التوسّل بالأنبياء و الصالحين
إنّ عالم الكون عالم فسيح لا يحيط الإنسان بأسراره ودقائقه، وما اكتشفه الإنسان منها فإنّما هو ضئيل بالنسبة إلى ما خفي عليه.
كيف وما أُوتي من العلم إلاّ قليلاً، قال سبحانه: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أمْرِ رَبّي وَما أُوتيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إلاّ قَليلاً).(1)
هذا هو العالم الفيزيائي الذائع الصيت أنشتاين(المتوفّى عام 1955م) قال: إنّ نسبة ما أعلم إلى ما لا أعلم كنسبة هذا الدرج إلى مكتبتي.(2)
ولو أنصف لكان عليه أن يقول حتى أقل من هذه النسبة، وكان الأولى أن يقول نسبة هذا الدرج إلى أطباق السماء.
وعلى ضوء ذلك فللّه سبحانه في هذا العالم أسباب و علل لم يصل إليها البشر مع ما بذل من الجهود.
ثمّ إنّ الأسباب تنقسم إلى طبيعية ومادية وإلى غيبية وإلهية، أمّا الأوّل فالنظام الكائن مبني على العلل والأسباب الطبيعية وتأثير كلّ سبب طبيعي ومادي بإذن اللّه سبحانه، وليس للعلم دور سوى الكشف عن هذه الأسباب المادية.
غير انّ المادي ينظر إلى هذه الأسباب بنظرة استقلالية ولكن الإلهي ينظر إليها نظرة تبعية قائمة باللّه سبحانه، مؤثرة بإذنه، وهذا هو ذو القرنين يتمسك بالأسباب الطبيعية في إيجاد السد أمام يأجوج ومأجوج ويستعين بالأسباب ولا يراها مخالفًا للتوحيد.
قال سبحانه حاكيًا عنه: ﴿آتُوني زُبَرَ الْحَديد حَتّى إذا سَاوى بَيْنَ الصَّدَفَيْن قالَ انْفُخُوا حَتّى إذا جَعَلَهُ نارًا قالَ آتُوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا* فَما اسْطاعُوا أنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْبًا* قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإذا جاءَ وَعْدُ رَبّي جَعَلَهُ دَكّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبّي حَقًّا﴾.(3)
إنّ الاستعانة بالأحياء والاستغاثة بهم أمر جرت عليه سيرة العقلاء، وهذا موسى الكليم استغاثه بعض شيعته فأجابه دون أن يخطر ببال أحد انّ الاستغاثة لا تجوز إلاّ باللّه، قال سبحانه: ﴿وَدَخَلَ المَدينةَ عَلى حينِ غَفْلَةٍ مِنْ أهْلِها فَوَجَدَ فيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاستَغاثَهُ الَّذي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقضى عَلَيْهِ﴾.(4)
وما هذا إلاّ لأنّ موسى وشيعته تعتقد بأنّ المغيث إنّما يغيث بقوة وإذن منه سبحانه، فلا مانع من طلب النجدة والاستغاثة والاستعانة من الأحياء شريطة القيد المذكور، وقد أُشير إليه في قوله سبحانه: ﴿وَمَا النَّصْرُ إلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ الْعَزيزِ الحَكيم﴾.(5)
كلّ ما ذكرنا كان يعود إلى التوسل بالأحياء والأسباب الطبيعية، وهذا ليس مورد بحث و نقاش.
إنّما الكلام في التوسل بالأنبياء والأولياء لا على الطريق المألوف وله أقسام:
أ. التوسل بدعاء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو الصالحين في حال حياتهم.
ب. التوسل بذات النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قدسيته وشخصيته.
ج. التوسل بحقّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأنبياء والصالحين.
د. التوسل بدعاء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والصالحين بعد رحيلهم.
هـ. طلب الشفاعة من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأولياء.
