ثالثًا: قرينة المجاز العقلي في القرآن
وانتشار المجاز العقلي في القرآن يوحي بأصالة كنهه البلاغي دون ريب في نص هو أرقى النصوص العربية على الإطلاق، وهو وإن كان متعلقا بالإسناد الجملي لا بألفاظ مجردة، ولكن لا بد من قرينة تدلنا على إرادة الاستعمال المجازي دون الحقيقي، وقد قسموا هذه القرينة الدالة على ذلك الى:
1. قرينة لفظية، وتستفاد من إطلاق اللفظ فتدرك بها موضع المجاز باعتبارات لفظية تنطق بها الكلمات، حتى أنك بعد التحقيق لا يخامرك شك في إرادة المجاز، وأمثلة ذلك كثيرة في القرآن الكريم:
أ- قوله تعالى: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (هود/44). لقد عبر سبحانه وتعالى عن إرادته في الكينونة المطلقة، على سبيل المجاز ب- " قيل " وإنما هي أمر كائن لا محالة، وكانت قرينة هذا المجاز خطاب من لا يعقل، وهو الجماد الذي لا يخاطب " يا أرض " و " يا سماء " إذ هو ليس مما يعي الخطاب، أو يدرك الإمثال، فكان ذلك قرينة لفظية في دلالة هذا المجاز العقلي. ولك أن تقول أن الله قادر على أن يخاطب الجماد، ويجيب ذلك الجماد، فيكون ذلك على سبيل الحقيقة، وحتى لو حصل هذا على سبيل الإعجاز، فلا مانع منه، ويبقى المدرك مجازيا لأنه في العموم خطاب لمن لا يعقل ولا يجيب ولا يسمع ولا يتكلم، وإن سمع وأجاب وأمتثل على سبيل الإعجاز.
ب - وفي قوله تعالى: ﴿فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ (الكهف/77). يتجلى المجاز العقلي مستشرفا إذ الجدار ليس كائنا ذا إرادة، ولا هو بمريد شأن من يريد في الفعل أو الترك، ولكنه البعد المجازي الذي وهب الحياة للجماد، وأشاع الحسّ في الكائنات، وكذلك التعبير الموحي الذي أضفى صفة من يصدر عنه الفعل على من لا يصدر عنه الفعل، وحقيقة من يريد على من لا يريد في الأصل. وكانت قرينة هذا المجاز إرادة هذا الجماد وهو لا يريد. وتلك طريقة العرب المثلى في هذا المنظار، وأنشدوا للحارثي: (1) " يرد الرمح صدر أبي براء.. ويرغب عن دماء بني عقيل" فإرادة الرمح ورغبته هنا كإرادة الجدار في الآية سواء بسواء. قال أبو عبيدة: " وليس للحائط إرادة، ولا للموات، ولكنه إذا كان في هذه الحال من ربه فهو إرادته "(2). ولم تخرج هذه الألفاظ جميعها عن حقيقتها الأولى في اللغة، ولكنها خرجت الى المجاز في الإسناد، والقرينة فيها جميعا هي التي أفادت مجازا عقليا دلت عليه قرينة مقالية، لأن الجدار في واقع الحال لا يريد، والرمح لا يريد ولا يرغب، والزمان لا يهم بالإحسان واقعا، وإن هم به مجازا.
ج- وفي هذا السياق يجب أن نلاحظ ما لاحظه ابن قتيبة (ت: 276 هـ) من ذي قبل، من أن هذه الأفعال ونظائرها - ونعني بها أفعال المجاز كما في الأمثلة السابقة - أفعال لا تخرج منها المصادر، ولا تؤكد بالتكرار، فلا تقول: أراد الحائط أن يسقط إرادة شديدة، فليس هذا من كلام العرب، فإذا جاء التوكيد بالمصدر علمت أن ذلك مبني على الحقيقة، والله تعالى يقول: ﴿وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ (النساء/164) فوكد بالمصدر معنى الكلام، ونفى عنه المجاز. وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ (النحل/40) فوكد القول بالتكرار، ووكد المعنى بإنما، فكان ذلك على سبيل الحقيقة لا المجاز(3). وهكذا الحال فيما سبق مما أنشدوا، فلا يقال: " أراد الرمح صدر أبي براء إرادة قوية، ولا همّ الزمان بالإحسان هما موكدا.
