خاتمة المطاف

بعد هذه الجولة المفعمة بالاهتمامات البلاغية الدقيقة في القرآن الكريم، ومن خلال هذه المسيرة المثيرة للاستنتاج والتطلع البياني المتطور، يمكن أن نشير بإيجاز كبير الى أهم ما توصلنا إليه من نتائج في أرقام:

1. في الفصل الأول رصدنا مجاز القرآن عند الرواد الأوائل منصبا حول:

أولاً: لغة القرآن، ومعاني مفرادته، وسيرورة ألفاظه، وكان عطاء هذا المناخ متقاربا في مصنفات " معاني القرآن " و " غريب القرآن " و" مجاز القرآن " وإرادة مؤدى الألفاظ منها في حنايا الذهن العربي، دون إرادة الاستعمال البلاغي، أو التأكيد على " المجاز " و " المعاني " في الصيغة الاصطلاحية لدى علماء المعاني والبيان.

ثانيا: وقفنا عند مجاز القرآن بإطاره البلاغي العام، فكان دالا على جميع الصور البيانية في البلاغة تارة، أو على المعنى المقابل للحقيقة تارة أخرى، سواء أكان مجازا أو استعارة أو تمثيلا أو تشبيها بليغا، وناقشنا من أعتبر المجاز أمرا حادثا، أو فنا عارضا لم يتكلم به الأوائل، ورصدنا مفهومه عند المعتزلة وتطويرهم له من خلال هدف ديني لا غرض فني، وانتهينا أن الاستعمال المجازي بمعناه العام، وبإطاره البلاغي المتسع معرف بالأصالة منذ عهد مبكر.

ثالثا: وحللنا مجاز القرآن في مرحلة التأصيل، فكان ابن قتيبة (ت: 276 هـ) والشريف الرضي (ت: 406 هـ) وعبد القاهر الجرجاني (ت: 471 هـ) وجار الله الزمخشري (ت: 538 هـ) أقطاب هذه المرحلة، وقادة هذا الفن، فلمسنا ابن قتيبة صاحب مدرسة اجتهادية في استنباط مجاز القرآن لتحقيق مذهبه الكلامي في رد الطاعنين بوقوع المجاز في القرآن.

ورأينا أبا الحسن الشريف الرضي عالما موسوعيا في المجاز بعامة، والمجاز القرآني والنبوي بخاصة، ووجدنا كتابه " تلخيص البيان في مجازات القرآن " سبقا فريدا، لم يشاركه فيه أحد قبله باعتباره أول كتاب كامل ألف لغرض واحد، وهو تتبع مجازات القرآن في سوره كافة، فكان حجر الأساس لهذا المعلم، في استقلالية الفكر والمنهج والتأليف، وفي التورع عن القطع في الآراء، وفي العبارة البلاغية المشرقة، التي تريك علم اللغوي الى جنب الحسّ البلاغي، وصفاء العبقري بإزاء علم البيان، ورقة الشاعر ممزوج بدقة الناثر.

واعتبرنا الشيخ عبد القاهر مطور البحث البلاغي، وواضع أصوله الفنية في كتابيه الدلائل والأسرار، وأول من خطط المجاز في قسمين: عقلي ولغوي، وتتبعه لذلك في الإثبات والمثبت، وإدراكه لهما في التركيب، فكان الوعي المجازي عنده من أبلغ ما توصل إليه الفهم البياني، ومن أفضل ما أنتجه النقد الموضوعي في صياغة المنهج المحدد الوثيق لدقائق المصطلح المجازي في القرآن.

وإذا جئنا الى دور جار الله الزمخشري وجدنا له اليد الطولى في تطوير نظرية المجاز القائمة في القرآن بحدود مما أفاده من تجارب الرضي، وما استقاه من ينبوع عبد القاهر، فدأب في " أساس البلاغة " الى تتبع مجاز المفردات، وعمد في " الكشاف " الى استقراء جمال القرآن المجازي. ولم ننس شذرات ما كتب في المجاز القرآني هنا وهناك فأشرنا الى السيد المرتضى والشيخ الطوسي وأبي علي الطبرسي وفخر الدين الرازي، وسواهم من المفسرين والبلاغيين.