وإليك دراسة كلّ واحد منها:
أ. التوسل بدعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الصالحينفي حال حياته
اتّفق المسلمون على جواز التوسل بدعاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في حال حياته، بل يستحب التوسل بدعاء المؤمن كذلك، قال سبحانه: ﴿ولَوْ أنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ فَاسْتَغْفروا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّابًا رَحيمًا﴾.(6)
تجد انّه سبحانه يدعو الظالمين إلى المجيء إلى مجلس الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كي يستغفر لهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وفي آية أُخرى يندد بالمنافقين بأنّهم إذا دعوا إلى المجيء إلى مجلس الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وطلب المغفرة منه تنكروا ذلك واعترضوا عليه بليِّ الرأس، قال سبحانه: ﴿وَإذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِر لَكُمْ رَسُولُ اللّهِ لَوَّوْا رُؤوسَهُمْ وَرَأيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ﴾.(7)
وتاريخ الإسلام حافل بنماذج عديدة من هذا النوع من التوسل.
ب. التوسل بذات النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) و قدسيته وشخصيته
وها هنا وثيقة تاريخية ننقلها بنصها تعرب عن توسل الصحابة بدعاء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في حال حياته أوّلاً، وبقدسيته وشخصيته ثانيًا، والمقصود من نقلها هو الاستدلال على الأمر الثاني.
روى عثمان بن حنيف انّه قال: إنّ رجلاً ضريرًا أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ادع اللّه أن يعافيني؟
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت وهو خير؟
قال: فادعه، فأمره(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: "اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة،يا محمد إنّي أتوجه بك إلى ربّي في حاجتي لتقضى، اللّهمّ شفّعه في".
قال ابن حنيف: فواللّه ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتّى دخل علينا كأن لم يكن به ضرّ.
وهذه الرواية من أصح الروايات، قال الترمذي: هذا حديث حق، حسن صحيح.(8)
وقال ابن ماجة: هذا حديث صحيح.(9)
ويستفاد من الحديث أمران:
الأوّل: أن يتوسل الإنسان بدعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويدل على ذلك قول الضرير: ادعوا اللّه أن يعافيني،وجواب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): إن شئتَ دعوتُ، وإن شئت صبرت وهو خير.
الثاني: انّه يجوز للإنسان الداعي أن يتوسل بذات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ضمن دعائه وهذا يستفاد من الدعاء الذي علّمه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) للضرير، والإمعان فيه يثبت هذا المعنى، وانّه يجوز لكلّ مسلم في مقام الدعاء أن يتوسل بذات النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ويتوجه به إلى اللّه.
وإليك الجمل التي تدل على هذا النوع من التوسل:
1. اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيّك
انّ كلمه "بنبيّك" متعلّق بفعلين "أسألك" و"أتوجه إليك" والمراد من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه القدسية وشخصيته الكريمة لا دعاءه.
2. محمد نبي الرحمة
نجد انّه يذكر اسم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ثمّ يصفه بنبي الرحمة معربًا عن أنّ التوسل بذات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما لها من الكرامة والفضيلة.
3. يا محمّد إنّي أتوجه بك إلى ربّي
إنّ جملة: "يا محمّد إنّي أتوجه بك إلى ربّي" تدل على أنّ الضرير حسب تعليم الرسول، اتخذ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه وسيلة لدعائه وتوسل بذاته بما لها من المقام والفضيلة.
وهذا الحديث يرشدنا إلى أمرين:
الأوّل: جواز التوسل بدعاء الرسول.
الثاني: جواز التوسل إلى اللّه بذات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما لها من الكرامة والمنزلة عند اللّه تبارك و تعالى.
أمّا الأوّل، فقد جاء في محاورة الضرير مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكان الموضوع هو دعاء الرسول، أي طلب الضرير الدعاء منه (صلى الله عليه وآله وسلم).
وأمّا الثاني، فيستفاد من الدعاء الذي علّمه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للضرير، فانّه يضمن التوسل بشخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
نعم لم يكن يدور في خلد الضرير سوى التوسل بدعائه ولكن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) علمه دعاء جاء فيه التوسل بذات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في نوعه توسل ثان، وبذلك وقفنا على أنّه يستحب للمسلم أن يتوسل بدعاء الصالحين من الأنبياء والأولياء كما يجوز له في دعائه التوسل بذواتهم ومقامهم ومنزلتهم.
