أولاً: المجاز اللغوي بين الاستعارة والمجاز المرسل

ليس جديدا أن يكون عبد القاهر (ت: 471 هـ) هو أول من تنبه شخصيا، ونبه الآخرين الى الفروق المميزة بين الاستعارة والمجاز المرسل في حديثه عن المجاز اللغوي، حينما قرن المجاز بالاستعارة، باعتبار علاقته غير المشابهة، وعلاقة الاستعارة هي المشابهة(1).

وقد سبق لنا القول فيما مضى من هذا الكتاب(2): إن المجاز اللغوي ذو فرعين في التقسيم البلاغي، لأن مجاله رحاب اللغة في الانتقال بالألفاظ من معنى الى معنى، مع وجود القرينة الدالة على المعنى الجديد.

وحديثنا هو القرينة في علاقتها، فإن كانت العلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي هي المشابهة، فالمجاز يسمى إستعارة، وإن كانت العلاقة هي غير المشابهة، فهو المجاز المرسل.

ويتضح هذا التقسيم من خلال بلورة الحد الاصطلاحي لكل من الاستعارة المجاز المرسل بإيجاز حد الاستعارة كما يراه أبو عثمان الجاحظ (ت: 255 هـ) هو تسمية الشيء باسم غيره إذا قام مقامه(3).

وبديهي من تعريفه عنايته بالجانب اللغوي لعدم تجلي حدود هذه المعالم إصطلاحيا في عصره، وإن انطبق تعريفه على جزء المعنى الإصطلاحي.

وهناك حدود متقاربة المعنى، ومتشابكة المبنى في تعريف الاستعارة عند كل من:

- ابن قتيبة (ت: 276 هـ)(4)

- ثعلب (ت: 291 هـ)(5)

- ابن المعتز (ت: 296 هـ)(6)

- القاضي الجرجاني (ت: 366 هـ)(7)

- علي بن عيسى الرماني (ت: 386 هـ)(8)

وهذه التعريفات وما تبعها من التفريعات متشابهة في الإشارة الى المصطلح حسنا، والى العناية بالموروث اللغوي للاستعارة حينا آخر(9).

ومع هذا فإننا نميل الى الكشف العلمي فيما أبانه: ابو الهلال العسكري (ت: 395 هـ) في تعامله مع المصطلح الاستعاري معاملة جديدة. إذ أعطى التعريف بوضوح مع التمثيل القرآني الدقيق فقال عن الاستعارة أنها: "نقل العبارة عن موضع استعمالها في أصل اللغة الى غيره لغرض وذلك الغرض إما أن يكون: شرح المعنى وفضل الإبانة عنه؛ أو تأكيده والمبالغة فيه، أو الإشارة اليه بالقليل من اللفظ؛ أو تحسين المعرض الذي يبرز فيه.

وهذه الأوصاف موجودة في الاستعارة المصيبة، ولولا أن الاستعارة المصيبة تتضمن ما لا تتضمنه الحقيقة من زيادة فائدة، لكانت الحقيقة أولى منها استعمالا "(10).

إن هذه الإبانة في تلخيص النقل للمعنى من لفظ الى لفظ، وإن عبّر عنه بالعبارة تجوزا، واستحداث معنى جديد في اللفظ، وجعل الكلمة ذات دلالة لم تجعل لها في أصل اللغة، وإضافة الفائدة في النقل الاستعاري بدلا من الاستعمال الحقيقي، إنما هو جوهر الاستعارة وروحها، فضلا عن كونه كشفا جديدا متوازنا في صنوف الاستعارة وشؤونها؛ وهو متناسب مع ما أكده فيما ضربه من نموذج قرآني رفيع، شاهدا على ذلك بقوله: "والشاهد على أن للاستعارة المصيبة من الموقع ما ليس للحقيقة أن قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ (القلم/42) أبلغ وأحسن وأدخل مما قصد له من قوله لو قال: يوم يكشف عن شدة الأمر، وأن كان المعنيان واحدا، ألا ترى أنك تقول لمن تحتاج الى الجد في أمره: شمر عن ساقك فيه، وأشدد حيازمك له. فيكون هذا القول أوكد في نفسه من قولك: جد في أمرك"(11).

وما ذهب اليه أبو هلال منتظم لما وجدنا عليه أرسطوا من ذي قبل حينما عدّ الاستعارة: من أعظم الأساليب الفنية، وأنها آية الوهبة التي لا يمكن تعلمها من الآخرين(12). ويرى عبد القاهر (ت: 471 هـ) في الاستعارة: أنك تثبت بها معنى لا يعرف السامع ذلك المعنى من اللفظ، ولكنه يعرفه من معنى اللفظ(13).

وهو هنا يتحدث عن عائدية الاستعارة وفضلها، ويعرفها بقوله: "الاستعارة أن تريد تشبيه الشيء وتظهره، وتجيء الى اسم المشبه به فتعيره المشبه وتجريه عليه "(14). ويتضح من عايدية الاستعارة وتعريفها عند عبد القاهر: أن هناك لفظا ومعنى، وهناك معنى اللفظ، والاستعارة تختص بالألفاظ، ولكنه قد أشرك المضمون بالإضافة الى الشكل في جلاء الصورة الاستعارية، أو المعنى في إدراك مؤدي اللفظ، وكأنه يريد بذلك: معنى المعنى، أو المعاني الثانوية في الألفاظ.

