الفصل الثاني: التوحيد، مراتبه و أقسامه
التوحيد ونبذ الشرك من أهمّ المسائل العقائدية التي تصدَّرت المفاهيم والتعاليم السماوية على الإطلاق، ويعدّ أساسًا لسائر المعارف الإلهية التي جاء بها رسل اللّه في كتبهم وكلماتهم.
وبما انّ للتوحيد مراتب بيّنها علماء الإسلام في كتبهم العقائدية نأتي بها على سبيل الإجمال ونردف كلّ قسم منها بآية أو آيات قرآنية ثمّ نبحث باسهاب عن التوحيد في العبادة الذي هو آخر مراتبه.
فنقول: إنّ للتوحيد أقسامًا:
الأوّل: التوحيد في الذات
والمراد منه هو انّه سبحانه واحد لا نظير له، فرد لا مثيل له، بل يمتنع أن يكون له نظير أو مثيل، قال سبحانه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّميعُ الْبَصير﴾.(1)
وقال سبحانه: ﴿قُلْ هُوَ اللّه أحَد* اللّهُ الصَّمَد* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ*وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَد﴾.(2)
الثاني: التوحيد في الخالقية
والمراد انّه ليس في صحيفة الوجود خالق غير اللّه سبحانه، ولا مؤثر سواه، وانّ ما في الكون من السماوات والأرض والجبال والبحار والعناصر والمعادن والنباتات والأشجار فهو مخلوق للّه سبحانه، فوجودها وأفعالها وآثارها كلّها مخلوقة للّه تبارك و تعالى.
فالشمس وحرارتها، والقمر وإنارته، والنار وإحراقه وغير ذلك من الفواعل والأسباب كلّها مخلوقة للّه تبارك وتعالى مع آثارها ومسبباتها، قال سبحانه: ﴿قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ القَهّار﴾ (3). وقال سبحانه: ﴿اللّهُ خالِقُ كُلّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلّ شَيْءٍ وَكِيل﴾(4) وقال تعالى: ﴿ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إلهَ إلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ﴾.(5) لكن جرت مشيئته على خلق الأشياء عن طريق أسبابها فكون العالم كله مخلوقًا للّه سبحانه ليس بمعنى إنكار علاقة السببية، كما سيوافيك.
الثالث: التوحيد في الربوبية
والمراد منه انّ للكون مدبرًا واحدًا متصرفًا كذلك لا يشاركه في التدبير شيء فهو سبحانه المدبر الوحيد للكون على الإطلاق، قال سبحانه: ﴿إنّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأمْر﴾ (6) وقال سبحانه: ﴿اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرونَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَر كُلٌّ يَجْري لأجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأمْر﴾.(7)
تجد انّه سبحانه يذكر بعد خلق السماوات والأرض، تدبير أمر الخلقة، وربوبيَّتها فيُحصره في ذاته فلا مدبِّر ولا ربّ إلاّ هو، فيكون الخالق هو الموجد، والرب والمدبر لأمر الخلقة ودوامها واستمرارها.
نعم ثمّة سؤال وهو انّه إذا لم يكن مدبر سواه فما معنى قوله سبحانه: ﴿فَالمُدبِّراتِ أمْرًا﴾ (8) أو قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْقاهِرُ فَوقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَة﴾ (9) فانّ الحفظة جمع "الحافظ" وهم الذين يحفظون العباد ويدبّرون شؤون حياتهم، أفهناك تناف بين هذا الإثبات والحصر السابق؟!
والجواب انّ من كان ملمّـًا بحقائق القرآن وعارفًا بلسانه يقف على عدم وجود أيِّ تناقض وتناف بين ذلك النفي وهذا الإثبات، وذلك لأنّ الهدف من حصر التدبير باللّه سبحانه هو حصره به على وجه الاستقلال، أي من يدبر بنفسه غير معتمد على شيء.
وأمّا المثبت لتدبير غيره، فيراد منه انّه يدبر بأمره وإذنه وحوله وقوته على النحو التبعي فكل مدبر في الكون من ملك وغيره فهو مظهر أمره ومنفِّذ إراداته.
وليس هذا بعزيز في القرآن ترى أنّه سبحانه ينسب فعلاً لنفسه وفي الوقت نفسه ينسبه لشخص آخر، ولا تناقض، لاختلاف النسبتين في الاستقلال والتبعية، قال سبحانه: ﴿اللّهُ يَتَّوَفى الأنْفُسَ حينَ مَوتِها﴾(10) و قال: ﴿حَتّى إذا جاءَ أحَدَكُمُ الْمَوتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا﴾.(11)
فالتوفّي على وجه الاستقلال هو فعله سبحانه، وأمّا التوفّي بحوله وقدرته وإرادته وأمره فهو فعل الرسل.
