسول اللّه مثلما أعلم اللّه من أنّ جناية كلّ امرىَ عليه، كما أنّعمله لا لغيره ولا عليه".(23)
وأخرج مسلم عن ابن عباس:قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): انّ الميت يعذّب ببكاء أهله عليه، فقال ابن عباس: فلمّا مات عمر ذكرت ذلك لعائشة، فقالت: يرحم اللّه عمر، لا واللّه ما حدّث رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) انّ اللّه يعذّب المؤمن ببكاء أحد ولكن قال: انّ اللّه يزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه، قال: وقالت عائشة: حسبكم القرآن:﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾.(24)
وما أخرجه مسلم عن هشام بن عروة هو الحقّ دون ما أخرجه عن ابن عباس لأنّ تعذيب الكافر ببكاء أهله عليه أيضاد يضاد الذكر الحكيم.
1- الروم|30.
2- سنن أبي داود:1|58؛ سنن ابن ماجة:1|482.
3- السيرة الحلبية:3|348.
4- مجمع الزوائد للهيثمي:3|8.
5- امتاع المقريزي: ص 154.
6- مجمع الزوائد:6|120.
7- صحيح البخاري: كتاب المناقب في علامات النبوّة في الإسلام؛ سنن البيهقي:4|70.
8- سنن البيهقي: 4|70؛ تاريخ الخطيب البغدادي: 7|289.
9- سنن أبي داود:2|63؛ سنن ابن ماجة:1|445.
10- سنن أبي داود:2|58؛ سنن ابن ماجة:1|481.
11- صحيح البخاري، باب مرض النبي ووفاته؛ مسند أبي داود: 2|197؛ سنن النسائي: 4|13؛ مستدرك الحاكم:3|163؛ تاريخ الخطيب:6|262.
12- الغدير:6|164ـ167.
13- صحيح مسلم:3|41 - 44، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه من كتاب الصلاة.
14- العقد الفريد لابن عبد ربّه الأندلسي:3|235.
15- العقد الفريد:3|235.
16- المصدر نفسه.
17- فاطر|18.
18- صحيح مسلم:3|44، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه من كتاب الصلاة.
19- سنن أبي داود:3|194، برقم 3129.
20- النجم|39.
21- الزلزلة|7ـ 8.
22- طه.|15.
23- اختلاف الحديث بهامش كتاب الأمّ للشافعي:7|267.
24- صحيح مسلم:3|43، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه من كتاب الصلاة.