المقدمة
كلمة التوحيد و توحيد الكلمة
بُني الإسلام على كلمتين: "كلمة التوحيد" والشهادة على أنّه لاإله إلاّ اللّه ونفي أُلوهية وربوبية كلّ موجود سواه، و"توحيد الكلمة" والاعتصام بحبل اللّه المتين والنهي عن التفرق والتشتت وراء مسائل هامشية لا تمسُّ - في كثير من الأحيان - جوهرَ الإسلام، ورائدُنا في الدعوة إلى الوحدة وحفظ كيان الإسلام، قوله سبحانه: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَميعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعْداءً فَألَّفَ بَيْنَقُلُوبكُمْ فَأصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوانًا وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾.(1)
ولو سبرنا أقوال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرته العملية نلمس منها اهتماماته الكبيرة بتوحيد الكلمة ولمّ الشمل، فانّ الوحدة هي دعامة القوة والرفاه ونيل السعادة، كما أنّ التفرقة هي بوَرة الضعف والشقاء والاندحار.
ولنقتصر من سيرته وكلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) على الأمور التالية:
أ. قدِم النبي (ص) يثرب، و الأوس و الخزرج يقودان جمله وشبّانهم يطوفون حوله وكانت القبيلتان هما الحجر الأساس لبناء الدعوة الإسلامية، ولكن كان بين الطائفتين قبل اعتناق الإسلام حروب طاحنة أسفرت عن مصرع العديد منهم و كانت البغضاء والعداوة متفشية بينهم، وفي تلك الظروف هبط عليهم النبي ورأى ضرورة رأب الصدع وتقريب الخطى بين القبيلتين بل جعْلَهما اخوين متحابين ومتراحمين.
فأوّل خطوة قام بها هي التآخي بينهما حسمًا لمادة الخلاف وإنساءً للماضي.(2)
ب. انتصر المسلمون على قبيلة بني المصطلق، فبينا رسول اللّه على مائهم نشب النزاع بين رجل من الأنصار ورجل من المهاجرين، فصرخ الأنصاري، فقال: يا معاشر الأنصار، وصرخ الآخر، وقال: يا معشر المهاجرين، فلما سمعهما النبي (ص) قال: دعوها فانّها منتنة...(3) يعني انّها كلمة خبيثة، لأنّها من دعوى الجاهلية، واللّه سبحانه جعل الموَمنين إخوة وصيّرهم حزبًا واحدًا، فينبغي أن تكون
الدعوة في كلّ مكان وزمان لصالح الإسلام والمسلمين عامة، لا لصالح قوم ضد الآخرين، فمن دعا في الإسلام بدعوى الجاهلية يعزر.
فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يصف كلّ دعوة تشقّ عصا المسلمين وتمزق وحدتهم بأنّها دعوى منتنة، وكيف لا تكون كذلك وهي توجب انهدام دعامة الكيان الإسلامي.
ج. نزل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دار هجرته والتفت حوله القبيلتان: الأوس والخزرج، فمرَّ شاس بن قيس - الذي كان يحمل في قلبه ضغنًا للمسلمين - على نفر من أصحاب رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأوس والخزرج في مجلس يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من أُلفتهم وجماعتهم، وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية.
فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا واللّه ما لنا معهم إذا اجتمع ملوَهم بها من قرار، فأمر فتى شابًا من اليهود كان معهم، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثمّ اذكر يوم بُعاث، يوم اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه يومئذ للأوس على الخزرج، وكان على الأوس يومئذ حُضير بن سماك الأشهلي، وعلى الخزرج عمرو بن النُّعمان البياضي، فقتلا جميعًا.
دخل الشاب اليهودي مجتمعَ القوم فأخذ يذكر مقاتلتهم ومضاربتهم في عصر الجاهلية فأحيى فيهم حميَّتها حتى استعدُّوا للنزاع والجدال، وأخذ الشاب يوَجج نار الفتنة.
فبلغ ذلك رسول اللّهص فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين، حتى جاءهم فقال (ص): يا معشر المسلمين! اللّه، اللّه، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم اللّه بالإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم من الكفر وألّف به بين قلوبكم.(4)
وقد تركت كلمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقعًا في نفوسهم، حيث فطنوا إلى أنّـها نزعة من نزعات الشيطان، فندموا على ما وقع منهم ثمّ انصرفوا.
انّ كلمة الرسول، كشفت القناع عن الخدعة اليهودية، وأطفأت نار الفتنة في مهدها، ودخلت في القلوب الموَمنة وصيّرتهم إخوانًا متحابِّين.
هذه القصة وكم لها من نظير تعكس لنا المحاولات المستميتة التي يبذلها أعداء الإسلام بغية الإطاحة بوحدة المسلمين وتمزيق شملهم.
ولو كان في عصر الرسول شاس أو شاسان من اليهود، ففي الوقت الحاضر المئات بل الألوف منهم جنّدوا قواهم الشيطانية، وأثاروا النعرات الطائفية بين المسلمين من خلال طرح مسائل هامشية لتكدير صفوهم.
إنّ أساليب الأعداء في إثارة الفتن لا تعدُّ ولا تُحصى، ولهم مخططات مختلفة حسب ما تقتضيه الظروف والبيئات.
فالعقل يفرض على المسلمين رصَّ صفوفهم، وتوحيدَ كلمتهم بغية الوقوف أمام تلك الخُطط والمؤامرات.
إنّ مسألة التوحيد ونبذ الشرك من المسائل الهامّة التي تعد الهدف الأسنى للأنبياء والمرسلين وكبار المصلحين. فالتوحيد رمز الإسلام وعزّة المسلمين.
هذا ومع الاعتراف بأهميته ولكن وجدت - من خلال البحث في التوحيد والشرك - مسائل هامشية صارت ذريعة للاختلاف ووسيلة للتشتت فآثرنا في هذه الرسالة المتواضعة استنطاق القرآن الكريم في هذه المسائل والاستنارة بنور السنة النبوية التي اتفق المسلمون على كونها المصدر الثاني للعقيدة والشريعة بعد الذكر الحكيم.
وأخيرًا ندعو المجتمع الإسلامي إلى ما دعا به القرآن الكريم، وقال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾.
فالمسلمون ملّة واحدة يجمعهم إله واحد، وكتاب واحد، ودين واحد، وشريعة واحدة فما يجمعهم أكثر ممّا يفرقهم.
والجميع كما يقول شاعر الاهرام:
انّا لتجمعنا العقيدة أمَّة ويضمّنا دين الهدى أتباعا
ويؤلف الإسلام بين قلوبنا مهما ذهبنا في هوى أشياعا
جعفر السبحاني
1- آل عمران|103.
2- الدر المنثور:2|287، تفسير الآية 103 من سورة آل عمران، نقل عن مقاتل بن حيان انّ هذه الآية نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار، إلى أن قال: فقدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأصلح بينهم.
3- ابن هشام: السيرة النبوية:3|303، غزوة بني المصطلق.
4- انظر السيرة النبوية: 1|555ـ556، ط عام 1375هـ.