2. قرينة غير لفظية، وتستفاد من الجملة باستحالة صدور ذلك الشيء من فاعله عقلا، وإنما يكون من أمره، وفي نطاق مقدوره ودائرته، وقد ورد ذلك في القرآن العظيم بأكثر من موضع، وتكرر وجوده في مختلف الجزئيات بأكبر من ملحظ:
أ- قوله تعالى: ﴿وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ (الفجر/22). المجيء هنا لأمر الله وقدرته وقوته وإرادته، وليس لذاته القدسية، لأنه لا يوصف بالذات المتنقلة: القادمة او الذاهبة او المتحركة. تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وإنما هذا على سبيل من قوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ﴾ (غافر/78). وقوله تعالى: (﴿يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ﴾ (هود/76) وقوله تعالى: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (النحل/33).
وهنا نكتة بلاغية جليلة، فالله سبحانه وتعالى كما لا يجوز عليه المجيء بالوجه الذي بيناه، فإن أمره لا يمكن أن يأتي أو يجيء إلا على وجه مجازي محض، فأمر الله تعالى يصدر، ولا يأتي، وينفذ ولا يجيء، ويطبق ولا يناقش، ولما جاء التعبير عنه بالقرآن بالإتيان تارة، والمجيء تارة أخرى، علمنا هنا من دلالة النص الفنية، وبذائقة فطرية خالصة أن تأكيد صدوره وكونه قدرا مقضيا، قد أكد بالإتيان والمجيء للتعبير عن حتمية وقوعه جزما، وتجسيد نفاذه فورا حتى شخص وكأنه قادم آت متمثل قائم.
ب - وفي كل من قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ (طه/5). ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء﴾ (فصلت/11). ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ (الحديد/4). مجاز عقلي تقتضيه ضرورة أن الله سبحانه وتعالى ليس قالبا حسيا، ولا مثالا مرئيا، ولا جسما متحركا يعرض للتنقل كأجسامنا، فاستواؤه هنا سيطرته وقدرته وإحاطته حتى لا يفوته شيء، كما يستوي صاحب الملك على أطراف مملكته، إذ ليس لمعنى الأستواء بالنسبة اليه تعالى تطبيق خارجي، أو مدرك وجودي ينطبق على ذاته القدسية، كانطباقه على إستوائنا وسيطرتنا من إحكام للأمر، أو ضبط للشؤون، بأسباب وحراس أو قوى وأجهزة مادية، وإنما ذلك بالنسبة للباري عزّ وجلّ فوق مدرك عقولنا إذ هو حقيقة تعبيرية عن الإحاطة المطلقة التي لا تفوتها الجزئيات غير المرئية، وتنظير للاستقطاب التام الذي لا يحتاج معه الى مساعد أو معين أو موقت، وتمثيل لاستيلائه على العوالم الكونية، والمكنونات العلوية والسفلية دون النظر في الوسائل والأسباب والمعدات، فيكفي أنه استولى على هذه الشؤون بهذه الشمولية في سيطرة فعلية أفادها معنى الاستواء بالنسبة اليه، وهذا لا يمانع أن يكون لفظ العرش في الآيتين قد جاء على طريقة المجاز اللغوي في نقله عن الأصل، للدلالة على الملك المطلق غير المحدود مراعاة لإدراكنا المحدود في تصور العرش حينما يجلس عليه ذو الملك وهو في أطراف دولته، أو جالسا على سرير مملكته، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وما يقال هنا يقال بالنسبة لقوله تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ (البقرة/255) وذلك بلحاظ لفظ " الكرسي " فالعرب في سنن كلامها أن تعبر عن مظاهر الحكم، وملامح الملك، وتوليه الأمور " الكرسي " وإن كان صاحبهما جالسا على الأرض، أو ليس لديه كرسي أصلا، فهو مستول على سرير الملك وكرسي الحكم، وهذا جار عند العرب الى اليوم، وقد يشاركهم فيه جملة من العالم في الشرق والغرب بهذا الفهم وهذا التعبير ليس غير، وهم يريدون ما تريد الآية من الإطلاق لدى التبادر الذهني العام، إذ ليس لله كرسي يجلس عليه هذه صفته بالكبر والاستطالة والتوسع، ولكنه ترحيل باللفظ الى المعنى المعبر عن مدى ملكه، واتساع مملكته، وترامي أطرف حكمه في المناحي السماوية والأرضية، والسياق القرآني يساعد على هذا الحكم العقلي، لنفي الجسمية والتشبيه والمكانية عنه عزّ وجلّ.
وهذه السعة المدركة عقليا بضم العبارة بعضها لبعض، لا تنافي أن يكون لفظ " الكرسي " بمفرده، من المجاز اللغوي، أو على سبيل الأستعارة، ليلتقي المجازان العقلي في العبارة، واللغوي في المفردة في التعبير عن تمكنه وسلطانه سبحانه وتعالى.
