ثالثا:مجاز القرآن في مرحلة التأصيل
يبدو أن إبن قتيبة (ت: 276 هـ) كان سباقا الى بحث المجاز في ضوء القرآن في كتابه " تأويل مشكل القرآن " ولكن التحقيق في الموضوع لديه لم يمثل عملا مستقلا في هذا الباب، بل شكّل بابا في الكتاب. وكان الدور الذي قام به الشريف الرضي (ت: 406 هـ) دورا حافلا، إذ كتب " تلخيص البيان في مجازات القرآن " فكان بحثا متفردا ومتخصصا في الموضوع.
وجاء الشيخ عبد القاهر الجرجاني (ت: 472 هـ) فسلط الأضواء على المجاز في كتابيه " دلائل الإعجاز " و " أسرار البلاغة " فكان المنظّر البياني في التطبيق القرآني للمجاز، حتى بلغ البحث المجازي على يديه مرحلة النضج العلمي والتجديد البلاغي، فعاد كلا منسجما، وقالبا واحدا متجانسا بالمعنى الاصطلاحي الدقيق لمفهوم المجاز.
وأتى بعد هؤلاء جار الله محمود بن عمر الزمخشري (ت: 538 هـ) فاعترف من بحري الرضي والجرجاني، ما قوّم به أوده، وصحّح منهجه، وأضاف دقة الأختيار، ولطف التنظير. فكان الزمخشري وهؤلاء الأقطاب الثلاثة قد دفعوا بمجاز القرآن فنا الى مرحلة التأصيل، وبلغوا به شوطا الى قمة التأهيل، فعاد معلما بارزا في التشخيص، وعلما قائما يشار إليه بالبنان.
وسنقتصر في الحديث عند هذه المرحلة على هؤلاء الأعلام ضمن حدود مقتضبة، ولمسات إشارية عاجلة، مهمتها إعلام الجهود، وإنارة المعالم ليس غير.
ولا يعني التأكيد على هؤلاء الأعلام: الغض من منزلة الآخرين، أو بخس البلاغيين حقوقهم، ولكن التوسع في " مجاز القرآن " عند إبن قتيبة والشريف الرضي وعبد القاهر والزمخشري، قد فاق في مرحلة التأصيل، واستقرار المصطلح المجازي، حدود الإشارة والاختصار عند غيرهم، وهو ما وقفنا عليه، لهذا فإن حديثنا عنهم أمس صلة، وألصق لحمة، بمرحلة التأصيل منه عند سواهم.
ومع هذا فقد أشرنا في نهاية هذا المبحث الى طائفة من الأعلام الذين ساهموا بإمكانات متفاوتة في هذا المجال:
1 - عقد إبن قتيبة (ت: 276 هـ) بابا خاصا للمجاز في كتابه: " تأويل مشكل القرآن"(1). ويبدوا أن الهدف من ذلك كان كلاميا، لأن أكثر غلط المتأولين كان من جهة المجاز في التأويل، فتشعبت بهم الطرق، واختلفت النحل، وكان بإمكان هؤلاء أن يرجعوا الى سعة المجاز، فيحسم الأمر، وتتبسط الدلالات، لا أن يحملوا ماورد منه في القرآن على الحقيقة فتضلّهم الشبهات.
وقد عمد أبن قتيبة لأبعاض من آيات القرآن الكريم، وشرح في ضوئها ما يذهب اليه أهل التأويل القائلين بالحقيقة دون المجاز، ليعود بذلك الى دائرة المجاز فينفي ما قالوا جملة وتفصيلا. وسيمر علينا في مجال التطبيق لآيات القرآن المزيد من رده على القائلين ببطلان المجاز في القرآن، ومستشهدا على صحة القول به من خلال الأستعمال الميداني عند العرب في حياتهم اليومية لألفاظ متداولة، وعبارات قائمة لا يمكن تأويله إلا بالمجاز.
ولكن الملاحظ عند أبن قتيبة أنه قد يخلط الحقيقة بالمجاز، فتحار باعتباره المجاز أحيانا، والحقيقة مجازا، ويحشر لذلك جملة من الآيات القرآنية دليلا على الموضوع. فهو كما يرى أستاذنا الدكتور بدوي طبانة: لا يرى في إرادة الحقيقة عجبا في مثل قوله تعالى للسماء والأرض:
﴿اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ (فصلت/11) وقولهما: ﴿أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ (فصلت/11). أو قوله لجهنم ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ﴾ (ق/30) فتقول: ﴿وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ﴾ (ق/30). لأن الله تبارك وتعالى ينطق الجلود والأيدي والأرجل ويسخّر الجبال والطير بالتسبيح(2).
