البدعة والاحتفال بميلاد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

البدعة في اللغة بمعنى الانشاء والابداع، وأمّا في مصطلح الفقهاء هو إدخال ما ليس من الدين في الدين، وعدُّ ما ليس من الدين منه، وقد أطبق المسلمون على تحريمه لإطباق الأدلة عليه وإلى المعنى المصطلح يشير صاحب القاموس، ويقول: البدعة: الحدث في الدين بعد الإكمال أو ما استحدث في الدين بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأهواء.

فالمعنى الجامع للبدعة هو الافتراء على اللّه ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)،ونشر الافتراء بعنوان انّه من الدين، قال سبحانه: ﴿ءآللّهُ أذِنَ لَكُمْ أمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ﴾ (1) فالآية تدل على أنّ كلّ ما ينسب إلى اللّه سبحانه بلا إذن منه فهو أمر محرم، ومن أدخل في الدين ما ليس من الدين أو لا يعلم انّه منه، فقد افترى على اللّه.

وقد عُدَّ المفتري على اللّه من أظلم الناس، قال سبحانه: ﴿وَمَنْ أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إنَّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ﴾.(2)

هذا، ودلت السنة أيضًا على حرمة البدعة، قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): أمّا بعد، فانّ أصدق الحديث كتاب اللّه، وأفضل الهدى هدى محمّد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة في النار.

وقد أوضحه ابن حجر العسقلاني بقوله: المحدثات جمع محدثة، والمراد بها ما أحدث وليس له أصل في الشرع، ويسمى في عرف الشرع بدعة، وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة، فالبدعة في عرف الشرع مذمومة.(3)

والروايات في تحريم البدعة كثيرة اكتفينا بما سبق، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى المصدر المذكور في الهامش.(4)

فإذا كانت البدعة هي الافتراء على اللّه ورسوله والتلاعب بدينه، وادخال ما ليس من الدين، أو ما لم يُعلم انّه من الدين في الدين، فعلى الباحث المتضلِّع تمييز ما ليس ببدعة عن البدعة وان اشتركا في إطلاق تسمية "البدعة " عليهما، وإليك أقسامها:

الأوّل: أن يقوم به الإنسان بما انّه من الدين، وهو إمّا ليس من الدين قطعًا أو يشك انّه من الدين و مع ذلك يدخله فيه وينشره بين الأمّة.

وعلى هذا فلو قام أحد بعمل بديع ليس له مثيل، ولكن من دون أن ينسبه إلى الدين فهو ليس ببدعة، كالصنائع الجديدة، والألعاب الرياضية، التي ابتدعها الإنسان لتوفير الراحة لنفسه إلى غير ذلك من الفوائد المترتبة عليها.

فهذه الصنائع والألعاب لم تكن في عصر الرسول ولا الصحابة ولا التابعين ولكن الإنسان أبدعها وانشأها دون أن يعزوها إلى الدين، فإذًا لا تكون بدعة.

نعم مجرد انّها ليست بدعة لا يكون دليلاً على حلّيتها بل يستنبط حكمها من جهة الحلية والحرمة من الكتاب والسنة والإجماع والعقل.

فالصنائع والألعاب الرياضية من المحدثات ولكنّهما حلالان شرعًا لعدم انطباق عنوان محرم عليهما، بخلاف بعض المحدثات كاختلاط النساء والرجال في الحفلات، فهو أمر محدث مُحرّم، لانطباق عنوان محرم عليه وهو اختلاط الرجال بالنساء السافرات.

الثاني: ما يبدعه الإنسان وينشئه وليس له نظير في السابق، ولكن يأتي به باسم الدين وله أصل كلي في الشريعة وإن لم ترد الخصوصية فيها. فهذا ما يسمّى بدعة لغة ولا يكون بدعة شرعًا.

أمّا كونه بدعة لغة فلكونه أمرًا جديدًا وإنشاءً حديثًا في الدين، وامّا انّه ليس ببدعة شرعًا، لوجود أصل كلّي له فيها مسوغ له، وإليك الأمثلة التالية:

أ. انّ الدفاع عن بيضة الإسلام وصيانة حدوده من الأعداء أصل ثابت في القرآن الكريم، قال سبحانه: ﴿وَأعِدُّوا لَهُمْ مَا استَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ (5) وهذا هو الأصل الثابت في الإسلام، وأمّا كيفية الدفاع فلم يرد فيها دليل خاص، بل أوكله الشارع إلى مقتضيات الزمان فالتزوّد بالأسلحة الحديثة كالسفن الحربية والطائرات المقاتلة إلى غير ذلك من وسائل الدفاع ليس بدعة، بل تجسيد للأصل الثابت في الشرع أعني: ﴿وَأعِدُّوا لَهُمْ مَا استَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾، فهذا النوع من التسليح ورد في الشرع أصله وإن لم يرد بخصوصياته.

ب. حثّ الإسلام على الإحسان إلى اليتامى والمساكين والرأفة بهم والعطف عليهم وحفظ أموالهم بيد انّ هذا الأمر الكلي الذي جاء في الشرع له أساليب مختلفة تُجاري مقتضيات كلّعصر ومصر وإمكانياتهم المتاحة، فاللازم امتثال ما ندب إليه الشرع، أعني: الأصل الكلي، وأمّا تبيين كيفيته فمتروك إلى المستجدات الزمانية.

