سيرة المسلمين في البناء على قبور الصالحين

إنّ سيرة المسلمين تكشف عن جواز بناء المساجد على قبور الصالحين الذين يُتبرّك بهم ولهم مكانة عالية في قلوبهم، ويدل على ذلك الأمور التالية:

أ. دفن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في بيته الذي فيه وكان في جوار المسجد النبوي ولما كثر المسلمون وازداد عددهم وضاق المسجد بهم أدخلوا الجانب الشرقي - الذي كان فيه بيوت أزواج النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والبيت الذي دفن فيه - في المسجد النبوي على نحو يقف المصلون أطراف القبر من الجوانب الأربعة ويحيطون به.

يقول الطبري في حوادث سنة 88: إنّه في شهر ربيع الأوّل من هذه السنة قدم كتاب الوليد على عمر بن عبد العزيز يأمره بهدم المسجد النبوي وإضافة حجر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وأن يوسعه من قبلته وسائر نواحيه، باشتراء الأملاك المحيطة به، فأخبر عمر الفقهاء العشرة وأهل المدينة بذلك، فحبذوا بقاء تلك الحُجُر على حالها ليعتبر بها المسلمون، ويكون أدعى لهم إلى الزهد اقتداءً بنبيهم، فكاتب ابن عبد العزيز الوليد في ذلك، فأرسل إليه يأمره بالخراب، وتنفيذ ما ذكره في كتابه الأوّل، فضجَّ بنو هاشم وتباكوا، ولكن عمر نفّذ ما أمره به الوليد، فأدخل الحجرة النبوية (حجرة عائشة) في المسجد، فدخل القبر في المسجد وسائر حجرات أُمّهات المؤمنين وقد بني عليه سقف مرتفع كما أمر الوليد.(1)

فإذا كان هذا العمل بمرأى ومسمع من فقهاء المدينة العشرة والمسلمين عامة، وفي مقدم التابعين منهم علي بن الحسين زين العابدين وابنه محمد بن علي الباقر (عليهم السلام) اللّذين لم يشك أحد في زهدهما وعلمهما وعرفانهما. فهو أوضح دليل على جواز إقامة المسجد عند قبور الأنبياء والصالحين والصلاة فيه.

وقد أقر هذا العمل كل ّالتابعين وجاء بعدهم إمام دار الهجرة مالك بر أئمّة المذاهب الأربعة فلم يعترضوا عليه بشيء.

ب. يقول السمهودي في حقّ السيدة فاطمة بنت أسد أُمّ الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام): فلمّا توفيت خرج رسول اللّه فأمر بقبرها فحفر في موضع المسجد الذي يقال له اليوم قبر فاطمة.(2)

والعبارة تدل على أنّهم بنوا المسجد بعد تدفينها.

وقال في موضع آخر: إنّ مصعب بن عمير وعبد اللّه بن جحش دفنا تحت المسجد الذي بني على قبر حمزة.(3)

ج. انّ السيدة عائشة قضت حياتها في بيتها وصلّت فيه تمام عمرها، ولم يكن بينها وبين القبر أيّ جدار إلى أن دفن عمر فبني جدار حال بينها وبين القبور الثلاثة.(4)

د. روى البيهقي انّ فاطمة بنت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت تذهب إلى زيارة قبر عمها حمزة فتبكي وتصلي عنده.(5)

أخرج الحاكم، عن سليمان بن داود، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي بن الحسين (عليهم السلام)، عن أبيه، انّ فاطمة بنت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): كانت تزور قبر عمها حمزة كلّ جمعة فتصلي وتبكي عنده.

قال الحاكم: وهذا الحديث رواته عن آخرهم ثقات. وأقرّه الذهبي عليه ونقله البيهقي في سننه.(6)

وهذا يدل على بناء المسجد على قبر حمزة في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والصلاة فيه.

هـ. انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - في معراجه الذي بدأ به من المسجد الأقصى - نزل في المدينة، وطور سينا وبيت لحم، وصلـّى فيها، فقال جبرئيل: صليت في "طيبة" وإليها مهاجرتك، وصليت في طور سينا حيث كلم اللّه موسى، وصليت في بيت لحم حيث ولد المسيح.(7)

هل هناك فرق بين المدفن والمولد، مع انّ الصلاة في كلٍ، لغاية واحدة وهي التبرّك بالإنسان المثالي الذي مسّ جسده الطاهر، ذلك التراب بداية عمره أو نهايته؟!

وبما انّ الكتاب - مضافًا إلى السيرة المستمرة بعد رحيل رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يومنا هذا - دليل قطعي، يكون محكمًا يؤخذ به، وما دلّ على خلافه، يكون متشابهًا، فيرد إلى المحكم ويفسره بفضله.

ربما يتراءى من بعض الروايات عدم جواز اتخاذ قبور الأنبياء مساجد.

فروي عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) انّه قال: قاتل اللّه اليهود اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد.

وفي رواية أُخرى: لعن اللّه اليهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد.

وفي رواية ثالثة: ألا وإنّ من كل قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد.(8)

ولنا مع هذه الأحاديث وقفة قصيرة، وذلك لأنّ تاريخ اليهود لا يتفق مع مضامين تلك الروايات، لأنّ سيرتهم قد قامت على قتل الأنبياء وتشريدهم وإيذائهم إلى غير ذلك من أنواع البلايا التي كانوا يصبّونها على أنبيائهم.