وبعبارة أُخرى: هناك فعل واحد وهو التوفّي، يُنسب إلى اللّه بنحو وإلى رسله بنحو آخر، دون أيّ تناف وتنافر بين هذين النسبتين.
ونظيره قوله سبحانه: ﴿وَاللّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُون﴾ (12) وفي الوقت نفسه يعتبر الملائكة كَتَبَة الأعمال ويقول: ﴿بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِِم يَكْتُبُونَ﴾.
وبذلك تقف على معنى التوحيد في التدبير والتأثير، وليس معناه خلوّ كلّ موجود من التأثير وانّ آثار الأسباب تفاض من اللّه سبحانه بلا واسطة، بل معناه انّ الآثار والمسببات، للأسباب نفسها، فالشمس مضيئة، والقمر منير والنار محرقة حقيقة، ولكن بجعل منه سبحانه، فالجميع من مظاهر أمره وإرادته.
ومن زعم انّ معنى التوحيد في الربوبية هو نفي الآثار عن الأسباب فقد نازع وجدانه، كما نازع الوحي المبين حيث إنّه يثبت الأثر الطبيعي لكلّ سبب وفي الوقت نفسه يربطهما باللّه سبحانه، قال:﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِراشًا وَالسَّماءَ بِناءً وَأنْزَلَ مِنَ السَّماء ماءً فَأخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا للّهِ أنْدادًا وَأنْتُمْ تَعْلَمُون﴾.(13)
تجد انّ الوحي اعترف بسببية الماء لخروج الثمرات الطيّبة وليست هذه الآية وحيدة في هذا الباب، بل في القرآن الكريم نماذج من هذا النوع، قال سبحانه: ﴿وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنّاتٌ مِنْ أعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوان يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الأكُلِ إنَّ في ذلِكَ لآياتٍ لِقَومٍ يعْقِلُونَ﴾.(14)
فتستدلّ الآية على أنّ تدبيره سبحانه فوق تدبير الفواعل الطبيعية، وذلك بشهادة انّ الجنات تثمر أثمارًا مختلفة مع وحدة الشرائط والظروف المحيطة بها من وحدة الماء والأرض، وهذا يدل على أنّ وراء الأمور الطبيعية والأسباب المادية مدبرًا فوقها، وعلى الرغم من هذا الاعتراف إلاّ انّه لا ينفي تأثير العوامل الطبيعية من دون أن يراها كافية في خلق هذا التنوّع.
هذا هو منطق القرآن في التوحيد والتدبير والربوبية، فمن أراد التفصيل فليرجع إلى الكتب العقائدية.
الرابع: التوحيد في التشريع والتقنين
والمراد منه انّ التشريع والتقنين للإنسان حقّ مختص باللّه تبارك وتعالى فهو المشرِّع الوحيد للمجتمع الإنساني ولا يحق لأحد التقنين. قال سبحانه: ﴿إنِ الْحُكْمُ إلاّ للّه أمَرَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ﴾ (15) والمراد من حصر الحاكمية باللّه هو حصر الحاكمية التشريعية، فالآية تهدف إلى أنّه لا يحق لأحد أن يأمر وينهى ويحرِّم ويحلِّل سوى اللّه سبحانه ولأجل إن المراد من الحكم المختصّ باللّه سبحانه، هو التشريع أردفه بقوله: ﴿أمَرَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ﴾ فالمراد من الأمر هنا هو الأمر التشريعي.
وقال سبحانه: ﴿أفَحُكْمَ الْجاهِلِيّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِقَومٍ يُوقِنُون﴾ (16) فالآية تقسِّم القوانين إلى: إلهية وجاهلية، وبما انّ ما كان من صنع الفكر البشري ليس إلهيًا فيكون حكمًا جاهليًا البتة.
الخامس: التوحيد في الطاعة
والمراد انّه لا يجب طاعة سوى اللّه تعالى، فهو وحده يجب أن يُطاع وأن تمتثل أوامره ونواهيه، وأمّا طاعة غيره فتجب بإذنه وأمره وإلاّ كانت محرمة موجبة للشرك في الطاعة، قال سبحانه: ﴿وَما أُمِرُوا إلاّ ليَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصينَ لَهُ الدِّين﴾ (17) والدين في الآية بمعنى الطاعة أي مخلصين الطاعة له ولا يطيعون غيره.
