الفصل الثالث: حقيقة العبادة ومقوِّماتها
إنّ مفهوم العبادة من المفاهيم الواضحة كالماء والأرض لكن مع وضوح مفهومهما ربما يصعب التعبير عن حقيقتهما في قالب الألفاظ.
وهكذا مفهوم العبادة من المفاهيم الواضحة مفهومًا ومصداقًا، ولكن ربما يصعب تحديدها تحديدًا منطقيًا يكون جامعًا للأفراد ومانعًا للأغيار مع وضوح مصاديقها غالبًا.
فخضوع العاشق الولهان للمعشوق، أو الجنديّ لرئيسه، وشدُّ الرحال إلى زيارة كبار الشخصيات كلّها خضوع وخشوع وليست بعبادة.
والرجوع إلى اللغة لا يسمن ولا يغني من جوع، لأنّ أصحاب المعاجم لم يكونوا بصدد تحديد مفهوم العبادة حتى يُتخذ ما ذكروه مقياسًا وتعريفًا جامعًا ومانعًا. فانّـهم فسروه بالخضوع والتذلّل وما شابههما.
يقول ابن منظور في لسان العرب: أصل العبودية الخضوع والتذلّل.
ويقول الراغب في المفردات: العبوديّة: التذلّل، والعبادة أبلغ منها لأنّها غاية التذلّل.
وفي القاموس المحيط: العبادة: الطاعة.
إلى غير ذلك من التعاريف المتقاربة.
و من المعلوم انّ هذه تعاريف بالمعنى الأعم، إذ ليس مجرّد الخضوع والتذلّل ولا غايتهما حدًا للعبادة، فانّ حبّ العاشق للمعشوق لا يعد عبادة له، كما ان ّتقبيل المصحف الكريم ليس عبادة للكتاب، وأوضح من ذلك انّ سجود الملائكة لآدم، كقوله سبحانه: ﴿فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلّهُمْ أجْمَعُونَ* إلاّ إبْليسَ أبى﴾ (1) وسجود النبي يعقوب (عليه السلام) وزوجه وأولاده ليوسف (عليه السلام)، كما في قوله سبحانه: ﴿وَرَفَعَ أبَوْيهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ (2) لم يك عبادة للمسجود له، أعني آدم أبا البشر ولا النبي يوسف "عليه السلام".
وقد بلغ خضوع الصحابة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكان انّهم كانوا يتبركون بفضل وضوئه وشعر رأسه، والإناء الذي يشرب منه الماء، والمنبر الذي كان يجلس عليه، ومن الواضح انّ هذا النوع من التبرّك غاية الخضوع منهم للنبي "صلى الله عليه وآله وسلم" ومع ذلك لم يبلغ حدَّ العبادة ولم يصفهم أحد بأنّهم كانوا يألِّهون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويعبدونه كذلك يجرّنا إلى أن نقوم بتعريفها حتى يعم جميع المصاديق ويمنع عن دخول غيرها.
والطريق الواضح لحلّ هذه المعضلة هو الوقوف على مقومات العبادة و إمعان النظر في العبادات الصحيحة التي قام بها المسلمون على مرّ العصور، وفي العبادات والطقوس الباطلة التي كانت تُمارَس من قِبَل الوثنيين في الجاهلية والعصر الحاضر حتى نقف على الخصوصيات المكنونة في عمل الجميع والتي على ضوئها تطلق عليها عبادة، إذًا فتحليل أعمالهم والوقوف على الميزات الموجودة فيها والخصوصيات الكامنة يوقفنا أوّلاً على حقيقة العبادة، ويرسم لنا ثانيًا تعريفًا جامعًا ومانعًا على نحو يكون مقياسًا لتمييز العبادة عن غيرها.
وإليك تحليلها:
لا شكّ انّ الجامع بين جميع أقسام العبادات صحيحها وباطلها هو الخضوع للمعبود سواء أكان مستحقًا له كاللّه سبحانه أو غير مستحق له كالأصنام والأوثان أو الأجرام السماوية من النجم والقمر والشمس والأرواح والمثل النورية المجردة، فالعبادة في جميع تلك المراحل تتمتع بالخضوع وهو عمل قائم بالجوارح كالرأس واليد وغيرهما، فالعابد يخضع بجلّ جوارحه أو بشيء منها أمام المعبود وهذا أمر لا سترة فيه.
ولكن هناك خصوصية أُخرى موجودة في الجميع وهو أمر قائم بالضمير و القلب ولعلّه الأساس لإضفاء العبادة على العمل الجارحي، وهي عبارة عن اعتقاد خاص بالمعبود الذي يكون مبدًا للخضوع الظاهري.