ويظهر من الأحاديث الشريفة انّ أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا يتوسلون بذات النبي"صلى الله عليه وآله وسلم" في مقام الابتهال والدعاء حتى بعد رحيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
أخرج الطبراني، عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف، عن عمّه عثمان بن حنيف: انّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقى ابن حنيف فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان بن حنيف: ائتِ الميضاة فتوضأ، ثم ائتِ المسجد فصلِ فيه ركعتين، ثمّ قل: "اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيّنا محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) نبي الرحمة، يا محمد إنّي أتوجه بك إلى ربّي فتقضى لي حاجتي" فتذكر حاجتك ورح حتى أروح معك.
فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثمّ أتى باب عثمان بن عفان، فجاء البواب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان، فأجلسه معه على الطنفسة، فقال: حاجتك؟ فذكر حاجته وقضاها له، ثمّ قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كان الساعة. وقال: ما كانت لك من حاجة فاذكرها.
ثمّ إنّ الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف، فقال له: جزاك اللّه خيرًا ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليَّ حتّى كلّمته فيّ، فقال عثمان بن حنيف: واللّه ما كلّمته، ولكني شهدت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): فتصبر؟ فقال: يا رسول اللّه ليس لي قائد فقد شقّ عليَّ.
فقال النبي (ص): إئت الميضاة فتوضأ، ثمّ صلّ ركعتين، ثمّ ادع بهذه الدعوات.
قال ابن حنيف: فواللّه ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنّه لم يكن به ضّر قط.(10)
إنّ سيرة المسلمين في حياة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وبعدها، استقرت على أنّهم كانوا يتوسلون بأولياء اللّه والصالحين من عباده، دون أن يدور في خلد أحد منهم بأنّه أمر حرام أو شرك أو بدعة، بل كانوا يرون التوسل بدعاء الصالحين طريقًا إلى التوسل بمنزلتهم، وشخصيتهم، فانّه لو كان لدعاء الرجل الصالح أثر، فإنّما هو لأجل قداسة نفسه وطهارتها، ولولاهما لما استجيبت دعوته، فما معنى الفرق بين التوسل بدعاء الصالح وبين التوسل بشخصه وذاته، حتى يكون الأوّل نفس التوحيد و الآخر عين الشرك أو ذريعة إليه.
إنّ التوسل بقدسية الصالحين، والمعصومين من الذنب، والمخلصين من عباد اللّه لم يكن قط أمرًا جديدًا بين الصحابة بل كان ذلك امتدادًا للسيرة الموجودة قبل الإسلام، فقد تضافرت الروايات التاريخية على ذلك وإليك البيان:
1. استسقاء عبد المطلب بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو رضيع:
لقد استسقى عبد المطلب بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو طفل صغير، حتى قال ابن حجر: إنّ أبا طالب يشير بقوله:
وابيض يستقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل
إلى ما وقع في زمن عبد المطلب حيث استسقى لقريش والنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) معه غلام.(11)
2. استسقاء أبي طالب بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم):
أخرج ابن عساكر عن ابن عرفلة، قال: قدمت مكة وقريش في قحط.... فقالت قريش: يا أبا طالب أقحط الوادي وأجدب العيال، فهلم فاستسق، فخرج أبو طالب ومعه غلام - يعني: النبي"صلى الله عليه وآله وسلم" كأنّه شمس دجن تجلت عنه سحابة قتماء، وحوله اغيلمة، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ باصبعه الغلام وما في السماء قزعه، فأقبل السحاب من هاهنا و من هاهنا واغدودق وانفجر له الوادي وأخصب النادي والبادي، وفي ذلك يقول أبو طالب في قصيدة يمدح بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
وابيض يستقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمةللأرامل(12)
وقد كان استسقاء أبي طالب بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو غلام، بل استسقاء عبد المطلب به وهو صبي أمرًا معروفًا بين العرب، وكان شعر أبي طالب في هذه الواقعة مما يحفظه أكثر الناس.
ويظهر من الروايات أنّ استسقاء أبي طالب بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان موضع رضا من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فانّه بعد ما بعث للرسالة استسقى للناس، فجاء المطر واخصب الوادي فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):"لو كان أبو طالب حيًّا لقرّت عيناه، من ينشدنا قوله؟".