حقا لقد استفاد هؤلاء من منهج عبد القاهر في تحديد الاستعارة. وقد خلص لنا مما أرساه أبو هلال، وما أبانه عبد القاهر: أن الاستعارة جارية في الألفاظ على سبيل النقل اللغوي لغرض تشبيهي. أما المجاز المرسل فحقيقته جاءت على أساس عدم ارتباطه بعنصر المشابهة في ملابسته للمعنى بغير التشبيه، وتسميته جاءت لخلوه من القيود وسلامته من الحدود، فالإرسال لغة: الإطلاق. وأرسله بمعنى أطلقه، لا شك في هذا، ولما كانت الاستعارة مقيدة بادعاء أن المشبه من جنس المشبه به، كان المجاز المرسل مطلقا من هذا القيد، وحرا من هذا الأرتباط، فهو طليق مرسل وكفى.

ويبدوا أن السكاكي (ت: 626 هـ) هو أول من أطلق هذه التسمية عليه(15). وأن كان من سبقه قد أدرك الفرق بين الاستعارة وهذا النوع من المجاز، ولكنه لم ينص عليه إلا من خلال علاقة غير المشابهة كما هي الحال عند عبد القاهر(16).

وجاء الخطيب القزويني (ت: 739 هـ) فتابع السكاكي في التسمية والتعريف معا، فقال عنه: "وهو ما كانت العلاقة بين ما استعمل فيه، وما وضع له ملابسة غير التشبيه، كاليد إذا استعملت في النعمة، لأن من شأنها أن تصدر عن الجارحة، ومنها تصل الى المقصود بها، ويشترط أن يكون في الكلام إشارة الى المولي لها، فلا يقال: اتسعت اليد في البلد، أو اقتنيت يدا، كما يقال: اتسعت النعمة في البلد، أو اقتنيت نعمة، وإنما يقال: جلّت يده عندي، وكثرت أياديه لدي ونحو ذلك "(17).

وفي هذا التعريف والتنظير تبدو العلاقة بين الاستعمال الحقيقي والمعنى المجازي، وتظهر الفروق المميزة بين الاستعارة والمجاز المرسل. فبالنسبة لليد، وهي وإن كانت جارحة لا تتصرف إلا بأمر من الإنسان نفسه، إلا أنها تستعمل فيما يصدر عنها من العطاء في مقام النعمة، والبطش في مقام القوة، والضرب عند التأديب والانتقام، وبها يتعلق الأخذ والعطاء، والمنع والدفع، والصد والرد، وكل صادر عنها بعلاقة ومناسبة غير المشابهة لدى الاستعمال المجازي، وإنما بالأثر والقوة والقدرة والوطئة، ولا مشابهة بين هذه الآثار وبين الجارحة نفسها ماهية وحقيقة.

لهذا فقد كان اختيار علاقة غير المشابهة للمجاز المرسل، وعلاقة المشابهة للاستعارة، اختيار موفقا لدى التفريق بينهما، فكما كانت الملابسة بين اليد والنعمة واضحة في غير المشابهة بين الحقيقتين، فكذلك ملابسة المشابهة واضحة في الاستعمال الاستعاري بين المشبه والمشبه به في كلمة "نسلخ" من قوله تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ﴾ (يس/37).

فشبه سبحانه سلخ النهار من الليل، بسلخ جلد الشاة، والسلخ حقيقة إنما يستعمل في هذا المعنى ونظائره فكما كانت الشاة وجلدها ملتحمين ففك التحامهما بالسلخ، فأصبح كل منهما حقيقة قائمة بذاتها، فكذلك فك التحام الليل بالنهار فأصبح كل منهما حقيقة قائمة بذاتها، وأجرى على هذه العملية لفظ السلخ بلحاظ المشابهة بين الحقيقتين في الالتحام قبل السلخ والانفصال التام بعد السلخ، فكما هو هناك فهو هنا، وذلك جار على الاستعمال المجازي أيضا، ولكن بمنظور المشابهة، وهذه هي علاقة المشابهة التي تختص بالاستعارة، وما تقدم علاقة غير المشابهة التي تختص بالمجاز المرسل.


1ظ: ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن: 102.

2ثعلب، قواعد الشعر: 46.

3ظ: ابن المعتز، البديع: 2.

4ظ: القاضي الجرجاني، الوساطة بين المتنبي وخصومه: 41.

5ظ: الرماني، النكت في إعجاز القرآن، ضمن ثلاث رسائل: 79.

6ظ: تفصيلات ذلك عند المؤلف: أصول البيان العربي: 90.

7العسكري، الصناعتين: 274.

8العسكري، الصناعتين: 274.

9ظ: شكري عياد، أرسوط طاليس، فن الشعر: 176.

10عبد القاهر، دلائل الإعجاز: 31.

11المصدر نفسه: 53.

12ظ: الرازي، نهاية الإيجاز: 82.

13ظ: السكاكي، مفتاح العلوم: 174.

14ظ: ابن الأثير، المثل السائر: 1/ 365.

15ظ: السكاكي، مفتاح العلوم: 195 وما بعدها.

16ظ: عبد القاهر، أسرار البلاغة: 376.

17القزويني، الإيضاح: 280، 397 تحقيق الخفاجي.