والحق أن ابن قتيبة صاحب مدرسة إجتهادية في استنباط المجاز من القرآن، فهو يجيل فكره، ويستعمل حدسه البلاغي في استكناه المجاز القرآني ليحقق مذهبه الكلامي في إثبات المجاز خلافا لفهم الطاعنين بوقوعه في القرآن.
ففي قوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ (مريم/96) يرى أنه ليس كما يتأولون، وإنما أراد أنه يجعل لهم في قلوب العباد محبة، فأنت ترى المخلص المجتهد محببا الى البر والفاجر، مهيبا، مذكورا بالجميل، ونحوه قول الله سبحانه وتعالى في قصة موسى عليه السلام: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ (طه/39)، لم يرد في هذا الموضوع أني أحببتك، وإن كان يحبه، وإنما أراد أنه حببه إلى القلوب، وقرّبه من النفوس، فكان ذلك سببا لنجاته من فرعون، حتى استحياه في السنة التي يقتل فيها الولدان(3).
ويستمر أين قتيبة في عمليتي الاستنباط والاستدلال عليه من خلال ذائقته الفنية، وتمرسه في طلاقة البيان العربي، فيذهب بالمجاز الى ابعد حدوده الاصطلاحية، وكأنه فنّ قد تأصّل من ذي قبل، وهذا من مميزات ابن قتيبة في استقراء البعد المجازي.
ولعل من طريف ما استدلّ عليه بسجيته الفطرية قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا﴾ (النبأ/9). فيذهب أن ليس السبات هنا النوم، فيكون معناه فجعلنا نومكم نوما، ولكن السبات الراحة، أي جعلنا النوم راحة لأبدانكم، ومنه قيل: يوم السبت، لأن الخلق اجتمع يوم الجمعة، وكان الفراغ منه يوم السبت، فقيل لبني إسرائيل: استريحوا في هذا اليوم، ولا تعملوا شيئا، فسمي يوم السبت، أي: يوم الراحة. وأصل السبت التمدد، ومن تمدد استراح، ومنه قيل: رجل مسبوت، يقال: سبتت المرأة شعرها، إذا نفضته من العقص وأرسلته، ثم قد يسمى النوم سباتا، لأنه بالتمدد يكون(4).
بهذا التذوق الدلالي، والنظر الموضوعي، فهم ابن قتيبة مجاز القرآن، فهل كان من المؤصلين له، هذا ما اعتقده بحدود غير مبالغ فيها، شاهدها عشرات الصفحات في تأويل مشكل القرآن وقد خصصها لمجاز القرآن بما يعد من أروع البحوث المنجزة في الموضوع، وستقرأه في جزئيات متناثرة في هذا الكتاب، قد سبق الى نقطتين مهمتين في خدمة مجاز القرآن:
الأولى: إشارته منذ عهد مبكر الى مسألة الطعن على القرآن في وقوع المجاز فيه، ومناقشته ذلك ورده على الطاعنين بالموروث المجازي عند العرب وفي القرآن الكريم.
الثانية: إيراده مفردات علمي المعاني والبيان في صدر كتابه بأسمائها الاصطلاحية الدقيقة التي تعارف عليها المتأخرون عن عصره، وإن استخدام كلمة المجاز بمفهومها العام(5). وزيادة على ما تقدم فقد جعل المجاز قسيما للحقيقة، لأنه قسم الكلام الى حقيقة ومجاز(6). وذهب الى أن أكثر الكلام إنما يقع في باب الاستعارة(7). وهكذا شأن كل ما هو أصيل أن يعطيك الدقة قدر المستطاع.
2 - وليس جديدا أن يكون أبو الحسن الشريف الرضي (ت: 406 هـ) عالما موسوعيا في المجاز بعامة، والمجاز النبوي والقرآني بخاصة، فقد كان ضليعا ببلاغة العرب، وعلوم القرآن، واللغة، والشعر، والنثر، وحسن اختياره لطائفة هائلة من خطب وحكم ورسائل أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام، وتسميته لذلك ب- " نهج البلاغة "(8) وتعليقاته وشروحه ووقفاته ولمساته البلاغية عليه، دليل ريادته الأولى في الفن البلاغي، وتمرسه الاستقرائي لأبعاده المختلفة.
وكتابه القيم تلخيص البيان في مجازات القرآن (9) حافل بالمجاز اللغوي من القرآن وضروبه المتشعبة، ولكنه يؤكد فيه " الاستعارة " والاستعارة جزء من المجاز تكون علاقة المشابهة؛ وهكذا الاستعارة في القرآن.