رابعا: وتتبعنا مجاز القرآن في دراسات المحدثين من الجامعيين بخاصة، فكان لتعيين العلامة أمين الخولي استاذا للدارسات القرآنية والبلاغية في جامعة القاهرة الأثر المهم في قلب المفاهيم التدريسية، ونقد المناهج العلمية، فجمع بين أصالة القديم، ومنهج التجديد في العطاء الحديث، فألف بينهما في نسق متكامل أثمر الدراسات القرآنية الموضوعية، والبحوث البلاغية المتنوعة في إدخال القرآن عنصرا في رسائل الماجستير والدكتوراه فكان هذا أول الغيث، وقد فتح بهذا الباب مغالق البلاغة الحقة في القرآن الكريم، وأطلق منافذ الإعجاز الفنية من أسر النظرات القديمة، فالإعجاز ليس هي وحدها بل هي وغيرها من مجموعة الصور الجمالة في القرآن.

هذه الجهود أثمرت أكلها حينما وجدت آذانا واعية، وأسماعا مصغية لدى الشباب المتحفز في جامعات الوطن العربي، فاتسمت بحوثهم بإشارات قيمة لجملة من صنوف البيان القرآني تعتمد المنهج البلاغي روحا ومسلكا في الكشف عن وجوه الإعجاز تارة، وبالدعوة الى خوض عباب القرآن، وكشف كنوزه وأسراره بالتدريس تارة أخرى.

2. في الفصل الثاني وقفنا عند مجاز القرآن وأبعاده الموضوعية فبحثنا بتركيز ما يأتي:

أولا: حقيقة المجاز بين اللغة والاصطلاح فكان المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمدا من الأصل اللغوي، إذ كشف عبد القاهر العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز في مجانسة المعنى المنقول له اللفظ في دلالته على المعنى الثانوي من المناسبة فيه للمعنى الأولي، وهذا يعني وجود علاقة متينة بين التعريف للمجاز لغة واصطلاحا لتقارب الأسر اللغوي للمعنى الاصطلاحي، وانبثاق الحد الاصطلاحي من المعنى اللغوي، فالاجتياز هو الأصل للمعنيين، فكما يجتاز الإنسان من موضع الى موضع، كذلك تجتاز الكلمة موقعها الأصلي وتتخطاه الى موقع جديد.

ثانيا: ووجدنا مجاز القرآن في الذروة من البيان العربي، وثبت لنا وقوعه دون أدنى شك في كوكبة كبيرة من ألفاظه وتراكيبه تعد في قمة الاستعمال البياني، ورددنا الحمل على الظاهر في جملة صالحة من التعبير القرأني المتوالي في مجالات متعددة من نصوصه الكريمة، وحققنا القول في مقولة إنكار المجاز القرآني، والتطرف في حمل ما ورد في القرآن على المجاز وإن كان حقيقة لا تجوز معها، ولاحظنا الخلاف التقليدي في هذا الملحظ، وتحقق لنا من خلال مناقشة الآراء، والاستناد الى التعبير النصي للقرآن أن المورد المجزي في القرآن جاء لتحقيق المعنى المراد، فأضاف الى الحقيقة في الألفاظ إضاءة جديدة، لولاه لم تكن متميزة بهذا الشكل البياني الأصيل.

ثالثا: وبعد هذه الحقيقة الفنية، وجدنا أن مجاز القرآن لا يختلف عن المجاز العربي بعامة، فهو في القرأن نوعان: مجاز عقلي ومجاز لغوي، بغض النظر عن التفريعات الأخرى التي لا تتعدى حدود التقسيم العام، أو هي جزئيات تابعة لكليّ المجاز باعتباره عقليا ولغويا. وبحثنا بعض الإضافات في المسميات عند القدامى، وبعد جهد جهيد أرجعناهما الى هذين الأصلين في دور النضج البلاغي، وكان ذلك جهدا فريدا قائما على أساس الاستدلال البديهي تارة والقياس المنطقي تارة أخرى، مستندا في كل ذلك الى التعبير القرآني ليس غير.

