شدّ الرحال إلى زيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
كان الكلام في استحباب زيارة النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" للحاضر في المدينة، وأمّا استحباب السفر للغائب عنها فيدل عليه أُمور:
الأوّل: ما ورد في الأحاديث من الحث على زيارة النبي ص، فانّها بين صريح في الغائب أو مطلق يعمُّ المقيم والمسافر والحاضر والغائب.
فمن القسم الأوّل ما رواه عبد اللّه بن عمر، عن النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" انّه قال: من جاءني زائرًا لا تحمله إلاّ زيارتي كان حقًا علي أن أكون له شفيعًا يوم القيامة.
فهذا صريح في الغائب وغيره.
الثاني: سيرة النبي (ص) فانّه كان يشدّ الرحال إلى زيارة قبور شهداء أُحد.
أخرج أبو داود عن ربيعة - يعني ابن الهُدير - عن طلحة بن عبيد اللّه، قال: خرجنا مع رسول اللّه (ص) يريد قبور الشهداء حتى إذا أشرفنا على حرّة وأقم (1) فلما تدلّينا منها وإذًا بقبور بمحنية(2) قال: قلنا يا رسول اللّه: أقبور اخواننا هذه.
قال: قبور أصحابنا، فلما جئنا قبور الشهداء، قال: هذه قبور إخواننا.(3)
الثالث: إطباق السلف والخلف على شدّ الرحال إلى زيارة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)،لأنّ الناس لم يزالوا في كلّ عام إذا قضوا الحج يتوجهون إلى زيارته و منهم من يفعل ذلك قبل الحج.
قال السبكي: هكذا شاهدناه وشاهده من قبلنا وحكاه العلماء عن الأعصار القديمة... وكلّهم يقصدون ذلك ويعرجون إليه وإن لم يكن طريقهم، ويقطعون فيه مسافة بعيدة وينفقون فيه الأموال، ويبذلون فيه المهج، معتقدين انّ ذلك قربة وطاعة، واطباق هذا الجمع العظيم من مشارق الأرض ومغاربها على مرّ السنين وفيهم العلماء والصلحاء وغيرهم يستحيل أن يكون خطأ وكلّهم يفعلون ذلك على وجه التقرب به إلى اللّه عزّ وجلّ، ومن تأخّر عنه من المسلمين فإنّما يتأخر بعجز أو تعويق المقادير مع تأسفه عليه وودّه لو تيسّر له، و من ادّعى أنّ هذا الجمع العظيم مجمعون على خطأ فهو المخطئ.
وما ربما يقال من أنّ سفرهم إلى المدينة لأجل قصد عبادة أُخرى وهو الصلاة في المسجد، باطل جدًا، فانّ المنازعة فيما يقصده الناس مكابرة في أمر البديهة، فمن عرف الناس، عرف انّهم يقصدون بسفرهم الزيارة من حين يعرجون إلى طريق المدينة، ولا يخطر غير الزيارة من القربات إلاّ ببال قليل منهم، ولهذا قل القاصدون إلى البيت المقدس مع تيسر إتيانه، وإن كان في الصلاة فيه من الفضل ما قد عرف، فالمقصود الأعظم في المدينة، الزيارة كما أنّ المقصود الأعظم في مكة، الحج أو العمرة وهو المقصود، وصاحب هذا السؤال إن شكّ في نفسه فليسأل كلّ من توجه إلى المدينة ما قصد بذلك؟(4)
الرابع: انّه إذا كانت الزيارة قربة وأمرًا مستحبًا على الوجه العام أو الخاص، فالسفر وسيلة القربة، والوسائل معتبرة بالمقاصد فيجوز قطعًا.
الخامس: ما نقله المؤرّخون عن بعض الصحابة والتابعين في هذا المجال.