ويرى الدكتور بدوي طبانة أن نقصا كبيرا قد طرأ على الكتاب من أوله، فلا تقرأ في بدئه ما اعتدنا رؤية مثله في أكثر المؤلفات من خطبة الكتاب، وما حفز صاحبه على تأليفه، ومنهجه في التأليف، ولكن أول هذا المطبوع تمام لكلام سابق يتعلق بالمجاز الذي في أوائل سورة البقرة الى قوله تعالى ﴿وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ﴾ (التوبة/87).
وكان يمكن لو عثر على هذا المفقودة، أن يتبين بالنص معنى المجاز عند الشريف الرضي، وعلى كل حال فإنه يقصر الدراسة على البحث في مجازات القرآن، أي الألفاظ المستعملة في غير ما وضعت له، وأكثر كلامه عن الاستعارات الواردة في القرآن(10).
ويبدو ان الأمر قد التبس على الدكتور بدوي طبانة في بدايات المطبوع من تلخيص البيان، والذي يتضح بجلاء أن البداية الموجودة كانت من قوله تعالى ﴿خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ﴾ (البقرة/7)، وهي الآية السابعة من البقرة، و﴿وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ﴾ (التوبة/87) هي الآية السابعة والثمانون من التوبة، وكانت شاهدا على ما أورده الشريف الرضي من معنى الختم ومعنى الطبع، " لأن الطبع من الطابع، والختم من الخاتم، وهما بمعنى واحد "(11) فكان كلام الرضي متعلقا بمجاز الختم الى قوله تعالى ﴿ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ﴾ (البقرة/7).
وطريقة الشريف الرضي في معالجاته لمجاز القرآن في تلخيص البيان إستقراء القرآن على ترتيبه المصحفي، فيتعقب الآيات في السور القرآنية بحسب تسلسلها آية آية فإذا لمح المجاز وقف عنده وقفة الفاحص الخبير، وأجرى لقلمه العنان في حدود الأستعمال المجازي دون إيجاز مخل أو إطناب مملّ كما يقال.
وهو في ذلك منظر ومطبّق في آن واحد، ومعتدّ برأيه البياني دون تردد، فهو يورد المجاز ويشرحه ويستشهد عليه، ويناقش فيه، ويثبت القول الصراح باجتهاده القائم على أساس الكشف والإبداع والتبادر الذهني من خلال عمقه اللغوي، ومنهجه البلاغي، ومخزونه الثقافي المستفيض.
وكان هذا العمل سبقا فريدا الى الموضوع، لم يشاركه فيه أحد قبله، وقد سار على منواله من جاء بعده ولكن في حدود مقتضبة لم تنهض بكتاب مستقل فيما أعلم.
من هنا كان " تلخيص البيان " أول كتاب كامل ألف لغرض واحد، وهو متابعة المجازات والاستعارات في كلام الله كله سورة سورة وآية آية، ومن هنا كانت القيمة العلمية لهذا الكتاب الذي لم يؤلف مثله لهذا الغرض. فهو يقوم في التراث العربي الإسلامي وحده شاهدا على أن الشريف الرضي خطا أول خطوة في التأليف في مجازات القرآن واستعاراته تأليفا مستقلا بذاته، ولم يأت عرضا في خلال كتاب، أو بابا من أبواب مصنّف "(12).
وإنك لتجد في منهجه هذا شذرات تلتقط وأنت ضنين بها.
1 - ففي قوله تعالى ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة/115) فإنه ينفي الجسمية والجهة عن الباري تعالى ويوجهها نحو المجاز بقوله " أي جهة التقرب الى الله، والطريق الدالة عليه، ونواحي مقاصده ومعتمداته الهادية إليه "(13).
2 - وفي قوله تعالى ﴿وفي قوله تعالى اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (البقرة/257).
فيذهب الرضي أن المراد منها " إخراج المؤمنين من الكفر الى الأيمان ومن الغي الى الرشاد، ومن عمياء الجهل الى بصائر العلم. وكل ما في القرآن من ذكر الإخراج من الظلمات الى النور فالمراد به ماذكرنا. وذلك من أحسن التشبيهات. لأن الكفر كالظلمة التي يتسكع فيها الخابط ويضل القاصد. والأيمان كالنور الذي يؤمه الحائر، ويهتدي به الجائر، لأن عاقبة الأيمان مضيئة بالأيمان والثواب، وعاقبة الكفر مظلمة بالجحيم والعذاب. وفي لسانهم: وصف الجهل بالعمى والعمه، ووصف العلم بالبصر والجلية "(14).