فقام علي (عليه السلام) وقال: يا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كأنّك أردت قوله:
وابيض يستقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل(13)
إنّ التوسل بالأطفال الأبرياء في الاستسقاء أمر ندب إليه الشرع الشريف، فهذا هو الإمام الشافعي يقول: أن يخرج الصبيان، ويتنظفوا للاستسقاء وكبار النساء ومن لا هيئة له منهنّ، ولا أحب خروج ذوات الهيئة ولا آمر بإخراج البهائم.(14)
وما الهدف من إخراج الصبيان والنساء الطاعنات في السن، إلاّ استنزال الرحمة بهم وبقداستهم وطهارتهم، وكلّ ذلك يعرب عن أنّ التوسل بالأبرياء والصلحاء والمعصومين مفتاح استنزال الرحمة وكأنّالمتوسل بهم يقول: ربّي و سيدي انّ الصغير معصوم من الذنب،و الكبير الطاعن في السن أسيرك في أرضك، وكلتا الطائفتين أحقّ بالرحمة والمرحمة، فلأجلهم أنزل رحمتك إلينا،حتى تعمنا في ظلهم.
فانّ الساقي ربما يسقي مساحة كبيرة لأجل شجرة واحدة وفي ظلها تسقى الأعشاب غير المفيدة.
وعلى ضوء هذا التحليل يفسر توسل الخليفة بعمّ الرسول: "العباس بن عبد المطلب" الذي سيمر عليك، وأنّه كان توسلاً بشخصه وقداسته وصلته بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعلم بالتالي انّ هذا العمل كان امتدادًا للسيرة المستمرة، وانّ هذا لا يمت إلى التوسل بدعاء العباس بصلة.
3.التوسل بعمّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
أخرج البخاري في صحيحه،عن أنس: "انّ عمر بن الخطاب كان إذا قَحَطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب (رض) فقال: اللّهمّ إنّا كنّا نتوسل إليك بنبيّنا فتسقينا، وانّا نتوسل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا. قال: فيسقون".(15) هذا ما نصّ عليه البخاري وهو يدل على أنّ عمر بن الخطاب عند دعائه واستسقائه توسل بعمّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وشخصه وشخصيته وقدسيته وقرابته من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا بدعائه ويدل على ذلك:
قول الخليفة عند الدعاء: "اللّهمّ كنّا نتوسل إليك بنبيّنا فتسقينا وانّا نتوسل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا" وهذا ظاهر في أنّ الخليفة قام بنفسه بالدعاء عند الاستسقاء، وتوسل بعمّ الرسول وقرابته منه في دعائه.
ج. التوسل بحقّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأنبياء والصالحين
وهناك لون آخر من التوسل وهو التوسل بحقّ الأنبياء والمرسلين، والمراد الحقّ الذي تفضل به سبحانه عليهم فجعلهم أصحاب الحقوق، وليس معنى ذلك انّ للعباد أو للصالحين على اللّه حقًّا ذاتيًا يلزم عليه تعالى الخروج منه، بل الحقّ كلّه للّه، وإنّما المراد، الحقّ الذي منحه سبحانه لهم تكريمًا، وجعلهم أصحاب حقّ على اللّه، كما قال سبحانه: ﴿وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤمِنينَ﴾.(16)
ويدل على ذلك من الروايات ما يلي:
أ. روى أبو سعيد الخدري: قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): من خرج من بيته إلى الصلاة، وقال: اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ السائلين عليك، وأسألك بحقّ ممشاي هذا،فانّي لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا رياءً ولا سمعة وخرجت اتقاء سُخْطِك وابتغاء مرضاتك، فأسألك أن تعيذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي انّه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت، أقبل اللّه عليه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك.(17)
ب. روى عمر بن الخطاب، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): لما اقترف آدم الخطيئة، قال: ربّي أسألك بحقّمحمّد لما غفرت لي، فقال اللّه عزّوجلّ: يا آدم كيف عرفت محمّدًا ولم أخلقه قال: لأنّك لما خلقتني بيدك ونفخت فيّمن روحك، رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبًا لا إله إلاّاللّه، محّمد رسول اللّه، فعلمت انّك لم تضف إلى اسمك إلاّ أحبّ الخلق إليك، فقال اللّه عزّ وجلّ: صدقت يا آدم انّه لأحبّ الخلق إليّ، وإذا سألتني بحقّه فقد غفرت ولولا محمّد ما خلقتك.(18)
ج. روى الطبراني بسنده عن أنس بن مالك انّه لما ماتت فاطمة بنت أسد حفروا قبرها، فلمّا بلغوا اللحد حفر رسول اللّه بيده وأخرج ترابه بيده، فلما فرغ دخل رسول اللّه فاضطجع فيه، وقال: اللّه الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت اغفر لأمّي فاطمة بنت أسد ولقنها حجتها، ووسّع عليها مدخلها بحقّ نبيّك والأنبياء الذين من قبلي، فانّك أرحم الراحمين.(19)
إلى هنا تم البحث عن أقسام التوسل الثلاثة وعرفت انّ الجميع يدعمه الكتاب والسنة وتصور انّ التوسل بغيره سبحانه تأليه وعباده لغيره قد عرفت بطلانه وذلك لوجهين:
الوجه الأوّل: لو كان التوسل بدعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وذاته أو حقّه شركًا يلزم أن يكون كلّ توسل كذلك حتى التوسل بالغير في الأمور العادية مع أنّه باطل بالضرورة، لأنّ الجميع من قبيل التوسل بالأسباب، عادية كانت أو غير عادية، طبيعيةً كانت أو غير طبيعية.