1.قال ابن عساكر: إنّ بلالاً رأى في منامه النبي"صلى الله عليه وآله وسلم" وهو يقول له: ما هذه الجفوة يا بلال، أما آن لك أن تزورني يا بلال؟ فانتبه حزينًا، وجلاً خائفًا، فركب راحلته وقصد المدينة فأتى قبر النبي ص، فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه، وأقبل الحسن والحسين - رضي اللّه عنهما - فجعل يضمّهما ويقبلهما فقالا له يا بلال: نشتهي نسمع أذانك الذي كنت تؤذن به لرسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، في السحر ففعل، فعلا سطح المسجد، فوقف موقفه الذي كان يقف فيه، فلمّا أن قال: "اللّه اكبر - اللّه اكبر " ارتجَّت المدينة، فلما أن قال: "أشهد أن لا إله إلاّ اللّه" ازدادت رجَّتها، فلما أن قال: "أشهد أنّ محمّدًا رسول اللّه"خرجت العواتق من خدورهن فقالوا: أبعث رسول اللّه (ص)؟! فما رُئي يوم أكثر باكيًا ولا باكية بعد رسول اللّه من ذلك اليوم.(5)
2. انّ عمر بن عبد العزيز كان يبعث بالرسول قاصدًا من الشام إلى المدينة ليقرىَ النبي السلام ثمّ يرجع.(6)
قال السبكي: فسفر بلال في زمن صدر الصحابة، ورسول عمر بن عبد العزيز في زمن صدر التابعين من الشام إلى المدينة، لم يكن إلاّ للزيارة والسلام على النبي ولم يكن الباعث على السفر غير ذلك لا من أمر الدنيا ولا من أمر الدين، لا من قصد المسجد ولا من غيره.(7)
3. إنّ عمر لما صالح أهل بيت المقدس وقدم عليه كعب الأحبار وأسلم وفرح عمر بإسلامه، قال عمر له: هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبر النبي وتتمتع بزيارته؟ فقال لعمر: أنا أفعل ذلك، ولما قدم عمر المدينة أوّل ما بدأ بالمسجد وسلم على رسول اللّه.(8)
4. ذكر ابن عساكر في تاريخه، وابن الجوزي في "مثير الغرام الساكن"، بأسانيدهم إلى محمد بن حرب الهلالي قال: دخلت المدينة، فأتيت قبر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وزرته وسلمت بحذائه، فجاءه أعرابي فزاره، ثمّ قال: يا خير الرسل انّ اللّه أنزل عليك كتابًا صادقًا، قال فيه: (وَلَو أنَّهُمْ إذ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ جاءُوكَ فَاستَغْفِرُوا اللّهَ وَاستْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّه تَوّابًا رَحيمًا).(9)
وإنّي جئتك مستغفرًا ربّك ذنوبي، مستشفعًا بك إلى اللّه ثمّ بكى وأنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه * فطاب من طيبهن القاع والاكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه * فيه العفاف وفيه الجود والكـرم
وقد ذيله أبو الطيب أحمد بن عبد العزيز بأبيات وقال:
وفيه شمس التقى والدين قد غربت * من بعد ما أشرقت من نورها الظلم
حاشا لوجهك أن يبلى وقد هديت * في الشرق والغرب من أنـواره الأمـم (10)
سؤال وإجابة
وثمة سؤال وهو انّه إذا كان شدّ الرحال إلى زيارة القبور وبالأخص زيارة قبر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) جائزًا، فما معنى هذا الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه، وهو لا تشدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى؟
والجواب:
أوّلاً: انّ هذا الحديث وإن أخرجه مسلم، لكنّه معارض بفعل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث إنّه كان يشد الرحال إلى مساجد غير هذه الثلاثة.
فقد أخرج الشيخان في صحيحهما انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يأتي مسجد قبا راكبًا وماشيًا فيصلي فيه.(11)
فكيف يجتمع هذا الحديث مع حديث النهي الذي لسانه آب عن التخصيص، وهذا يدل على أنّ الحديث الأوّل إمّا غير صحيح وعلى فرض صحته نقل محرّفًا.