3 - ويحمل الرضي قوله تعالى ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (هود/44) على الاستعمال المجازي في صدور الأمر منه تعالى، ويقول: " لأن الأرض والسماء لايصح أن تؤمرا أو تخاطبا. لأن الأمر والخطاب لا يكونان إلا لمن يعقل، ولا يتوجهان إلا لمن يعي ويفهم. فالمراد إذن بذلك، الأخبار عن عظيم قدرة الله سبحانه، وسرعة مضي أمره، ونفاذ تدبيره نحو قوله ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ (النحل/40)، إخبار عن وقوع أوامره من غير معاناة ولا كلفة، ولا لغوب ولا مشقة.
وفي هذا الكلام أيضا فائدة أخرى لطيفة. وهو أن قوله سبحانه ﴿يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ﴾ (هود/44) أبلغ من قوله: يا أرض اذهبي بمائك. لأن في الابتلاع دليلا على إذهاب الماء بسرعة... وكذلك الكلام في قوله سبحانه ﴿ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي ﴾ (هود/44) لأن لفظ الأقلاع ههنا أبلغ من لفظ الإنجلاء. لأن في الإقلاع أيضا معنى الإسراع بإزالة السحاب، كما قلنا في الابتلاع. وذلك أدل على نفاذ القدرة، وطواعية الأمور، من غير وقفة ولا لبثة، هذا الى ما في المزاوجة بين اللفظين من البلاغة العجيبة والفصاحة الشريفة "(15).
وفي قوله تعالى ﴿فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ﴾ (القمر/11) ﴿وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ (القمر/12) يقول الشريف الرضي المراد - والله أعلم - بتفتيح أبواب السماء تسهيل سبل الأمطار حتى لا يحبسها حابس، ولا يلفتها لافت. مفهوم ذلك إزالة العوائق عن مجاري العيون من السماء، حتى تصير بمنزلة حبيس فتح عنه باب، أو معقول أطلق عنه عقال. وقوله ﴿ فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ (القمر/12)أي: اختلط ماء الأمطار المنهمرة، بماء العيون المتفجرة، فالتقى ماءاهما على ماقدره الله سبحانه، من غير زيادة ولا نقصان. وهذا من أفصح الكلام، وأوقع العبارات عن هذه الحال "(16).
5 - وأظهر مما تقدم في مجاز القرآن عند الشريف الرضي نسبة الخشوع والتصدع الى الجبل في قوله تعالى: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الحشر/21) قال الشريف الرضي: "وهذا القول على سبيل المجاز. والمعنى أن الجبل لو كان مما يعي القرآن ويعرف البيان لخشع في سماعه، ولتصدع من عظم شأنه، وعلى غلظ أجرامه، وخشونة أكنافه. فالإنسان أحق بذلك منه، إذ كان واعيا لقوارعه، وعالما بصوادعه"(17).
وهذا الملحظ الدقيق في مجازية الآية عند الشريف الرضي مصدره: أن لازم الخشوع والتصدع والخشية، والإدراك والمعرفة والسماع، والجبل لا يسمع ولا يعي، فتأمل أيها الإنسان وتفكّر بما ضربه الله لك من الأمثال.
6 - قلنا فيما سبق أن أغلب ما أورده الرضي في تلخيص البيان عبارة عما يقابل الحقيقة في الأستعمال، والاستعارة عندهم كالمجاز باعتبارها استعمالا مجازيا وخلاف الأصل اللغوي، لهذا كان " تلخيص البيان " حافلا في صنوف الاستعارات القرآنية ولعل من أبلغ ما أورده تعقيبا وشرحا وبيانا، تلك الاستعارات التي كشف فيها عن ذائقته الفطرية في استحياء المراد القرآني وسأكتفي بإيراد بعض النماذج في ذلك:
أ - في قوله تعالى ﴿وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ﴾ (الأنبياء/93) قال الرضي: " وهذه استعارة. والمراد بها: أنهم تفرقوا في الأهواء واختلفوا في الآراء، وتقسمتهم المذاهب، وتشعبت بهم الولائج ومع ذلك فجميعهم راجع الى الله سبحانه، على أحد وجهين: إما أن يكون رجوعا في الدنيا. فيكون المعنى: انهم وإن اختلفوا في الاعتقادات صائرون الى الإقرار بأن الله سبحانه خالقهم ورازقهم، ومصرفهم ومدبرهم. أو يكون ذلك رجوعا في الآخرة، فيكون المعنى أنهم راجعون الى الدار التي جعلها الله تعالى مكان الجزاء على الأعمال، وموفّى الثواب والعقاب، والى حيث لا يحكم فيهم، ولا يملك أمرهم إلا الله سبحانه.
