أولاً: حقيقة المجاز بين اللغة والاصطلاح
يبدو أن المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمد من الأصل اللغوي، فلقد نقل ابن منظور (ت: 711 هـ) قول اللغويين: "جزت الطريق، وجاز الموضع جوازا ومجازا: سار فيه وسلكه، وجاوزت الموضع بمعنى جزته، والمجاز والمجازة الموضع (1).
وكان عبد القاهر الجرجاني (ت: 471 هـ) قد كشف العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز، فالمجاز عنده: " مفعل من جاز الشيء يجوزه إذا تعداه، وإذا عدل باللفظ عما نوجبه أصل اللغة، وصف بأنه مجاز على معنى أنهم جازوا به موضعه الأصلي، أو جاز هو مكان الذي وضع به أولا "(2).
وهو لايكتفي بذلك حتى يحدد العلاقة بين الأصل والفرع في عملية العدول عن أصل اللغة، أو النقل الذي يثبت إرادة المجاز لهذا اللفظ أو ذاك دون الاستعمال الحقيقي فيقول: " ثم إعلم بعد: إن في إطلاق المجاز على اللفظ المنقول عن أصله شرطا؛ وهو أن الأسم يقع لما تقول أنه مجاز فيه بسبب بينه وبين الذي تجعله فيه "(3).
وهذا يعني مضافا لما سبق: مجانسة المعنى المنقول له اللفظ الى معناه الأولي حيث توافر المناسبة في وجه النقل كتسمية الاعتدال غصنا، والقوام بانا، والحلم طودا، لافتراع الغصن استقامة، ورشاقة البان طولا، ورسوخ الطود ثباتا. فجاء النقل متساوقا في مناسبته مع المعاني الجديدة دون النبو عنها في شيء.
والطريف عند عبد القاهر أن يعود ليؤكد المناسبة القائمة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق المجاز، متناولا قضية الوضع الحقيقي، وتجاوزه الى المعنى الثانوي المستجد في المجاز، فيقول: " وأما المجاز فكل كلمة أريد بها غير ما وقعت له في وضع واضعها لملاحظة بين الثاني والأول، فهي مجاز، وإن شئت قلت:
كل كلمة جزت بها. ما وقعت له في وضع الواضع الى ما لم توضع له من غير أن تستأنف فيها وضعا لملاحظة بين ما تجوز إليه وبين أصلها الذي وضعت له في وضع واضعها، فهي مجاز"(4).
وهذا التعقيب لرأي عبد القاهر في الموضوع ليس عبثا، بل منطلق من اعتبار عبد القاهر مرجعا في هذا النص، ومصدرا من مصادر التفريق بين الجزئيات المتقاربة في الحدود والتعريفات ومتمرسا في اكتشاف ما بين الأصول والفروع من أواصر وصلات.
ومن هنا يبدوا أن التقرير اللغوي متحدر من التبادر الذهني للفظ المجاز، وأن التحديد الاصطلاحي له نابع من الأصل اللغوي، وذلك فيما وضعه أبو يعقوب السكاكي (ت: 626 هـ) موضع القانون الذي لا يعدل ولا يناقش، فيقول:
"لمجاز هنا هو الكلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة له بالتحقيق استعمالا في الغير بالنسبة الى نوع حقيقتها مع قرينة مانعة عن إرادة معناه في ذلك النوع "(5). وهذا التحديد - كما تراه - لا يخلو من بعد منطقي في التعبير، وأثر علم المنطق واضح في تخريجات السكاكي في هذا وسواه.
ويبدوا أن اللغويين والبلاغيين معا، لم يأتوا بجديد في الموضوع، وإنما تمايزوا بالأداء المختلف، واتفقوا على الأصل، وقد سبقهم أبو الفتح عثمان بن جني (ت: 392 هـ) في التوصل الى كنه هذا الأصل حينما عرف الحقيقة ببساطة، وحدد المجاز بما يقابلها بقوله: " فالحقيقة ما أقر في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة، والمجاز: ما كان بضد ذلك "(6).
ويترجح عندي وجود علاقة قائمة بين التعريف لغة واصطلاحا؛ وذلك لتقارب الأسر اللغوي للمعنى الاصطلاحي، وانبثاق الحد الاصطلاحي عنه، وهو الاجتياز والتخطي من موضع الى موضع، وهذا ما يكشف عن سر العلاقة المدعاة بين استعمال المجاز لغة واستعماله اصطلاحا، فكما يجتاز الإنسان، ويتنقل في خطاه من موضع الى موضع، فكذلك تجتاز الكلمة وتتخطى حدودها بمرونتها الاستعمالية من موقع الى موقع، ويتجاوز اللفظ محله من معنى الى معنى، مع إرادة المعنى الجديد بقرينة تدل على ذلك؛ فيكون أصل الوضع باقيا على معناه اللغوي، والنقل إضافة لغوية جديدة في معنى جديد، وبهذا يبدو لنا أن المجاز يتضمن عملية تطوير لدلالة اللفظ المنقول المعنى، وتحميله المعنى المستحدث بما لا يستوعبه اللفظ نفسه لو ترك واصل وضعه الحقيقي (7).