ويكفي في ذلك قوله سبحانه: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَولَ الَّذينَ قالُوا إنَّ اللّهَ فَقيرٌ وَنَحْنُ أغْنياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الأنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَريق﴾.(9)

وقوله سبحانه: ﴿قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلي بِالْبَيِّناتِ وَبِالّذي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إنْ كُنْتُمْ صادِقينَ﴾.(10)

وقال سبحانه: ﴿فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ...﴾.(11)

أفتزعم انّ أُمّة قتلت أنبياءها في مواطن مختلفة تتحول إلى أُمّة تشيد المساجد على قبور أنبيائها تكريمًا وتبجيلاً لهم.

وعلى فرض صدور هذا العمل عن بعضهم، فللحديث محتملات أُخرى غير الصلاة فيها والتبرّك بصاحب القبر وهي:

أ. اتخاذ القبور قبلة.

ب. السجود على القبور تعظيمًا لها بحيث يكون القبر مسجودًا عليه.

ج. السجود لصاحب القبر بحيث يكون هو المسجود له، فالقدر المتيقن هو هذه الصور الثلاث لا بناء المسجد على القبور تبرّكًا بها.

والشاهد على ذلك انّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) حسب بعض الروايات يصف هؤلاء بكونهم شرار الناس.

أخرج مسلم في كتاب المساجد: انّ أُمّ حبيبة وأُمّ سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال رسول اللّه: (صلى الله عليه وآله وسلم)إنّ أُولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بني على قبره مسجدًا، وصوّروا فية تلك الصور، أُولئك شرار الخلق عند اللّه يوم القيامة.(12)

إنّ وصفهم بشرار الخلق يميط اللثام عن حقيقة عملهم إذ لا يوصف الإنسان بالشر المطلق إلاّ إذا كان مشركًا - و إن كان في الظاهر من أهل الكتاب - قال سبحانه: ﴿إنَّ شَرَّ الدّوابّ عِنْدَ اللّهِ الصُّمُّ البُكْمُ الّذينَ لا يَعْقِلُون﴾.(13)

وقال: ﴿إنَّ شَرَّ الدَّوابّ عِنْدَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤمِنُونَ﴾.(14)

وهذا يعرب عن انّ عملهم لم يكن صرفَ بناء المسجد على القبر والصلاة فيه، أو مجرد إقامة الصلاة عند القبور، بل كان عملاً مقرونًا بالشرك بألوانه وهذا كما في اتخاذ القبر مسجودًا له أو مسجودًا عليه أو قبلة يصلى عليه.

قال القرطبي: وروى الأئمّة عن أبي مرثد الغنوي قال: سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: لا تصلّوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها "لفظ مسلم" أي لا تتخذّوها قبلة فتصلّوا عليها أو إليها كما فعل اليهود و النصارى فيوَدي إلى عبادة من فيها.(15)

إنّ الصلاة عند قبر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إنّما هو لأجل التبرّك بمن دفن، ولا غروَ فيه وقد أمر سبحانه الحجيج باتخاذ مقام إبراهيم مصلى قال سبحانه: ﴿وَاتَّخِذوا مِنْ مَقامِ إبْراهيمَ مُصلّى﴾.(16)

إنّ الصلاة عند قبور الأنبياء كالصلاة عند مقام إبراهيم غير انّ جسد النبي إبراهيم (عليه السلام) لامس هذا المكان مرّة أو مرات عديدة، ولكن مقام الأنبياء احتضن أجسادهم التي لا تبلى أبدًا.

هذا وانّ علماء الإسلام فسروا الروايات الناهية بمثل ما قلناه.

قال البيضاوي: لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيمًا لشأنهم ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها، واتخذوها أوثانًا، لعنهم ومنع المسلمين عن مثل ذلك. فأمّا من اتخذ مسجدًا في جوار صالح وقصد التبّرك بالقرب منه لا للتعظيم ولا للتوجه ونحوه، فلا يدخل في الوعيد المذكور.(17)

وقال السندي شارح سنن النسائي: اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، أي قبلة للصلاة ويصلون إليها، أو بنوا مساجد يصلون فيها، ولعلّ وجه الكراهة أنّه قد يفضي إلى عبادة نفس القبر.

إلى أن يقول: يحذر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أُمّته أن يصنعوا بقبره ما صنع اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم من اتخاذ تلك القبور مساجد، إمّا بالسجود إليها تعظيمًا لها أو بجعلها قبلة يتوجهون في الصلاة إليها.(18)


1- راجع تاريخ الطبري:5|222؛البداية والنهاية:8|65.

2- وفاء الوفاء:3|897.

3- المصدر السابق:3|922.

4- وفاء الوفاء:2|541.

5- السنن الكبرى: 4|78.

6- مستدرك الحاكم:1|377.

7- الخصائص الكبرى:1|154.

8- للوقوف على مصادر هذه الأحاديث راجع صحيح البخاري: 2|111 كتاب الجنائز؛ سنن النسائي:2|871، كتاب الجنائز؛ صحيح مسلم:2|68، باب النهي عن بناء المساجد على القبور من كتاب المساجد.

9- آل عمران|181.

10- آل عمران|183.

11- النساء|155.

12- صحيح مسلم:2|66، باب النهي عن بناء المساجد على القبور من كتاب المساجد.

13- الأنفال|22.

14- الأنفال|55.

15- تفسير القرطبي:10|38.

16- البقرة|125.

17- فتح الباري في شرح صحيح البخاري:1|525، طبعة دار المعرفة؛ وقريب منه ما في إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري:2|437، باب بناء المسجد على القبور.

18- سنن النسائي:2|41.