وشبّه تخالفهم في المذاهب، وتفرقهم في الطرائق، مع أن أصلهم واحد، وخالقهم واحد، بقوم كانت بينهم، وسائل متناسجة، وعلائق متشابكة، ثم تباعدوا تباعدا قطع تلك العلائق، وشذب تلك الوصائل، فصاروا أخيافا مختلفين، وأوزاعا مفترقين "(18).
ب - وفي قوله تعالى ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ (الحج/11) يحمل الرضي الآية على التصوير الاستعاري، ويعطيك معنى عبادة المرء ربه على حرف، تشبيها بالقائم على جرف هار، وحرف هاو. يقول: " والمراد بها - والله أعلم - صفة الإنسان المضطرب الدين، الضعيف اليقين، الذي لم تثبت في الحق قدمه، ولا استمرت عليه مريرته، فأوهى شبهة تعرض له ينقاد معها، ويفارق دينه لها، تشبيها بالقائم على حرف مهواة، فأدنى عارض يزلقه، وأضعف دافع يطرحه "(19).
ج - وفي قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الحشر/9)، تبرز استقلالية الشريف الرضي في الرأي، وشخصيته في النّقد، واعتداده بصميم بلاغة العرب فيقول: "وهذه استعارة لأن تبوؤ الدار هو استيطانها والتمكن فيها، ولا يصح حمل ذلك على حقيقته في الإيمان، فلا بد إذن من حمله على المجاز والاتساع. فيكون المعنى أنهم استقروا في الإيمان كاستقرارهم في الأوطان. وهذا من صميم البلاغة، ولباب الفصاحة، وقد زاد اللفظ المستعار ههنا معنى الكلام رونقا. إلا ترى كم بين قولنا: استقروا في الإيمان، وبين قولنا: تبوؤا. وأنا أقول أبدا: إن الألفاظ خدم للمعاني، لأنها تعمل في تحسين معارضها، وتنميق مطالعها "(20).
وحديثنا عن " تلخيص البيان " قد يطول لو استرسلنا فيه، وفيما قدمناه من نماذج غناء في إقرار منهج هذه الدراسة القائمة على سبيل الإشارة والتلميح العابر لجهود المؤصلين. والأمر المنظور لدى الشريف الرضي في تلخيص البيان يتجلى في عدة حقائق نشير إليها:
1. استقلاليتة في المنهج والفكر، وأولويته في أولية هذا المنهج البلاغي كتابا مستقلا، وكيانا قائما في مجاز القرآن.
2. تورعه في ذات الله عن الجزم في المعنى القرآني، إذ طالما نجده يبدأ تعقيبه على الآية بعبارة: والله أعلم.
3. هذه العبارة المشرقة، وهذا الأسلوب الحديث، وذلك التدافع في الألفاظ، وكأنك تقرأ فيه بلاغي اليوم لا بلاغي القرن الرابع الهجري.
لهذا فقد كان سليما ما قرره الدكتور محمد عبد الغني حسين في مقارنته بينه وبين سابقيه: أبي عبيدة وابن قتيبة، في التعبير البلاغي، والأداء الأدبي، والذائقة الفنية، فقال: "وخذ أي آية شئت من كتاب الله العزيز، وتتبعها عند أبي عبيدة في مجازه، وعند ابن قتيبة في مشكله، وعند الشريف الرضي في تلخيص بيانه، فإنك مؤمن معنا في النهاية بأن سليل البيت النبوي الكريم، كان أغزر الثلاثة بيانا، وأفصحهم لسانا، وأبلغهم في التعبير عن مرامي القرآن بعبارة أدبية مشرقة ناصعة، يتضح فيها ذوق الأديب، ورقة الشاعر، وحسن البليغ، أكثر مما يتضح فيها فقه اللغوي، وعلم النحوي"(21).
3 - وأما الحديث عن الشيخ عبد القاهر الجرجاني (ت: 471 هـ) فقد سبق لنا القول أنه مطور البحث البلاغي، وواضع أصوله الفينة(22) في كتابين الجليلين: " دلائل الإعجاز "(23)، و " أسرار البلاغة "(24). فقد سبر فيهما أغوار الفن القولي شرحا وإيضاحا وتطبيقا، اعتنى باللباب من هذا العلم، وأكد فيه على الجانب الحي النابض، وابتعد عن الفهم العشوائي، والخلط الغوغائي بين النظرية البلاغية وتطبيقاتها، لم يعتن بالحدود المقيدة في علم المنطق، ولم يعر للقوقعة اللفظية أهمية مطلقا، كان وكده منصبا حول ما يقدمه من نتاج فياض إبداعي ينهض بهذا الفن الأصيل الى أوج عظمته ويدفع به الى ذروة مشاركته في بناء الهرم الحضاري، فماذا يجني الباحث والمتعلم، وهذا العلم نفسه، من الجفاف في الحد، او الغلظة في الرسم، أو الصرامة المضنية في القاعدة.