الوجه الثاني: قد عرفت في تعريف العبادة انّه الخضوع أمام الغير بما هو إله أو ربّ أو مفوض إليه أُموره سبحانه، وليس واحد من هذه القيود متحّققًا في التوسل بالأنبياء والصالحين والشهداء بل يتوسل بهم بما انّهم عباد مكرمون يستجاب دعاوَهم عند اللّه سبحانه، أو انّ لذواتهم وحقوقهم منزلة عند اللّه، فالتوسل بهم يثير بحار رحمته.
كيف يكون التوسل بنبي التوحيد(صلى الله عليه وآله وسلم) شركًا مع أنّه يتوسل به بما انّه مكافح للشرك ومقوض لدعائمه؟
د. التوسل بدعاء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والصالحين بعد رحيلهم
من أقسام التوسل الرائجة بين المسلمين هو التوسل بدعاء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو الصالحين بعد رحيلهم.
ولكن ثمة سؤالاً يطرح نفسه وهو:
انّ التوسل بدعاء الغير إنّما يصحّ إذا كان الغير حيًا يسمع دعاءك ويستجيب لك ويدعو اللّه سبحانه لقضاء وطرك ونجاح سوَالك، أمّا إذا كان المستغاث ميتًا انتقل من هذه الدنيا فكيف يصحّ التوسل بمن انتقل إلى رحمة اللّه وهو لا يسمع؟
والجواب: انّ الموت - حسب ما يوحي إليه القرآن والسنّة النبوية - ليس بمعنى فناء الإنسان وانعدامه، بل معناه الانتقال من دار إلى دار وبقاء الحياة بنحو آخر والذي يعبر عنه بالحياة البرزخية.
وتدل على بقاء الحياة آيات من الذكر الحكيم نقتصر على بعضها:
الآية الأولى:
قوله تعالى: ﴿وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ في سَبيلِ اللّهِ أمْواتٌ بَلْ أحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ﴾.(20)
وقد كان المشركون يقولون: إنّ أصحاب محمّد يقتلون أنفسهم في الحروب دون سبب، ثمّ يقتلون ويموتون فيذهبون، فوافى الوحي ردًا عليهم بأنّه ليس الأمر على ما يقولون، بل هم أحياء وإن كان المشركون وغيرهم لا يدركون ذلك.
الآية الثانية
قوله تعالى:
1. ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللّهِ أمْواتًا بَلْ أحياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون﴾.
2. ﴿فَرِحينَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ ألاّ خَوفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.
3. ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَإنَّ اللّهَ لا يُضيعُ أجْرَ الْمُؤمِنينَ﴾.(21)
والآيات هذه صريحة في بقاء الأرواح بعد مفارقتها الأبدان، وبعد انفكاك الأجسام و بلاها، كما يتضح ذلك من الإمعان في المقاطع الأربعة التالية:
1. ﴿أحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾.
2.﴿يُرْزَقُونَ﴾.
3. ﴿فَرِحينَ﴾.
4. ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ﴾.