وكان التحرر من الضيق اللفظي، والانطلاق في مجالات الخيال، والتأثر بالوجدان النفسي، والحنين الى العاطفة الصادقة، والاتساع في رحاب اللغة، والتوجه نحو الحياة الحرة الطليقة: أساس هذا الاستعمال، فرارا من الجمود، وتهربا من التقوقع في فلك واحد، حول محور واحد.
وفي ضوء هذا الفهم جديدا كان أو مسبوقا، فإن ما يقال عن المجاز في تعبيره الموحي بالمعاني الجديدة، وتركيزه على استكناه الصور الإبداعية، فإنه ينطبق على التشبيه والاستعارة باعتبارهما استعمالين مجازيين، مع فرض وجود العلاقة الدالة على المعنى المستحدث.
وليس هذا الفهم جديدا، بل هو مفهوم الأوائل للاستعمال المجازي، فالجاحظ (ت: 255 هـ) كمعاصريه يعبر عن الاستعارة والتشبيه والتمثيل جميعا بالمجاز، ويبدو هذا جليا في أغلب استعمالات الجاحظ البيانية التي يطلق عليها اسم المجاز، وهي عبارة عن مجموعة العناصر البلاغية في النص الأدبي التي تكون المفهوم النقدي الحديث للصور الفنية (8).
ولا يعتبر هذا رجوعا الى الوراء في التماس حقائق الأشياء، ولكنه إفادة موضوعية من القديم لرصد الجديد وتحقيقه، لذلك فقد يلتبس الأمر بين المجاز والتشبيه والاستعارة، ولكن التمييز الدقيق يقتضي الفصل والتفريق بين هذه الظواهر البيانية المتجاورة، ويتم ذلك بالنظر الى الكلام العربي عن كثب:
أ - فإن أريد فيه التوسع مطلقا دون سواه فهو المجاز.
ب - وإن أريد فيه التشبيه التام في ذكر المشبه والمشبه به وأداة التشبيه مع وجود وجه الشبه، أو حذف أداة التشبيه مع ذكر وجه الشبه، أو انعدام أوجه التشبيه من جهة وتوافقه من جهة أخرى مع ذكر أداة التشبيه، أو حذفهما معا فهو التشبيه دون ريب.
ج - وإن أريد التشبيه في ذكر الشبه وحذف المشبه به؛ فهو الاستعارة(9).
إذن فالتحديد المانع هو الذي يقتضي الفصل بين هذه المتقاربات، لأن في المجاز توسعا ونقلا وتجوزا في الألفاظ يختلف عما يراه في التشبيه والاستعارة.
وعلى هذا فالمجاز حدث لغوي فضلا عن كونه عنصرا بلاغيا نابضا بالاستنارة والعطاء، هذا الحدث يفسر لنا تطور اللغة العربية الفصحى بتطور دلالة ألفاظها على المعاني الجديدة، والمعاني الجديدة في عملية ابتداعها لا يمكن إدراكها الا بالتعبير عنها، والتصوير اللفظي لها، وذلك لا يتحدد بزمن أو بيئة أو إقليم، وإنما هو متسع للعربية في أعصارها وأدوارها وتواجدها، وتنقلها في تخطي حدودها الجغرافية الى بقاع الأرض المختلفة، والمجاز خير وسيلة للتعبير عن هذا الاتساع بما يضيفه من قرائن، وبما يضفيه من علاقات لغوية مبتكرة، توازن بين الألفاظ والمعاني في الشكل والمضمون، وتلائم بين عمليتي الإبداع والتجديد في دلالة اللفظ الواحد للخروج في اللغة الى ميدان أوسع. والتطلع بها نحو أفق رحيب. ولما كان القرآن العظيم اساس العربية ودستورها، كان المجاز فيه أحد قسيمي الكلام، وهما: الحقيقة والمجاز. وسنرصد في الصفحات التالية وقوعه في القرآن بشكل لا يقبل الشك استقراء ومجانسة وبيانا.
1المصدر نفسه: 365.
2عبد القاهر، أسرار البلاغة: 325.
3السكاكي، مفتاح العلوم: 170.
4ابن جني، الخصائص: 2/442.
5ظ: المؤلف، أصول البيان العربي: 35 |
6الجاحظ في استعمالاته لإطلاق المجاز، الحيوان 5: 23 ـ 34.
7ظ: المؤلف، أصول البيان العربي: 40.
8أحمد مطلوب، فنون بلاغية: 84 وانظر مصادره.
9ظ: عبد القاهر، أسرار البلاغة: 362.