انظر إليه وهو يتحدث عن أصالة " علم البيان " والمجاز أساسه وقاعدته الصلبة ببيان ساحر، ومنطق جزل، وهو يصرح باسمه اصطلاحا فيقول: " ثم إنك لا ترى علما هو أرسخ أصلا، وأبسق فرعا، وأحلى جنى، وأعذب وردا، وأكرم نتاجا وأنور سراجا من " علم البيان " الذي لولاه لم تر لسانا يحوك الوشي، ويصوغ الحلي، ويلفظ الدرر، وينفث السحر ويقري الشهد، ويريك بدائع من الزهر، ويجنيك الحلو اليانع من الثمر، والذي لولا تحفيه بالعلوم وعنايته بها، وتصويره إياها، لبقيت كامنة مستورة، ولما استبنت لها - يد الدهر - صورة، ولاستمر السرار بأهلتها، واستولى الخفاء على جملتها، الى فوائد لا يدركها الإحصاء، ومحاسن لا يحصرها الاستقصاء "(25).
لقد بحث عبد القاهر في أسرار البلاغة مفردات " علم البيان " وفي طليعتها المجاز، وبحث في دلائل الإعجاز أغلب مفرجات علم المعاني، وكرّ أيضا على المجاز. والسبب في هذا واصح لأن المجاز القرآني من أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز.
فالمجاز عنده في أسرار البلاغة نوعان: مجاز عن طريق اللغة، وهو المجاز اللغوي، ومضماره الاستعارة والكلمة المفردة. ومجاز عن طريق المعنى والمعقول، وهو المجاز الحكمي، وتوصف به الجمل في التأليف والإسناد(26).
وحد المجاز الحكمي " أن كل جملة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضعه من العقل لضرب من التأويل فهي مجاز(27).
وقد فرّق بين المجاز العقلي واللغوي في الحدود والاستعمال والإرادة، وقال: " أنه إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من العقل، وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من اللغة "(28). وكل من المجازين اللغوي والعقلي لا يدرك الا في التركيب، ووراء كل منهما معان غير ما يفهم من تكوين الجملة النحوي في الإيحاءات النفسية التي يستند إليها التصوير القرآني (29).
وهذا التقسيم لم يكن واضحا بدقته هذه قبل عبد القاهر بل كان المجاز بجملته يشمل صور البيان بعامة، وقد يتخصص بالاستعارة والمجاز كما هي الحال عند الشريف الرضي كما أسلفنا.
وقد استنار بهذه التسمية كل من فخر الدين الرازي (ت: 606 هـ) وأبي يعقوب السكاكي (ت: 626 هـ) بل هما قد نسخا رأي عبد القاهر نسخا حرفيا.
فالرازي يقسم المجاز الى قسمين: مجاز في الإثبات، ومجاز في المثبت،وهما العقلي واللغوي، وعنده أن المجاز في الإثبات إنما يقع في الجملة، وأن المجاز في المثبت إنما يقع في المفرد(30).
والسكاكي يقسم المجاز الى قسمين: لغوي وعقلي، واللغوي الى قسمين: خال من الفائدة، ومتضمن لها ويسميها الاستعارة. إلا أنه يغض النظر عن المجاز العقلي، ويؤكد على اللغوي، وكأنه يميل الى عدّه أساس المجاز (31).
وفي " دلائل الإعجاز " نجد عبد القاهر يحقق القول الدقيق في المجال الحكمي عنده، والعقلي عنده وعند غيره ممّن تبعه فيه حتى في التسمية، وهو برؤيته الثاقبة يلمس أن وراء الكناية والاستعارة في البيان مجازا آخر غير المجاز اللغوي، وهو المجاز الحكمي المستفاد من طريق العقل في أحكام تجريها على اللفظ وهو متروك على ظاهره(32).
والقول عنده في التفريق بين المجاز والاستعارة، أن المجاز هو الاستعارة، لأنه ليس هو بشيء غيرها، وإنما الفرق أن " المجاز " أعم، من حيث أن كل استعارة مجاز، وليس كل مجاز استعارة (33).