والدليل على التحريف انّه نقل بوجه آخر أيضًا، وهو إنّما يسافر إلى ثلاثة مساجد: مسجد الكعبة، ومسجدي، ومسجد إيلياء.
وأيضًا بصورة ثالثة تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد.(12)
فعلى هذين الصورتين ليس هناك نهي عن شدّ الرحال إلى غير الثلاثة خصوصًا الصورة الثالثة، وأقصى ما فيها الدعوة إلى السفر إلى هذه الثلاثة.
وثانيًا: نفترض انّ الصحيح هو الصورة الأولى لكن المستثنى منه بقرينة المستثنى محذوف وهو لفظ المسجد، فيكون معناه لا تشدّ الرحال إلى مسجد من المساجد إلاّ إلى هذه المساجد الثلاثة، فلو دلّ فإنّما يدل على النهي على شدّ الرحال إلى مسجد سوى المساجد الثلاثة، وأمّا السفر إلى الأماكن الأخرى فالحديث ساكت عنه غير متعرض لشيء من أحكامه، فانّ النفي و الإثبات يتوجهان إلى السفر إلى المسجد لا إلى الأمكنة الأخرى، كزيارة النبي ومشاهد الشهداء ومراقد الأولياء.
وثالثًا: انّ الحديث لا يدل - حتى - على حرمة السفر إلى مسجد غير هذه الثلاثة، وإنّما هو إرشاد إلى عدم الجدوى في السفر إلى غيرها، وذلك كما قاله الإمام الغزالي: لأنّ سائر المساجد متماثلة في الفضيلة بعد هذه المساجد فلا وجه لشدّ الرحال إلى غيرها وإنّما يشد الرحال إذا كان هناك تفاوت في الفضيلة.(13)
وأمّا شدّ الرحال إلى زيارة أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)أو الشهداء فيعلم ذلك ممّا قد أوردناه من الأحاديث، فإذا خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المدينة لزيارة قبور الشهداء فأئمّة أهل البيت أئمّة الشهداء تجوز زيارتهم بطريق أولى، انّ الإمام أمير المؤمنين من أفضل الشهداء، والحسين بن علي أبو الشهداء.فسلام اللّه عليهم يوم ولدوا ويوم استشهدوا ويوم يبعثون أحياء.
وعلى كلّ حال فشدّ الرحال، مسألة فقهية لا صلة لها بالمسائل العقائدية ولا بالشرك ولكلّ مجتهد دليله.
1- الحرّة: الأرض ذات الحجارة، واقم: اُطم من اطام المدينة وإليه تنسب الحرّة.
2- المحنية: انعطاف الوادي.
3- سنن أبي داود: 2|218 برقم 2043، آخر كتاب الحج.
4- شفاء السقام في زيارة خير الأنام لتقي الدين السبكي:85ـ 86، ط بولاق مصر، وانظر الطبعة الرابعة:211 ـ212 بتلخيص.
5- تاريخ ابن عساكر:7|137 في ترجمة إبراهيم بن محمد، برقم 493.
6- شفاء السقام،ص 142. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان كما نقله في الصارم المنكي:246، لاحظ تعليقة شفاء السقام.
7- شفاء السقام:143، ط الرابعة.
8- فتوح الشام، ج1،(صلى الله عليه وآله وسلم) 148، باب فتح القدس.
9- النساء|64.
10- شفاء السقام:151ـ 152.
11- صحيح مسلم:4|127، صحيح البخاري:2|176.
12- أورد مسلم هذه الأحاديث في صحيحه:4|126، باب لا تشدّ الرحال من كتاب الحج وكذلك النسائي في سننه المطبوع مع شرح السيوطي:2|37ـ 38، وقد ذكر السبكي صوراً أُخرى للحديث هي أضعف دلالة على مقصود المستدل لاحظ شفاء السقام:98.
13- احياء علوم الدين للإمام الغزالي: 2|247.