رابعا: انتهينا أن مجاز القرآن: عقلي ولغوي، فاللغوي ما استفيد فهمه عن طريق اللغة وأهل اللسان، بما يتبادر إليه الذهن العربي عند الإطلاق في نقل اللفظ من معناه الأصل الى المعنى الجديد. والعقلي ما استفيد فهمه عن طريق العقل، وسبيل الفطرة في الذائقة من خلال جملة من الأحكام الطارئة التي تجري على الجملة ويحكم بها العقل عند الإسناد. والقرآن قد استوعب نماذج النوعين حينما نحاول استخراجهما من بحره المحيط.

3. في الفصل الثالث: أقمنا عند مجاز القرآن وخصائصه الفنية فكان فصلا متميزا يستند الى الكشف المضني، والاستقراء الدقيق، والملاحظة السليمة النافذة، بدأناه بخصائص المجاز الفنية في مراعاة المناسبة المانعة من الخلط المرتجل تارة، والضابطة من المجاز المشوه تارة أخرى، فكانت النقلة في خصائص المجاز نقلة حضارية وإنسانية الى مناخ أوسع شمولا، وأبلغ تعبيرا، إذ تشيع هذه النقلة في النص القرآني: الحياة في الجماد، والبهجة في الأحياء، وتضيف الحسّ الى الكائنات، فيصورها القرآن جميعا: ناطقة تتكلم، ورائدة تتصرف، فضلا عن سلامة الألفاظ في المؤدى، وصيانة الذات القدسية عن الجوارح، وتعاليه عن الحركة والانتقال. ولدى اقتران الغرض الفني في القرآن بالغرض الديني، لمسنا خصائص المجاز الفنية في القرآن الكريم فكانت:

أولا: الخصائص الأسلوبية في إدراك اللفظ بذاته حروفا وأصواتا وهيأة في الشكل، وإدراكه بمعناه، فالمعنى هو نفسه لم ينقص منه شيء، ولكنه أضيف إليه إطار أسلوبي جديد حينما حاول هذا اللفظ مغادرة مناخه الأولي الى مناخ أوسع، وحينما أريد به الاستعمال المجازي بتطور ذهني نقله من موقع الى موقع آخر، وزحف بمعجمه من حدث إجتماعي معين له دلالته المركزية في الذهن الى حدث أكبر، هذه التركيبة الجديدة يستغني بها المتلقي عن كل التركيبات المعقدة الأخر في لغات العالم، فالإيجاز من جهة، والتطوير من جهة أخرى، والاكتفاء عن تركيب جديد من جهة ثالثة، كلها خصائص أسلوبية في مجاز القرآن، فكان حلقة الوصل بين الذات المعبرة وإرادتها المتجددة في المعاني المستحدثة، وهذا هو التطور اللغوي في اللغة الواحدة ذات الطابع العالمي في السيرورة والانتشار، فقد تجيء صفة الأحداث في إسنادها مبنية للمجهول، مع أن الفاعل الحقيقي معروف وهو الله تعالى، ولكن النص لا يتعلق بمحدث الأفعال وموجدها، وإنما العناية متجهة نحو الحدث، وقد يسند الفعل لغير فاعله الحقيقي، تأكيدا على هذه الظاهرة، وكأن الفاعل غير الحقيقي قد توصل اليه ففعله، وإن لم يكن لهذا الفاعل حول أو إرادة، هذا وغيره يمثل لنا عمق الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن.

ثانيا: الخصائص النفسية في مسايرة النص القرآني للنفس الإنسانية في مجالي الترغيب والترهيب، فإن أريدت الصورة وهي متناهية في الجمال والأناقة وجدنا المجاز القرآني يقود اللفظ الى ما هو أرجح معنى، وأرق حسنا في حالة النقل مما كان عليه قبلها، وإن أراد صورة متداعية في القبح ساق اللفظ الى ما يمثل تلك الصورة بما هو أردأ منه في صيغته الحقيقية، فكان ذلك مجالا فريدا، في تكييف النص الأدبي نحو المراد المولوي. وحديث النفس في مجاز القرآن ذو أبعاد تشكل جزءا قويما من خصائصه الفنية في عدة نماذج بيانية، أشار إليها المبحث بتلبث وعلى مكث.