ان الوعي المجازي الذي أدركه عبد القاهر، وميّز فروقه وخصائصه من أبلغ ما توصل إليه العمق البلاغي للمجاز، ومن أفضل ما أنتجه النقد الموضوعي في صياغة المنهج المتطور لدقائق الاصطلاح المجازي. وستجد - فيما بعد - في كل من فصلي " المجاز العقلي في القرآن " و " المجاز اللغوي في القرآن " سبرا لنظريته البلاغية في المجاز القرآني، وإشارة مغنية لطائفة من آرائه التطبيقية في الموضوع، فهناك موضعها الطبيعي من البحث.
والذي نؤكد عليه هنا أن تنظير عبد القاهر في المجاز جاء طافحا بآيات القرآن المجيد فهي أصل، وجاء الشعر والأمثال فرعا فيه، لأنه معنيّ ببيان إعجاز القرآن، فهو يستدل عليه بآياته الكريمة. انظر إليه وهو يتحدث عن المجاز العقلي.
وهذا الضرب من المجاز كثير في القرآن، فمنه قوله تعالى: ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (إبراهيم/25)، وقوله عز اسمه: ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ (الأنفال/2)، وفي الأخرى: ﴿ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ (التوبة/124)، وقوله: ﴿وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾ (الزلزلة/2)، وقوله عزّ وجلّ: ﴿حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (الأعراف/57).
أثبت الفعل في جميع ذلك لما لا يثبت له فعل إذا رجعنا الى المعقول على معنى السبب، وإلا فمعلوم أن النخلة ليست تحدث الأكل، ولا الآيات توجد العلم في قلب السامع لها، ولا الأرض تخرج الكامن في بطنها من الأثقال، ولكن إذا حدثت فيها الحركة بقدرة الله ظهر ما كنز فيها وأودع جوفها.
والنكتة أن المجاز لم يكن مجازا لأنه إثبات الحكم لغير مستحقه بل لأنه أثبت لما لا يستحق، تشبيها وردا له إلى ما يستحق، وأنه ينظر من هذا الى ذاك، وإثباته ما أثبت للفرع الذي ليس بمستحق يتضمن الإثبات للأصل الذي هو المستحق...(34).
4 - وإذا جئنا إلى دور جار الله الزمخشري (ت: 358 هـ) فسنرى له اليد الطولى في هذا المضمار، وبحدود كبيرة مما أفاده من تجارب الشريف الرضي (ت: 406 هـ) المجازية، وما استقاه من ينبوع عبد القاهر (ت: 471 هـ) البلاغي.
وكان الزمخشري يهدف في جهوده المجازية إلى أمرين:
الأول: هو الهدف المركزي، وهو كشف بلاغة القرآن وتأكيد إعجازه، وإثبات تميزه في التعبير على كل نصّ أرضي وسماويّ.
الثاني: الهدف الهامشي في دعم الفكر المعتزلي القائل باتساع المجاز في القرآن وعند العرب بمنظور كلامي.
وأنا أذهب مذهبه في كلا الأمرين بأغلب وجهات نظره البيانية، لا على اساس معتزلي، فلا علاقة لي بهذا الملحظ، بل من خلال الذائقة البلاغية والفنية في تقويم النصوص العربية العليا ليس غير.
للزمخشري في تطوير نظرية المجاز القائمة في القرآن والمأثور العربي كتابان مهمان هما: (أساس البلاغة، والكشّاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل). أما الأول، فقد رتبه على أساس جديد من الأعمال المعجمية الرائدة، فاتبع طريقة " الألفباء " في ترتيب مفرداته اللغوية، وهو يورد الكلمة الواحدة في استعمالها الحقيقي تارة، وباستعمالها المجازي تارة أخرى، ويعطي معنى كل منهما، والذي يبدوا لنا من عمله هذا أنه يميل الى أن معظم مفردات العربية مجاز وان الباقي هو الحقيقة؛ وهو بهذا يحقق جهدا تراثيا عظيما إزاء هذه الغاية، ويقوم بفهرسة إحصائية لمجاز اللغة، ولدى ذكر خصائص كتابه الفنية نجده يشير الى هذه الحقيقة بقوله: "ومنها تأسيس قوانين فصل الخطاب والكلام الفصيح، بإفراد المجاز عن الحقيقة، والكناية عن التصريح".