والمقطع الثاني يشير إلى التنعم بالنعم الإلهية، والثالث والرابع يشير إلى النعم الروحية والمعنوية، وفي الآية دلالة واضحة على بقاء الشهداء بعد الموت إلى يوم القيامة.
وقد نزلت الآية: إمّا في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلاً ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين، وإمّا في شهداء أُحد وكانوا سبعين رجلاً، أربعة من المهاجرين: حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير، وعثمان بن شماس، وعبد اللّه بن جحش وسائرهم من الأنصار، وعلى قول نزلت في حقّ كلتا الطائفتين.
الآية الثالثة
قوله سبحانه: ﴿وَجاءَ مِنْ أقْصَا الْمَدينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَومِ اتَّبِعُوا المُرْسَلينَ* اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْألُكُمْ أجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ* وَمالِيَ لا أعْبُدُ الَّذِي فَطَرني وَإلَيْهِ تُرْجَعُون* ءَأتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ* إنّي إذًا لَفي ضَلالٍ مُبينٍ* إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ* قيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمي يَعْلَمُونَ* بِما غَفَرَ لي رَبِّي وَجَعَلَني مِنَ الْمُكْرَمينَ* وَما أنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنّا مُنْزِلينَ*إنْ كانَتْ إلاّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإذا هُمْ خامِدُونَ﴾.(22)
اتفق المفسرون على أنّ الآيات نزلت في رسل عيسى (عليه السلام)، وقد نزلوا بأنطاكيا داعين أهلها إلى التوحيد وترك عبادة غيره سبحانه، فعارضهم من كان فيها بوجوه مذكورة في نفس السورة.
فبينما كان القوم والرسل يتحاجون إذ جاء رجل من أقصى المدينة يدعوهم إلى اللّه سبحانه وقال لهم:
إتّبعوا معاشر الكفار من لا يطلبون منكم الأجر ولا يسألونكم أموالكم على ما جاءوكم به من الهدى، وهم مهتدون إلى طريق الحقّ، سالكون سبيله، ثمّ أضاف قائلاً:
ومالي لا أعبد الذي فطرني وأنشأني وأنعم إليّ وهداني وإليه ترجعون عند البعث، فيجزيكم بكفركم أتأمرونني أن أتخذ آلهة من دون اللّه مع أنّهم لا يغنون شيئًا ولا يردون ضررًا عني، ولا تنفعني شفاعتهم شيئًا ولا ينقذونني من الهلاك والضرر، وعندما مهَّد السبيل إلى إبطال مزاعم المشركين وبيان سخافة منطقهم، فعندئذٍ خاطب الناس أو الرسل بقوله: (إني آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُون) فسواء أكان الخطاب للمشركين أو للرسل فإذا بالكفار قد هاجموه فرجموه حتى قتل.
ولكنّه سبحانه جزاه بالأمر بدخول الجنّة، بقوله: (قيلَ ادخُل الْجَنّة) ثمّ هو خاطب قومه الذين قتلوه، بقوله: ﴿قالَ يا لَيْتَ قَومي يعلَمُون* بِما غَفَر لي رَبّي وَجَعَلَني مِنَ الْمُكْرَمين﴾.
ثمّ إنّه سبحانه لم يمهل القاتلين طويلاً حتى أرسل جندًا من السماء لإهلاكهم، يقول سبحانه:﴿وَما أنْزَلْنا عَلى قَومِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنّا مُنْزلينَ*إنْ كانَتْ إلاّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإذا هُمْ خامِدُونَ﴾.
أي: كان اهلاكهم عن آخرهم بأيسر أمر، وهي صيحة واحدة حتى هلكوا بأجمعهم، فإذا هم خامدون ساكتون.
ودلالة الآية على بقاء النفس وإدراكها وشعورها وإرسالها الخطابات إلى من في الحياة الدنيا من الوضوح بمكان، حيث كان دخول الجنّة: (قيل ادخُل الجَنّة) والتمني (يا لَيْتَ قَومي) كان قبل قيام الساعة، والمراد من الجنة هي الجنة البرزخية دون الأخروية.