ثالثا: الخصائص العقلية في الإيحاء والتلويح والرصد لما وراء الظاهر ضمن إشارات دقيقة في ألوان وخطوط وظلال تضج بالحركة، ولكنها تحمل أكثر من معناها الظاهري في كثير من الأبعاد التي توهم ببعض الشبه لدى الساذجين، ومهمة المجاز العقلية كفلت درء هذه الشبهات بما تسخره من طاقات بيانية كاشفة، وبما تستلهمه من مناخ عقلي يقود الذهن الى ميناء سليم. وهكذا الحال فيما شأنه الرصد العقلي، أو إثارة مكنونات العقل الإنساني بلحاظ ما، فتثير الحوافز، وتنبه المدارك، وتحرك المشاعر، في نماذج وأمثال قرآنية متعددة تتبعنا أهمها وأعمقها.

4. في الفصل الرابع، وهو بعنوان المجاز العقلي في القرآن، بحثنا بإشباع:

أولا: تشخيص المجاز العقلي في القرآن وعند العرب، ويعود كشف هذا النوع الى عبد القاهر فهو مبتدعه ومبتكره من خلال نظره الثاقب في مجاز القرآن العقلي، وهو مسميه بأسمائه المختلفة السمات والمتحدة المسميات.

ثانيا: المجاز العقلي في القرآن بين الإثبات والإسناد، لأن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من جهة العقل، وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من جهة اللغة. وإنما يصار الى مجاز القرآن العقلي لأن جملة من الملاحظ المجازية لا يمكن أن تنسب الى اللغة في دلالتها لأنها حقيقة الألفاظ، وإنما يرجع فيها الى العقل في إشارته في الحمل على الإرادة المجازية في الإسناد الحملي، ولا علاقة لذلك بالألفاظ ذاتها دون إسنادها، فلا هو من باب اللفظ المفرد فينظر بعين الاستعارة، ولا في الكلمة نقل عن الأصل اللغوي فينظر له بلحاظ المجاز المرسل، وإنما يكتشف باعتبار طرفيه في الإسناد وقد يكونان حقيقيين، وقد يكونان مجازيين، وقد يكون أحدهما حقيقيا والآخر مجازيا، ولا يدرك المجاز العقلي إلا من اقتران الطرفين مجتمعين.

ثالثا: قرينة المجاز العقلي في القرآن، فهو وإن كان متعلقا بالإسناد، ولكن لا بد له من قرينة دالة عليه لفظية أو غير لفظية، وقد يعبر عن اللفظية بأنها مقالية، وعن غير اللفظية بأنها حالية، وكلاهما مما يدرك بهما العقلي من المجاز. والقرينة غير العلاقة، فالقرينة دالة على المجاز والعلاقة السبب الداعي الى استعمال المجاز.

رابعا: علاقة المجاز العقلي، وقد تفنن بتقسيماتها البلاغيون التقليديون مجاراة للمناخ الجغرافي في البيئة المنطقية، وعصر الفلسفة وعلم الكلام، ولم نشأ أن نعيد هذا المعجم المشحون بالتفصيلات الأعجمية، لان القرآن لم يكن ناظرا إليها بل كان متنقلا بالذهن العربي الى آفاق من التعبير الموحي والبيان الطلق بما يلائم الطبيعة الإنسانية، دون هذه المسميات التي صنعها علماء البلاغة، فكان عملنا متفقا مع هذه النظرة في مجموعة الممارسات المجازية في القرآن.

5. في الفصل الخامس، وهو بعنوان: المجاز اللغوي في القرآن تحدثنا عن المجاز اللغوي بين الاستعارة والإرسال وعن انتشار المجاز المرسل في القرآن وكشفنا طبيعة العلاقة في المجاز اللغوي المرسل بالمنهج الذي بحثنا فيه الفصل المتقدم.

كان هذا إيذانا بجملة من نتائج البحث، الذي وقفنا عنده طويلا، ولم ننحرف في منهجية عن صلب موضوعه إلا ريثما نعود إليه، نسأل الله تعالى أن يتقبله منا بأحسن قبوله، وأن ينفع به الباحثين والدارسين، وأن يجعله ذخيرة لنا يوم الدين.