السنة الشريفة والصلة بين الحياتين
ثمة روايات متضافرة بل متواترة تدل على وجود الصلة بين الحياتين، وجمع هذه الروايات بحاجة إلى تأليف كتاب مفرد.
ونكتفي هنا بالحديث المتفق عليه بين المسلمين وهو تكليم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أهل القليب.
لقد انتهت معركة بدر بانتصار المسلمين وهزيمة المشركين قتل منهم قرابة سبعين من صناديدهم وساداتهم وطرحت جُثث قتلاهم في القليب، فوقف النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يخاطبهم واحدًا تلو الآخر، ويقول: يا أهل القليب، يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، يا أُمية بن خلف، يا أباجهل، و هكذا عدَّ من كان منهم بالقليب، وقال: هل وجدتم ما وعد ربّكم حقًّا فانّي قد وجدت ما وعدني ربّي حقًّا؟!
فقال له أصحابه: يا رسول اللّه أتنادي قومًا موتى؟!
فقال (عليه السلام): ما أنتم بأسمعَ لما أقول منهم، ولكنّهم لا يستطيعون أن يجيبوني.
يقول ابن هشام بعد هذا النقل: إنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يا أهل القليب بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم كذَّبتموني وصدَّقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس.
ثمّ قال: هل وجدتم ما وعدكم ربّي حقًّا؟!.(1)
أخرج البخاري: عن نافع انّ ابن عمر أخبره، قال: اطّلع النبي (عليه السلام) على أهل القليب، فقال: وجدتم ما وعد ربّكم حقًّا؟!
فقيل له: ندعوا أمواتًا، فقال: ما أنتم بأسمع منهم، ولكن لا يجيبون.(2)
وأخيرًا نقول: إنّ جميع المسلمين - على الرغم من الخلافات المذهبية بينهم في فروع الدين - يسلمون على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الصلاة عند ختامها ويقولون: "السّلام عليك أيُّها النَّبيّ ورَحمة اللّه وبركاته".
وقد أفتى الإمام الشافعي وآخرون بوجوب هذا السلام بعد التشهد، وأفتى الآخرون باستحبابه، لكن الجميع متفقون على أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) علمهم السلام وانّ سنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثابتة في حياته وبعد وفاته.(3)
فلو انقطعت صلتنا بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بوفاته، فما معنى مخاطبته والسلام عليه يوميًا؟!
سؤال وجواب
لو كانت الصلة بيننا وبين من فارقوا الحياة موجودة فما معنى قوله سبحانه: ﴿فَإنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوتى(4)﴾ وقوله سبحانه: ﴿وَما أنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُور﴾.(5)
والجواب: بملاحظة الآيات السابقة هو انّ المراد من الإسماع، الإسماع المفيد، ومن المعلوم انّسماع الموتى أو من في القبور لا يجدي نفعًا بعدما ماتوا كافرين، وإلاّ فهذا هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، يقول: "الميت يسمع قرع النعال" في حديث أخرجه البخاري عن أنس بن مالك عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إنّ العبد إذا وضع في قبره وتولّى عنه أصحابه حتى أنّه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيُقعدانه فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول: أشهد انّه عبد اللّه ورسوله إلى آخر ما نقل.(6)
وقد مرّ انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يزور القبور، و يخرج آخر الليل إلى البقيع، فيقول: السّلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون، غدًا مأجلون وانّا إن شاء اللّه بكم لاحقون، اللّهمّ اغفر لأهل بقيع الغرقد.(7)
اتّفق المسلمون على تعذيب الميت في القبر، أخرج البخاري عن ابنة خالد بن سعيد بن العاص انّها سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يتعوذ من عذاب القبر، وأخرج عن أبي هريرة كان رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) يدعو: اللّهمّ إنّي أعوذ بك من عذاب القبر و من عذاب النار.(8)
كلّ ذلك يدل على أنّ المراد من نفي الاسماع هو الاسماع المفيد. تحقيقًا لقوله سبحانه: ﴿حَتّى إذا جاءَ أحَدَهُمُ الْمَوتُ قالَ رَبِّ ارجِعُونِ* لَعَلّي أعْمَلُ صالِحًا فِيما تَرَكْتُ كَلاّ إنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَومِ يُبْعَثُون﴾(9) حيث إنّ الآية صريحة في ردّ دعوة الكفّار حيث طلبوا من اللّه سبحانه أن ُيُرجعهم إلى الدنيا حتى يعملوا صالحًا، فيأتيهم النداء "بكلا" فيكون تمنيهم بلا جدوى ولا فائدة كما انّ سماع الموتى كذلك، لا انّهم لا يسمعون أبدًا، إذ هو مخالف لما مرّ من صريح الآيات والروايات.
1- السيرة النبوية :1|649؛ السيرة الحلبية:2|179و180.
2- صحيح البخاري: 9|98، باب ما جاء في عذاب القبر من كتاب الجنائز.
3- تذكرة الفقهاء:3|333، المسألة 294؛ الخلاف:1|47.
4- الروم|52.
5- فاطر|22.
6- البخاري:الصحيح: 2|90، باب الميت يسمع خفق النعال.
7- صحيح مسلم:3|63، باب ما يقال عند دخول القبور من كتاب الجنائز.
8- البخاري:الصحيح: 2|99، باب التعوذ من عذاب القبر من كتاب الصلاة.
9- الموَمنون|99ـ 100.