الفصل الرابع: تعريف العبادة
إذا وقفت على مقوّمات العبادة، فيكون من السهل تعريف العبادة تعريفًا منطقيًا جامعًا للأفراد ومانعًا للأغيار بأحد التعاريف التالية:
التعريف الأوّل
العبادة هي الخضوع عن اعتقاد بأُلوهية المعبود، فمالم يكن القول والعمل ناشئين من الاعتقاد بالألوهية، لا يكون الخضوع والتعظيم والتكريم عبادة.
والذي يجب أن نلفت نظر القارئ إليه، هو انّ المراد من الألوهية ليست المعبودية كما هو الرائج في الألسن، بل المراد منها الاعتقاد بكونه إله العالم وخالقه ومدبره وانّ أزمة الأمور كلّها أو بعضها بيده، فهذا هو المراد من الإله، والألوهية، فلفظ الإله كلي و(اللّه) لفظ الجلالة علم، فليس بينهما فرق إلاّ بالكلية والجزئية.
والذي يدل على ذلك (الخضوع النابع عن الاعتقاد بالألوهيّة) انّ بعض الآيات تأمر بعبادة اللّه وتنهى عن عبادة غيره مدللاً بأنّه لا إله غيره، يقول: ﴿يا قَومِ اعْبُدُوا اللّهَ ما لَكُمْ إلهٍ غَيْرُهُ﴾.(1)
ومعنى ذلك أنّ الذي يستحق العبادة من كان إلهًا وليس هو إلاّ اللّه، عندئذٍ كيف تعبدون ما ليس بإله حقيقة و إنّما تدّعون له الألوهية؟ وكيف تنبذون عبادة اللّه وهو الإله الذي يجب أن يعبد دون سواه؟ وقد وردت هذه الآية بنصها أو مضمونها في كثير من الآيات.(2)
فهذه التعابير تفيد انّ العبادة هي ذلك الخضوع والتذلّل النابعين من الاعتقاد بأُلوهية المعبود، إذ نلاحظ - بجلاء - كيف استنكر القرآن على المشركين عبادة غير اللّه بأنّ هذه المعبودات ليست آلهة وانّ العبادة من شؤون الألوهية.وحيث إنّ هذا الوصف لا يوجد إلاّ في اللّه سبحانه لذلك تجب عبادته دون سواه.
التعريف الثاني
العبادة هي الخضوع أمام من يعتقد انّه ربّ يملك شأنًا من شؤون وجوده وحياته وشؤونه في آجله وعاجله.
سواء كان أمرًا مادّيًا كالعزّة و النصر، أم معنويًّا كمغفرة الذنوب.
والمقصود من الربّ، هو المالك لشؤون الشيء، المتكفّل لتدبيره وتربيته، ولذلك تكون العبودية في مقابل الربوبية.
ويدل على ذلك طائفة من الآيات التي تعلل الأمر بحصر العبادة في اللّه وحده بأنّه الربّ لا غير، وإليك بعض هذه الآيات:
﴿وَقالَ الْمَسيحُ يا بَني إسْرائيلَ اعْبُدُوا اللّهَ رَبّي وَربَّكُمْ﴾.(3)
﴿إنَّ هذِهِ أُمَّتكُمْ أُمّةً واحِدَةً وَأنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونَ﴾.(4)
﴿إنَّ اللّهَ رَبِّي وَربّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيم﴾.(5)
وقد ورد مضمون هذه الآيات في آيات أُخرى هي:يونس: 3؛ الحجر:99؛ مريم 36، 65؛ الزخرف:64.
وعلى كلّ حال فانّ أوضح دليل على هذا التفسير للفظ العبادة هو الآيات التي سبق ذكرها.
التعريف الثالث
العبادة هي الخضوع أمام من نعتقد انّه إله العالم، أو من فوض إليه أعماله كالخلق والرزق والإحياء والإماتة التي تعد من الأفعال الكونية أو التقنين والتشريع وحقّ الشفاعة والمغفرة التي تعد من الأفعال التشريعية.
إنّ الموحد يعبد اللّه سبحانه بما انّه قائم بهذه الأفعال، من دون أن يفوِّض شيئًا منها إلى مخلوقاته، ولكنّ المشركين مع اعتقادهم بأن ّآلهتهم وأربابهم مخلوقون للّه تبارك و تعالى، لكن كانوا على اعتقاد انّه فُوض إلى الآلهة أُمور التكوين والتشريع كلّها أو بعضها، فلذلك كانوا يستمطرون بالأنواء والأصنام ويطلبون الشفاعة منهم بتصور انّهم مالكون لحقّ الشفاعة، ويطلبون منهم النصرة والعزة في الحرب بزعم انّ الأمر بيدهم وانّه فوض إليهم.
وعلى ضوء هذه التعاريف الثلاثة يظهر الفرق الجوهري بين التوحيد في العبادة والشرك فيها، فكلّ خضوع نابع عن اعتقاد خاص بإلهية المخضوع له وربوبيته أو تفويض الأمر إليه فهو عبادة للمخضوع له سواء كان ذلك الاعتقاد الخاص في حقّ المعبود حقًا - كما في اللّه سبحانه - أو باطلاً كما في حقّ الأصنام. وعلى كلّ تقدير فالخضوع الناجم عن هذا النوع من الاعتقاد، عبادة للمخضوع له.
وأمّا لو كان الخضوع مجردًا عن هذه العقيدة فهو تعظيم وتكريم، وليس بعبادة، ولا يكون الخاضع مشركًا، ولا عمله موصوفًا بالشرك، غاية الأمر ربما يكون حلالاً كما في الخضوع أمام الأنبياء والأولياء ومن وجب له حقّ بالتعليم والتربية، وربما يكون حرامًا كالسجود أمام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والولي (عليه السلام) وغيرهما لا لأنّه عبادة للمسجود له، بل لانّه لا يجوز السجود لغيره سبحانه وانّ السجود خضوع لا يليق بغيره.
وبمثل هذا البيان تتميز العبادة عن التعظيم، فتقبيل المصحف وضرائح الأنبياء وما يمتّ إليهم بصلة إذا كان فارغًا عن اعتقاد الألوهية والربوبية والتفويض فهو ليس عبادة للمخضوع له.
إذا عرفت تلك الضوابط فلنتناول بالبحث الموضوعات الخاصة التي ربما يتصور انّها شرك وعبادة لغير اللّه أو انّها بدعة دخلت في الدين أو حرام كسائر المحرمات، ويأتي كلّ ذلك في ضمن الفصل الآتي.
1- الأعراف|59.
2- وللقارىَ الكريم أن يراجع في ذلك الآيات التالية: الأعراف|65، 73، 85؛ هود|50، 61، 84؛ الأنبياء|25؛ الموَمنون|23، 32؛ طه |14.
3- المائدة|72.
4- الأنبياء|92.
5- آل عمران|51.