نعم تجب طاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمره تعالى، قال سبحانه: ﴿وَما أرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إلاّ لِيُطاعَ بِإذْنِ اللّه﴾.(18)
وفي آية أُخرى عُدَّت طاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مظاهر طاعة اللّه وقال: ﴿وَمَنْ يُطِعِ الرَّسُول فَقَدْ أطاعَ اللّه﴾.(19)
وعلى ضوء ذلك فإطاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأُولي الأمر والوالدين إنّما هو بإذنه وأمره سبحانه ولولاه لم تكن طاعتهم واجبة، بل ولا الانقياد لأوامرهم جائزة فهناك مطاع بالذات وهو اللّه وغيره مطاع بالعرض وبأمره.
السادس: التوحيد في الحاكمية
والمراد منه انّ الحكم على الناس حقّ مختص باللّه تبارك و تعالى، و حكومة الغير يجب أن تنتهي إلى اللّه تبارك و تعالى، وذلك لأنّ الحكومة والحاكمية في المجتمع لا تنفك عن التصرف في النفوس والأموال وتحديد الحريات وذلك فرع ولاية، للحاكم على المحكوم ولولاها لعدَّ التصرف عدوانًا وممّا لا شكّ فيه انّ الولاية للّه المالك الحقيقي للإنسان الخالق له، والمدبر له، فلا يحقّ لأحد الإمرة على العباد إلاّ بإذن منه سبحانه.
قال سبحانه: ﴿إنِ الْحُكْمُ إلاّ للّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلينَ﴾.(20)
وقال سبحانه: ﴿ألا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أسْرَعُ الْحاسِبينَ﴾ (21) فالحكومة على الناس - سواء أكانت بصورة القضاء وفضِّ الخصومة أو بصورة الإمرة - حقّ للّه، وغيره يمارسها بإذنه وإلاّ فيكون من قبيل حكم الطواغيت الذي شجبه القرآن في أكثر من آية.
السابع: التوحيد في العبادة
والمراد منه حصر العبادة باللّه سبحانه وهذا هو الأصل المتفق عليه بين جميع طوائف المسلمين فلا يكون المسلم مسلمًا إلاّ بعد الاعتراف بهذا الأصل، وشعار المسلمين الذي يردّدونه كل يوم هو قوله سبحانه: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ فعبادة غيره إشراك للغير مع اللّه في العبادة، موجبة لخروج المسلم عن ربقة الإسلام.
وثمة أمر آخر وهو إن الضابطة الكلية - حصر العبادة باللّه سبحانه - أمر لا غبار عليه، لكن ثمة أُمورًا ربما يتصور إنها من قبيل العبادة لغير اللّه، وهذا ما سنتطرق إليه في الفصل الخامس، وعلى ذلك فالنزاع ليس كبرويًا بل صغروي، أي لا نزاع لأحد في أنّه لا تجوز عبادة غيره، وإنّما الكلام في أنّ هذا الأمر هل هو عبادة غيره سبحانه أو لا؟
مثلاً هل إقامة الاحتفالات في الأعياد والمهرجانات الدينية عبادة لصاحب الذكرى، أو هو تكريم وتبجيل وتعظيم له، فلو كانت عبادة تكون محرمة وشركًا بلا شك، ولو كان تكريمًا وتعظيمًا له يكون أمرًا جائزًا بل مستحبًا.
وهناك أمثلة أُخرى ستمر عليك في الفصل الخامس،غير انّ المهم في المقام هو تفسير العبادة تفسيرًا منطقيًا وتحديدها تحديدًا دقيقًا ليعلم من خلالها ما هو الداخل تحتها أو الخارج عنها.
وهذا هو الذي يتكفل بيانه الفصلان التاليان.(22)
1- الشورى|11.
2- الاخلاص|1ـ4.
3- الرعد|16.
4- الزمر|62.
5- الأنعام|102.
6- يونس|3.
7- الرعد|2.
8- النازعات|5.
9- الأنعام |61.
10- الزمر|42.
11- الأنعام |61.
12- النساء|81.
13- البقرة|22.
14- الرعد|4.
15- يوسف|40.
16- المائدة|50.
17- البينة|5.
18- النساء|64.
19- النساء|80.
20- الأنعام|57.
21- الأنعام|62.
22- أحدهما يتضمن بيان حقيقة العبادة ومقوماتها و الآخر يتضمن تعريف العبادة، والأوّل مقدمة للآخر.