فالواجب علينا بيان تلك الخصوصية الموجودة في جميع الأقسام وإليك التوضيح:
أمّا الموحدون الذين يعبدون اللّه تبارك و تعالى، فخضوعهم نابع عن اعتقادهم بأنّه خالق للكون والإنسان، والمدبر للعالم الذي بيده كلّ شيء في الدنيا والآخرة، وليس هناك أي خالق ومدبر ومالك لمصالح العباد ومصائرهم في العاجل والآجل سواه.
أمّا العاجل فيعتقدون أنّ الخلق والتدبير والاحياء والاماتة و انزال المطر والخصب و الجدب وكلّما يعدّ ظاهرة طبيعية من فعله سبحانه لا من فعل غيره الذي لا يملك أي تأثير في مصير الإنسان.
أمّا الآجل فيعتقدون أنّ الشفاعة ومغفرة الذنوب وغيرهما من الأمور الأخروية بيده تعالى.
وعلى ضوء ذلك فالعبادة هو الخضوع النابع عن الاعتقاد بخالقيته ومدبريته وكون أزمَّة الأمور ومصير الإنسان في الدنيا والآخرة بيده.
هذا حال الموحدين وأمّا المشركون في عصر الرسالة وقبله وبعده فخضوعهم لمعبوداتهم كان نابعًا عن اعتقاد خاص يضادُّ ذلك، فاللازم هو تحصيل ذلك الاعتقاد.
يظهر من بعض الآيات انّ العرب في العصر الجاهلي كانوا موحدين في الخالقية، قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَألْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ العَلِِيم﴾ (3) ولكنّهم في الوقت نفسه كانوا مشركين في التدبير الذي نعبِّر عنه بالربوبية، فكانوا يعتقدون بأرباب، مكان الرب الواحد، ولكلّ رب شأن في عالم الكون.
ويدل على ذلك طائفة من الآيات نذكر بعضها:
1. انّ الموحد يرى انّ العزة بيد اللّه سبحانه ومنطقه، قوله سبحانه: ﴿فلِلّه الْعِزَّةُ جَميعًا﴾.(4)
ولكن المشرك في عصر الرسالة كان يرى انّ العزة بيد الأصنام والأوثان كما يحكي عن عقيدته قوله سبحانه: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا﴾.(5)
2. انّ الموحد يرى انّ النصر بيد اللّه تبارك و تعالى و يردّد على لسانه، قوله سبحانه: ﴿وَمَا النَّصْرُ إلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ الْعَزيزِ الحَكيم﴾.(6)
ولكن المشرك في عصر الرسالة كان يعتقد بأنّ النصر بيد الآلهة والأرباب المزيَّفة، قال سبحانه: ﴿وَاتَّخذوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُون﴾.(7)
3. انّ الموحد يؤمن بأنّ أمر التدبير بيد اللّه، قال سبحانه: ﴿إنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغيْث﴾.(8) كما انّ بيده الجدب والخصب قال سبحانه: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّر الصّابِرينَ﴾.(9)
ولكن المشرك كان يستمطر بالانواء بل يستمطر بالأصنام.
يقول ابن هشام في سيرته: كان عمرو بن لُحَيّ أوّل من أدخل الوثنية إلى مكة وضواحيها، فقد رأى في مآب من أرض البلقاء من بقاع الشام أُناسًا يعبدون الأوثان وعندما سألهم عمّا يفعلون قائلاً: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدونها؟
قالوا: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتُمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: أفلا تعطونني منها صنمًا فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه؟
وهكذا استحسن طريقتهم واصطحب معه إلى مكة صنمًا كبيرًا يقال له "هبل" ووضعه على سطح الكعبة المشرّفة ودعا الناس إلى عبادته.(10)
4.ثمّ إنّ الموحد يرى انّ غفران الذنوب والشفاعة بيده سبحانه فليس هناك غافر للذنوب إلاّ اللّه سبحانه ولا شفيع إلاّ بإذنه، يقول سبحانه: ﴿فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوب إلاّ اللّه﴾ (11)
وقوله سبحانه: ﴿قُلْ للّهِ الشَفاعةُ جَميعًا لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالأرْض﴾.(12) وقال سبحانه: ﴿وَلا يَمْلِكُ الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَة﴾.(13)