ج. ندب الشرع المقدس إلى التربية والتعليم ومكافحة الأميّة ولا شكّ انّ لهذا الأمر الكلي أشكالاً وألوانًا مختلفة تتبدل حسب تبدل الظروف حيث كانت التربية والتعليم في العصور السابقة تتحقق من خلال الكتابة بالقصب والدواة، وجلوس المتعلم للاستماع إلى معلّمه، إلاّ انّ ذلك تطور اليوم إلى أساليب جديدة تستخدم فيها الأجهزة المتطورة كالإذاعة والتلفزة والكومبيوتر والأشرطة إلى غيرها من وسائل التعليم الحديثة.

إنّ الشارع المقدس لا يخالف هذا التطور ولا يمنع من استخدام الأجهزة والأساليب الحديثة، وإنّما أمر بالتعليم والتعلم، وترك اتخاذ الأساليب إلى الظروف والمقتضيات.

ولو كان أصرّ على اتخاذ كيفية خاصة، لفشل في هدفه المقدس ولفقد مبرّرات خلوده واستمراره، لأنّ الظروف ربما لا تناسب الأداة الخاصة التي يقترحها والكيفية الخاصة التي يحددها.

3. ما إذا قام به إنسان باسم الدين وكان أمرًا حديثًا ليس له مثيل في السابق ولم يكن له أصل كلي يعضده ويسوغه ويضفي عليه الشرعية.

فهذه هي البدعة المصطلحة المحرمة على الإطلاق، فمن حاول تغيير الأذان والإقامة بتنقيص أو زيادة أو زاد في الصلاة أو نقص منها ونسب كلّ ذلك إلى الشرع فهو بدعة محرمة.

وبالجملة من أراد التدخل في الشريعة الإسلامية في عباداتها ومعاملاتها وسياساتها بأن ينسب إليها ما ليس منها أو لم يعلم انّه منها فقد أبدع وافتَرى على اللّه الكذب.

الاحتفال بمواليد الأنبياء والأئمّة والصالحين

وممّا ذكرنا يعلم حكم الاحتفال بمواليد الأنبياء والأئمّة والصالحين الذين لهج الكتاب والسنة بمدحهم، فانّ الاحتفال على النحو الرائج لم يرد في الشرع بخصوصه ولكن ورد الأصل الكلي الذي يسوِّغ هذا الاحتفال ويضفي عليه الشرعية.

فقد أمر الكتاب والسنة بحب النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" ووده أوّلاً و تكريمه وتوقيره ثانيًا، وحثّ عليهما في الشريعة قال سبحانه: ﴿قُلْ إنْ كانَ آباوَُكُمْ وَأبْناوَُكُمْ وَإخْوانُكُمْ وَأزْواجُكُمْ وَعَشيرَتُكُمْ وَأموالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَونَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ في سَبيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأمْرِهِ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَومَ الْفاسِقينَ﴾.(6)

1.وقال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين.(7)

2. قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ الناس إليه من والده وولده.(8)

3. قال رسول اللّه ص: ثلاث من كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان وطعمه: أن يكون اللّه ورسوله أحبَّ إليه ممّا سواهما وأن يحب في اللّه، ويبغض في اللّه، وأن توقد نار عظيمة فيقع فيها أحبّ إليه من أن يشرك باللّه شيئًا.(9)

وعلى ضوء ذلك فإقامة الاحتفالات والمهرجانات في مواليدهم والقاء الخطب والقصائد في مدحهم وذكر منزلتهم في الكتاب والسنة تجسيد للحبِّ الذي أمر اللّه ورسوله به، شريطة أن لا تقترن تلك الاحتفالات بالحرام، ومن دعا إلى الاحتفال بمولد النبي (ص) في أيّ قرن من القرون فقد انطلق من هذا المبدأ أي حبّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي أمر به القرآن والسنة.

هذا هو مؤلف "تاريخ الخميس" يقول في هذا الصدد: لا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده ويعملون الولائم ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويُظهرون السرور ويزيدون في المبرّات ويعتنون بقراءة مولده الشريف ويظهر عليهم من كراماته كلّ فضل عظيم.(10)

وقال القسطلاني: ولا زال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده ص يعملون الولائم، ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور، ويزيدون المبرات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كلّ فضل عميم... فرحم اللّه امرءٍ اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعيادًا ليكون أشد علّة على من في قلبه مرض وأعياه داء.(11)


1- يونس|59.

2- الأنعام|21.

3- فتح الباري في شرح صحيح البخاري:13|253.

4- جامع الأصول لابن الأثير:9|566.

5- الأنفال|60.

6- التوبة|24.

7- جامع الأصول: 1|237 ـ238 برقم 20 و21 و22.

8- جامع الأصول: 1|237 ـ238 برقم 20 و21 و22.

9- جامع الأصول: 1|237 ـ238 برقم 20 و21 و22.

10- تاريخ الخميس:1|323 للديار بكري.

11- المواهب اللدنية:1|27.