إلى هنا تمّ بيان بعض الآيات الدالة على بقاء أرواح الشهداء الذين بذلوا مهجهم في سبيل اللّه.وثمة طائفة من الآيات تدل على بقاء أرواح الكفار بعد انتقالهم عن هذه الدنيا،مقترنة بألوان العذاب، وهناك طائفة أُخرى من الآيات تدل على بقاء الروح بعد رحيل الإنسان المؤمن والكافر من هذه الدار، ولنذكر هذه الآيات على وجه الإيجاز:
1.﴿النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًَّا وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أدْخِلُوا آلَ فِرْعَونَ أشدَّ الْعَذاب﴾.(23)
تدل الآية بوضوح على أنّ آل فرعون يُعرضون على النار قبل قيام الساعة غدوًّا وعشيًّا، كما انّهم بعد قيامها يُدخلون أشدّ العذاب، فعذابهم قبل الساعة غير عذابهم بعدها، وهو دليل صريح على حياة تلك الطغمة.
2. ﴿مِمّا خَطيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَادْخِلُوا نارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ أنْصارًا﴾.(24)
تدل الآية على أنّ قوم نوح اغرقوا أوّلاً فادخلوا نارًا، ولم يجدوا لأنفسهم أنصارًا وليست هذه النار، نار يوم القيامة بشهادة انّه سبحانه يقول: ﴿فادخلوا نارًا﴾ وهو يدل على تحقق الدخول بلا فاصل زمني بعد الغرق ولو أُريد نار يوم الساعة لكان الأنسب أن يقول"فيدخلون نارًا".
3. ﴿حَتّى إذا جاءَ أحَدَهُمُ الْمَوتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلّي أعْمَلُ صالِحًا فيما تَرَكْتُ كَلاّ إنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْم يُبْعَثُون﴾.(25)
إنّ الكافر حينما يواجه الموت يجد مستقبل حياته مظلمًا وكأنّه يشاهد العذاب الأليم بأم عينه بعد موته فيتمنّى الرجوع إلى الحياة الدنيا، فيجاب بـ (كَلاّ) وما يشاهده ليس إلاّ عذابًا برزخيًا لا عذابًا أُخرويًا ولذلك يقول سبحانه ﴿ومِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوم يُبْعَثُون﴾.
هذه الآيات وغيرها تعرب عن بقاء الحياة بعد الانتقال عن نشأة الدنيا، وإن أطلق الموت عليه فإنّما هو باعتبار انتهاء أمد حياته الدنيوية و اندثار بدنه وأمّا روحه ونفسه فهي باقية بنحو آخر تتنعم أو تعذَّب.
1- الاسراء|85.
2- مجلة رسالة الإسلام السنة الرابعة، العدد الأوّل، مقال الكاتب المصري أحمد أمين.
3- الكهف|96ـ 98.
4- القصص|15.
5- آل عمران|126.
6- النساء|64.
7- المنافقون|5.
8- صحيح الترمذي5، كتاب الدعوات، الباب 119 برقم 3578 ؛سنن ابن ماجة:1|441 برقم 1385؛ مسندأحمد:4|138؛ إلى غير ذلك.
9- صحيح الترمذي5، كتاب الدعوات، الباب 119 برقم 3578 ؛سنن ابن ماجة:1|441 برقم 1385؛ مسندأحمد:4|138؛ إلى غير ذلك.
10- المعجم الكبير للحافظ سليمان بن أحمد الطبراني: 9|30ـ 31، باب ما أسند إلى عثمان بن حنيف برقم 8311؛ والمعجم الصغير له أيضاً:1|183ـ 184.
11- فتح الباري: 2|398؛ دلائل النبوة:2|126.
12- السيرة الحلبية:1|116.
13- إرشاد الساري: 2|338.
14- الأمّ:1|248، باب خروج النساء والصبيان في الاستسقاء.
15- صحيح البخاري:2|27، باب صلاة الاستسقاء، باب سوَال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا من كتاب الصلاة.
16- الروم|47.
17- سنن ابن ماجة:1|256رقم 778، باب المساجد؛ مسند أحمد:3|21.
18- دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي:5|489، دار الكتب العلمية.
19- معجم الطبراني الأوسط: 356 ؛ حلية الأولياء:3|121؛ مستدرك الحاكم: 3|108.
20- البقرة|154.
21- آل عمران|169ـ 171.
22- يس|20ـ 29.
23- غافر|46.
24- نوح|25.
25- الموَمنون|99ـ 100.