وأمّا المشرك فكان يعتقد بأنّ الشفاعة بيد الآلهة والأرباب المزيفة، والشاهد عليه انّ الآيات الماضية نزلت ردًا على عقيدة المشركين حيث كانوا يعتقدون بأنّهم مالكون مقام الشفاعة بتفويض من اللّه سبحانه ولأجل ذلك يدكد على نفي تلك العقيدة في آيات أُخرى، ويقول: ﴿لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إلاّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمن عَهْدًا﴾(14) وقال: ﴿وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إلاّ لِمَنْ أذِنَ لَهُ﴾ (15) وقال: ﴿وَلا يَملِكُ الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إلاّ مَنْ شَهِدَ بِالحَقّ﴾.(16)
كما يرى انّ مغفرة الذنوب بيد الآلهة والشاهد على ذلك (وصفه سبحانه) نفسه بأنّه "غافر الذنب".(17)
5.انّ الموحد يرى مصيره عاجلاً و آجلاً بيده سبحانه: وهذا هو إبراهيم الخليل رائد التوحيد يعلن عقيدته أمام الملأ من المشركين، يقول سبحانه حاكيًا عنه: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدين* وَالَّذي هُوَ يُطْعِمُني وَيَسقين* وَإذا مَرِضْت فَهُوَ يَشْفين* وَالذي يُميتُني ثُمَّ يُحيين﴾.(18)
ولكن المشرك يرى كلّ ذلك أو أكثره بيد آلهته وأربابه، كما يعرب عنه قوله سبحانه: ﴿وَمِنَ النّاس ِمَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أنْدادًا يُحِبُونَهُمْ كَحُبِّ اللّه﴾ (19) ويقول تعالى حاكيًا عن لسان المشركين يوم الحشر عند ندمهم عن عبادة الآلهة، ﴿تاللّهِ إنْ كُنّا لَفي ضَلالٍ مُبين * إذْ نُسَويكُمْ بِرَبِّ الْعالَمين﴾.(20)
6. انّ الموحد يرى أمر التشريع والتحليل والتحريم بيده سبحانه، ويقول: ﴿إنِ الْحُكْمُ إلاّ للّهِ﴾.(21)
ولكن المشرك يرى انّ التشريع بيد الأحبار والرهبان، قال سبحانه: ﴿اتَّخَذوا أحْبارَهُمْ وَرُهبانَهُمْ أرْبابًا مِنْ دُونِ اللّه﴾ (22) فقد كانوا على اعتقاد انّ الأحبار والرهبان يملكون مقام التشريع فلهم أن يحلوا الحرام أو يحرموا الحلال بأخذ شيء من حطام الدنيا.
إلى غير ذلك ممّا يبين عقيدة المشركين في العصر الجاهلي ويكشف عن أنّ خضوع المشركين لم يكن خضوعًا مجردًا نابعًا عن الحب المجرد بل ناجمًا عن عقيدة خاصة في الآلهة والأرباب، والاعتقاد بأنّ أمر التدبير بعضه أو كلّه بيدهم وانّ مصيرهم موكول إليهم.
نعم لم تكن عقيدتهم في ربوبيتهم على درجة واحدة، بل كانت تختلف حسب اختلاف الظروف والشرائط.
فطائفة منهم تعتقد بسعة ربوبية الأرباب والآلهة كما كان عليه المشركون في عصر إبراهيم حيث كانوا يعتقدون بربوبية النجم والقمر والشمس للموجودات الأرضية كما حكاه سبحانه عنهم في عدّة من الآيات، قال سبحانه: ﴿وَكَذلِكَ نُرِي إبْراهيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنينَ* فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوكَبًا قالَ هذا رَبِّي فَلَمّا أفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الآفِلين...﴾.(23)
وطائفة أُخرى تعتقد بضيق ربوبية تلك الآلهة وتخصها ببعض ما يمتُّ إلى الإنسان بصلة كاختصاصهم بحقّ الشفاعة والمغفرة والعزّة والنصرة في الحروب إلى غير ذلك، و من أراد التفصيل فليرجع إلى كتب الملل والنحل.(24)
والذي كان يجمع المشركين في معسكر واحد هو اعتقادهم بمالكية الآلهة شيئًا من الربوبية وإدارة الكون وحياة الإنسان.
ونلفت نظر القارئ إلى بعض النماذج ممّا أثر عن المشركين في مجال عقيدتهم.
قال زيد بن عمرو بن نوفل الذي ترك عبادة الأصنام قبل أن يبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يحكي عن عقيدته في الجاهلية ويقول:
أرب واحـد أم ألف ربّ * أديـن إذا تُقسِّمـت الأمـور
عزلت اللات والعزى جميعًا * كذلك يفصل الجلد الصبور
للاعزّى أديـن ولا ابنتيها * ولا صـنم بني عمـرو أزور
ويقول أيضًا:
إلى الملك الأعلى الّذي ليس فوقه * إله ولا ربّ يكون مداينًا(25)
هذه الأشعار وسائر الكلمات المروية قبل مبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تثبت أمرًا واحدًا، و هو انّ آلهتهم كان ت تتمتع حسب عقيدتهم بقوة غيبية مالكة لها مؤثرة في الكون ومصير الإنسان، وانّ هوَلاء آلهة وأرباب واللّه سبحانه إله الآلهة وربّ الأرباب.
ويمكن أن نتطرق إلى المواقف التي اتّخذوها أمام أصنامهم وأوثانهم من خلال استعراض الآيات التي تندد بالمشركين وتشجب عملهم.