ج- وفي قوله تعالى: ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ﴾ (الرحمن/31)، نلمس مجازا عقليا نستفيده لا بقرينة لفظية مقالية، بل بقرينة معنوية حالية، أدركها العقل، وسلّمت بها الفطرة من خلال أحكام الألفاظ في العبارة، وسياق الإسناد في التركيب، فالله سبحانه وتعالى لا يشغله أمر عن أمر، ولا يلهيه شأن عن شأن، فهو قائم لا يسهو، وإنما أراد بهذا التفرغ، التوجه نحو الثقلين توجه المتفرغ الذي لا يعنيه غير هذا الموضوع في الوقت الذي يدير فيه جميع العالم، ويستوعب جميع صنوف التدبير، وذلك على طريقة العرب في سنن الكلام لدى التعبير عن التهيؤ والجد والتشمير، فهو قاصد إليهم بعد الترك في فسحة الحياة ومحيط بهم الإمهال قبل الموت، لا أنه كان مشغولا ففرغ، أو في كائنة وانتهى منها؛ وإنما هو المجاز بعينه الذي أشاع روح الرهبة في الوعيد، وانتهى بأجراس النقمة في المجازاة، دون شغل أو عمل صارفين.
د- وتبقى ميزة التعبير القرآني مقترنة بالأسلوب العربي المبين، في وضع المجاز بموضعه المناسب من الفن القولي، حتى يكتسب ذلك التعبير في مجازيته العقلية طائفة مشرقة من الاعتبارات الإيحائية، التي تلتصق بالمعاني الأصلية، أو هي مقاربة ومجاورة لها، كما هي الحال في استعمالات المجاز العقلي في القرآن، بما يتوصل اليه بقرينة ذهنية نصل معها الى مناخ مجازيته الفعلية بما أضفته من مسلك دقيق قد لا تتوصل اليه الا الأفهام الثاقبة، والطباع الرقيقة، كما في قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ﴾ (الطارق/11) ﴿وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ﴾ (الطارق/12) ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ﴾ (الطارق/13) ﴿وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ﴾ (الطارق/14).
فأنت ترى أن الفصل والهزل، وهما ههنا وصفان للقرآن الكريم، والوصفية هنا قد تكون أدل على المعنى المراد من المصدرية؛ وذلك لأن الوصفية قد تغطي الدلالة الإيحائية مضافا الى الدلالة المركزية بأن: هذا الوصف فضلا عن كونه مصدرا فهو مما يصلح أن يوصف به هذا الكتاب العظيم، فيكون التأكيد على جديته وحاكميته أرقى من خلال التعبير النافذ، فيكون ذلك ألصق به، والمراد منه أشد وضوحا من إرادة المصدر بمفرده، فاشتمل على المعنيين بوقت واحد، وهذا أبرز معلم من معالم الاستعمال المجازي في القرآن.
وقد عقب أستاذنا الجليل المرحوم الدكتور أحمد عبد الستار الجواري على هذا الملحظ الدقيق فقال مشيرا للنموذج القرآني الآنف: " ولعل من أهم الأسباب التي ميزت أساليب العربية بمثل هذه المزية قدم اللسان العربي، وطول تداوله، وكثرة تصرفه في المعاني، بحيث تكتسب الألفاظ المفردة فيه معاني مضافة مجاورة لمعانيها الأصلية، فتمتد هذه فضل امتداد، حتى تصير المعاني المجاورة، بعد لأي وطول إلاف، كأنها جزء من تلك المعاني الأصلية، أو قرين مقارن مساو لها في الدلالة، وذلك هو الذي يعبر عنه علماء البلاغة بقولهم في (المجاز العقلي) أنه: إسناد الفعل أو ما هو بمنزلته(4).
وما يقال هنا يقال بالنسبة لقوله تعالى: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ﴾ (الدخان/29). ومعلوم أن إسناد البكاء الى السماء والأرض معا، وليس من شأن السماء البكاء، ولا من طبيعة الأرض أن تكون باكية، دلالة على إرادة الاستعمال المجازي عقلا، فالمساء على حقيقتها والبكاء على حقيقته وكذلك الأرض، ووصف السماء والأرض بأنهما يبكيان، أو نفي بكائهما كما في الآية، يقتضي أن هذا الإسناد ألصق في تصور الفجيعة، وأبلغ في تصوير النازلة، وذلك حينما أخذ هؤلاء على عجل دون أهبة أو استعداد. ونظير هذا كثير في المجاز العقلي من القرآن.
1أحمد عبد الستار الجواري، نحو المعاني: 124.
2ظ: المؤلف، أصول البيان العربي: 48 - 56.
3الراغب، المفردات في غريب القرآن: 225.
4ظ: الطوسي: البيان في تفسير القرآن: 1/ 285.