هـ.طلب الشفاعة

اتّفقت الأمّة الإسلامية على انّ الشفاعة أصل من أُصول الإسلام نطق به الكتاب والسنّة النبوية، وأحاديث العترة الطاهرة، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين وإن اختلفوا في بعض خصوصياتها.

وأجمع العلماء على أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أحد الشفعاء يوم القيامة، إلاّ أنّ الكلام في المقام في طلب الشفاعة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهل يجوز أن نقول: يا رسول اللّه اشفع لنا عند اللّه، كما يجوز أن نقول: اللّهمّ شفّع نبيّنا محمّدًا (صلى الله عليه وآله وسلم) فينا يوم القيامة، أو لا يجوز؟ تظهر حقيقة الحال من خلال الوجوه التالية:

الوجه الأوّل: انّ حقيقة الشفاعة ليست إلاّ دعاء النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" أو الولي (عليه السلام) في حقّ المذنب وإذا كانت هذه حقيقتَها فلا مانع من طلبها من الصالحين، لأنّ غاية هذا الطلب هو طلب الدعاء، فلو قال القائل: "يا وجيهًا عند اللّه اشفع لنا عند اللّه" يكون معناه ادع لنا عند ربّك فهل يرتاب في جواز ذلك مسلم؟

والدليل على أنّ الشفاعة هو طلب الدعاء، ما أخرجه مسلم، عن عبد اللّهبن عباس، انّه قال: سمعت رسول اللّه يقول: ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون باللّه شيئًا إلاّ شفّعهم اللّه فيه.(1) ي قُبل شفاعتهم فيه وليست شفاعتهم إلاّ دعاوَهم له بالغفران.

وعلى هذا فلا وجه لمنع الاستشفاع بالصالحين إذا كان مآله إلى طلب الدعاء.

الوجه الثاني: انّ سيرة المسلمين تكشف عن جواز طلب الشفاعة في عصر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وبعده.

أخرج الترمذي في سننه عن أنس قال: سألت النبي"صلى الله عليه وآله وسلم" أن يشفع لي يوم القيامة، فقال: أنا فاعل، قال: قلت يا رسول اللّه فأين أطلبك؟ فقال: اطلبني أوّل ما تطلبني على الصراط.(2)

نقل ابن هشام في سيرته: انّه لما توفّي رسول اللّه"صلى الله عليه وآله وسلم" كشف أبو بكر عن وجهه و قبله، وقال: بأبي أنت و أُمّي أما الموتة التي كتب اللّه عليك فقد ذقتها، ثمّ لن تصيبك بعدها موتة أبدًا.(3)

وقال الرضي في نهج البلاغة: لما فرغ أمير الموَمنين (عليه السلام) من تغسيل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال كلامًا و في آخره: بأبي أنت و أُمّي طبت حيًا وطبت ميتًا أذكرنا عند ربّك.(4)

انّ كلام الإمام يدلّ على عدم الفرق في طلب الشفاعة من الشفيع في حين حياته وبعد وفاته، وقد كان الصحابة يطلبون الدعاء من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد وفاته.

وتصور انّ طلب الشفاعة من الشفيع الواقعي شرك تصور خاطئ، فانّ المراد من الشرك في المقام هو الشرك في العبادة، وقد علمت انّ مقومه هو الاعتقاد بأُلوهية المدعوّ أو ربوبيته أو كون مصير العبد بيده، وليس في المقام من ذلك شيء.

إنّ طالب الشفاعة من الشفعاء الصالحين - الذين أذن اللّه لهم بالشفاعة - إنّما يعتبرهم عبادًا للّه مقربين لديه، وجهاء فيطلب منهم الدعاء، وليس طلب الدعاء من الميت عبادة له، وإلاّ لزم كون طلبه من الحي عبادة لوحدة واقعية العمل.

وقياس طلب الشفاعة من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بطلب الوثنيين الشفاعةَ من الأصنام قياس مع الفارق، لأنّ المشركين كانوا على اعتقاد بأُلوهية معبوداتهم وربوبيتها، و أين هذا من طلب الموحد الذي لا يراه إلهًا ولا ربًّا ولا من بيده مصير حياته؟! وإنّما تعتبر الأعمال بالنيات لا بالصور والظواهر.


1- صحيح مسلم:3|53، باب من صلّى عليه أربعون شفعوا فيه من كتاب الجنائز.

2- سنن الترمذي:4|621، كتاب صفة القيامة.

3- السيرة النبوية: 2|656، ط عام 1375هـ و هو يدل على وجود الصلة بين الاحياء والأموات وقد جئنا به لتلك الغاية.

4- نهج البلاغة: رقم الخطبة 23.