1. ﴿انَّ الَّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ عِبادٌ أمْثالُكُمْ﴾. (26)
2. ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحويلاً﴾.(27)
3. ﴿وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ﴾.(28)
4. ﴿إنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ﴾.(29)
5. ﴿أمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمن إنِ الْكافِرُونَ إلاّ في غُرُور﴾.(30)
6.﴿إمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطيعونَ نَصرَ أنْفُسهِمْ وَلا هُمْ مِنْها يُصْحَبُونَ﴾.(31)
إلى غير ذلك من الآيات المندّدة بعمل المشركين حيث تجد انّه سبحانه يرشدهم إلى الحقيقة الناصعة ويبطل عقيدتهم المزيفة بالحجج التالية:
أ. انّهم ﴿عباد أمْثالكُمْ﴾ فلا ربوبية لهم كلاً أو بعضًا.
ب. ﴿فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرّ﴾ فلا ربوبية لهم حتى يكشفوا الضرّ عنكم.
ج. لا ينْفَعُونَ وَلا يضُرُّونَ، وَلا يسْمَعُون فكيف تعبدونهم؟
كلّ ذلك يكشف عن انّ المخاطبين كانوا على اعتقاد راسخ بأنّ للآلهة قدرة غيبية فوق الإنسان وانّ زمام كشف الضرّ بأيديهم فينفعون ويضرّون.
إلى هنا تبين انّ حقيقة العبادة قائمة بأمرين:
الأوّل: يرجع إلى جوارح الإنسان المشعرة بالتعظيم والخضوع.
الثاني: يرجع إلى عقيدة الخاضع في حقّ المخضوع له بنحو من الأنحاء من كونه خالقًا أو ربًا أو من بيده مصير الإنسان كلاً أوجزءًا فلا تتحقق مفهوم العبادة إلاّ بتحققهما.
نعم يبقى هنا سؤال وهو انّ العرب في العصر الجاهلي لو كانوا معتقدين بربوبيّة الآلهة، فلماذا يحكي عنهم ا لقرآن بأنّ عبادتهم كانت لأجل التقرب بعبادتهم إلى اللّه فقط لا غير، قال سبحانه: ﴿ألا للّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أولياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إلاّ لِيُقَرِّبُونا إلَى اللّهِ زُلْفى إنَّ اللّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ في ما هُمْ فيهِ يَخْتَلِفُونَ إنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفّارٌ﴾.(32)
حيث يحكي عنهم سبحانه قولهم: ﴿ما نعبدهم إلاّ ليقربونا إلى اللّه زلفى﴾ أي يقولون: نحن لا نعدُّهم موَثرين في حياتنا ومصيرنا وإنّما نعبدهم لنتقرب بعبادتهم إلى اللّه.
والجواب: انّه لا شكّ حسب ما مرّ من الآيات انّهم كانوا يتّخذونهم آلهة وأربابًا وكانوا يستمطرون ويعتَّزون بهم إلى غير ذلك من صفات الآلهة، ومع ذلك كيف يمكن ان تُحصر عبادتهم في طلب التقرب إلى اللّه، وهذا يدلنا إلى القول بأنّهم كانوا يقولون في ألسنتهم ما ليس في قلوبهم ولذلك نرى انّه سبحانه يقول في ذيل الآية ﴿إنَّ اللّهَ لا يَهْدي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفّار﴾ مشيرًا إلى أنّهم كاذبين في ذلك المدّعى وإنّما يعبدونهم لغايات دنيوية، وهو اكتساب العزة والنصرة والخصب والنعمة والشفاء والشفاعة.
وحيث إنّه طال الكلام في هذا الفصل الّذي تناولنا فيه بيان مقوّّمات العبادة نحيل تعريفها إلى الفصل اللاحق.
1- الحجر|30ـ31.
2- يوسف|100.
3- الزخرف|9.
4- فاطر|10.
5- مريم|81.
6- آل عمران|126.
7- يس|74.
8- لقمان|34.
9- البقرة|155.
10- انظر السيرة النبوية: 1|76ـ77.
11- آل عمران|135.
12- الزمر|44.
13- الزخرف|86.
14- مريم|87.
15- سبأ|23.
16- الزخرف|86.
17- راجع غافر|3.
18- الشعراء|78ـ 81.
19- البقره|165.
20- الشعراء|97ـ 98.
21- يوسف|40.
22- التوبة|31.
23- الأنعام|75ـ80.
24- الشهرستاني: الملل والنحل:2|244.
25- الآلوسي: بلوغ الارب: 2|249.
26- الأعراف|194.
27- الإسراء|56.
28- يونس|106.
29- فاطر|14.
30- الملك|20.
31- الأنبياء|43.
32- الزمر|3.