مظاهر الحب
إنّ لهذا الحب مظاهر ومجالي، إذ ليس الحب شيئًا يستقر في صقع النفس من دون أن يكون له انعكاس خارجي على أعمال الإنسان وتصرفاته، بل من خصائصه أن يظهر أثره على سلوك الإنسان وملامحه.
1. حب اللّه ورسوله لا ينفك عن اتّباع دينه والاستنان بسنّته والانتهاء عن نواهيه، ولا يعقل أبدًا أن يكون المرء محبًا لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومع ذلك يخالفه فيما يبغضه ولا يرضيه. و الإتّباع أحد مظاهر الحبّ قال سبحانه: ﴿قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾(1) فمن ادّعى الحب في النفس وخالف في العمل، فقد جمع بين شيئين متخالفين متضادين.
وقد نسب إلى الإمام الصادق (عليه السلام) البيتان التاليتان:
تعصي الإله وأنت تظهر حبَّه * هذا لعمري في الفعال بديع
لو كان حبك صادقًا لأطعته * انّ المحب لمن يحب مطيع(2)
2. ومن مظاهر هذا الحب، صيانة آثارهم وحفظ معالمهم والعناية بكلّ ما يتصل بهم حتى الاحتفاظ بما صلوا فيه من ألبسة أوشربوا منه الماء من أوان أو استخدموه من أشياء، وتشييد مراقدهم، وتعمير قبورهم... كلّ ذلك انعكاس طبيعي لهذا الحب الكامن في النفوس والود المتمكن في القلوب.
وليس هذا أمرًا مختصًا بالمسلمين، بل الأمم المتحّضرة المعتزة بماضيها وتاريخها، تسعى إلى صيانة كلّ أثر تاريخي باق من الماضي وصيانة مراقد شخصياتهم العلمية.
وأخيرًا نقول: لا شكّ انّ لهدم الآثار والمعالم التاريخية الإسلامية لا سيما في مهد الإسلام مكة ومهجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة المنوّرة، نتائج ومضاعفات خطيرة على الأجيال اللاحقة التي سوف لا تجد أثرًا لوقائع التاريخ الإسلامي، وربما تؤول إلى الاعتقاد بأنّ الإسلام قضية مفتعلة وفكرة مبتدعة ليس لها جذور تاريخية، تمامًا كما أصبحت قضية السيد المسيح (عليه السلام) في نظر الغرب قضية اسطورية حاكتها أيدي البابوات والقساوسة، لعدم وجود آثار ملموسة تدل على أصالة هذه القضية ووجودها التاريخي.
إيضاح حديث أبي هياج
بقي هنا سؤال وهو انّ مقتضى هذه الأدلة وإن كان هو جواز البناء على القبور لكن الحديث العلويّ يمنعنا عنه وهو ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هياج الأسدي، قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا تدع تمثالاً إلاّ طمسته ولا قبرًا مشرفًا إلاّسويته.(3)
والجواب: انّ الحديث يدل على لزوم تسطيح القبور مقابل تسنيمها ولا صلة له ببناء القبور أو البناء عليه وذلك انّ لفظة "التسوية" تستعمل في معنيين:
1. تطلق ويراد منها مساواة شيء بشيء فعندئذٍ تتعدى إلى المفعول الثاني بحرف التعدية كالباء قال سبحانه: ﴿إذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمين﴾.(4)
وقال سبحانه حاكيًا عن حال الكافرين يوم القيامة: ﴿يَومَئِذٍ يَوَدُّ الَّذينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُول لَو تُسَوّى بِِِهِمُ الأرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللّهَ حَديثًا﴾ (5) أي يودّون أن يكونوا ترابًا أو أمواتًا تحت الأرض.
2. تطلق ويراد منها ما هو وصف لنفس الشيء لا بمقايسته إلى شيء آخر، فعندئذٍ تكتفي بمفعول واحد.
قال سبحانه: ﴿الَّذي خَلَقَ فَسَوّى﴾.(6)
وقال سبحانه: ﴿بَلى قادِرينَ عَلى أنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ﴾.(7)
ففي هذين الموردين تقع التسوية وصفًا للشيء لا بإضافته إلى غيره.
إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى تفسير الحديث فنقول:
لو أراد من قوله: سويته هو مساواة القبر بالأرض - كمساواة شيء بشيء - يلزم أن يتّخذ مفعولاً ثانيًا بحرف الجر كأن يقول سويته بالأرض أي جعلتهما متساويين والمفروض انّه اقتصر بمفعول واحد دون الثاني.
فتعين انّ المراد هو الثاني أي كون المساواة وصفًا لنفس الشيء وهو القبر ومعناه عندئذٍ تسطيح القبر في مقابل تسنيمه، وبسطه في مقابل اعوجاجه، وهذا هو الذي فهمه شراح الحديث، وبما انّ السنّة هي التسطيح، والتسنيم طرأ بعد ذلك، أمر عليّ (عليه السلام) بأن يكافح البدعة ويسطح كلّ قبر مسنم.
وممّا يوَيد انّ المراد هو تسطيح القبر إن مسلم في صحيحه عنون الباب هكذا "باب الأمر بتسوية القبر" ثمّ نقل رواية عن ثمامة انّه قال: كنّا مع فضالة بن عبيد في أرض الروم، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوّي. قال: سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يأمر بتسويته ثمّ أورد بعده حديث أبي الهياج المتقدم.(8)
وقد فسره أيضًا بما ذكرنا الفقيه القرطبي حيث قال: قال علماوَنا ظاهر حديث أبي الهياج منع تسنيم القبور ورفعها.(9)
1- آل عمران|31.
2- سفينة البحار، مادة حب.
3- صحيح مسلم:3|60،باب الأمر بتسوية القبر؛ و السنن للترمذي:2|256، باب ما جاء في تسوية القبور.
4- الشعراء|98.
5- النساء|42.
6- الأعلى|2.
7- القيامة|4.
8- صحيح مسلم: 3|61، باب الأمر بتسوية القبر.
9- تفسير القرطبي: 10|380.