ولم ينس الغرض من تأليف هذا الكتاب في بيان بلاغة القرآن هدفا رئيسا، والوقوف عند وجوه إعجازه، ولطائف أسراره فقال:
" ولما أنزل الله تعالى كتابه مختصا من بين الكتب السماوية بصفة البلاغة التي تقطعت عليها أعناق العتاق السبّق، وونت عنها خطا الجياد القرّح، كان الموفق من العلماء الأعلام... من كانت مطامح نظره، ومطارح فكره؛ الجهات التي توصل الى تبين مراسم البلغاء، والعثور على مناظم الفصحاء؛ والمخابرة بين متداولات ألفاظهم، متعاورات أقوالهم،... والنظر فيما كان الناظر فيه على وجوه الإعجاز أوقف، وبأسراره ولطائفه أعرف، حتى يكون صدر يقينه أثلج، وسهم احتجاجه أفلج، وحتى يقال: هو من علم البيان حظي، وفهمه فيه جاحظي. والى هذا الصوب ذهب عبد الله الفقير اليه محمود بن عمر الزمخشري، عفا الله تعالى عنه في تصنيف كتاب أساس البلاغة".
ويرى الأستاذ أمين الخولي في تصديره لأساس البلاغة: أن الزمخشري لم يستقص تتبع المجازات اللغوية بالنص عليها في أساسه، الذي زعم له نفسه هذه الميزة (35). وقد يكون هذا الرأي صحيحا بحدود، إذ لم يكن أساس البلاغة موسوعيا كبقية المعاجم المطولة، ولكنه بعمله قد جاء بشيء جديد من ناحيتين:
الأولى: التأكيد على الاستعمال المجازي في القرآن وعند العرب في معجمه هذا في أغلب المفردات وهو ما لم يفعله سواه.
الثانية: أنه اتبع الطريقة المعجمية السمحة بالنسبة لطلاب البحث العلمي، فالتزم طريقة " الألفباء " كما صنع الراغب (ت: 502 هـ) في المفردات من ذي قبل، ورفض طريقة المخارج في دقتها، والأبنية في تعقيدها، والباب والفصل في كل حرف كما هو شأن غيره.
"وقد رتب الكتاب على أشهر ترتيب متداولا، وأسهله متناولا، يهجم فيه الطالب على طلبته موضوعة على طرف الثمام وحبل الذراع، من غير أن يحتاج في التقتير عنها الى الإيجاف والإيضاح، والى النظر فيما لا يوصل الا بإعمال الفكر اليه، وفيما دقق النظر فيه الخليل وسيبويه "(36).
بهذا يختتم الزمخشري مقدمة كتابه، ومهمته فيه التيسير، وتهيئة المناخ العلمي للبحث دون عناء، وهو إنجاز ضخم من الناحيتين العلمية والفنية. وأما الكشاف، فهو التفسير البياني الذي تلمس فيه مدى جمال المجاز القرآني، وطلاوة رونقه، وعذوبة مخارجه، ودقائق استعمالاته، أو هو الكتاب الذي تبصر به المجاز حيا نابضا متكلما بمعناه الاصطلاحي ومناخه الأدبي معا، في ضوء ما أشار إليه ابن قتيبة، وما ابتكره الشريف الرضي وما أسسه عبد القاهر الجرجاني.
لقد فتح الزمخشري في الكشاف عمق دراسة رقيقة مهذبة في المجاز العربي بعامة، والقرآني بخاصة، فزاد ما شاءت له الزيادة من نكت بلاغية، وصيغ جمالية، ومعان إعجازية، وسيرورة بيانية، عاد فيها الكشاف كنزا لا تفنى فرائده، وبحرا فنيا لا تدرك سواحله.
وقد تجلى في الكشاف ما أضافه الزمخشري من دلالات جمالية في نظم المعاني، وما بحثه من المعاني الثانوية في المجاز القرآني، والتي توصل اليها بفكره النير، من خلال نظره الفاحص في تقديم المتأخر، وعائدية الضمائر، وأسلوب العبارة، والتركيب الجملي، لرصد المضمون البياني في القرآن المتمثل لديه في التمثيل والتشبيه والإستعارة وأصناف المجاز، وهو كثيرا التنقل بالألفاظ القرأنية من الحقيقة الى المجاز مستعينا على ذلك بشؤون الكلام العربي في الحذف والإظهار، والتقدير والإضمار، ذلك بإزاء استجلاء إعجاز القرآن فنيا والتأكيد عليه لفظيا ومعنويا من خلال معطيات الشكل ومميزات المضمون.
صحيح أن الهدف الجانبي عند الزمخشري قد يكون كلاميا كما أسلفنا، ولكن هذا لا يمانع من أن يكون كتابه هذا جوهرة نحن بأمس الحاجة الى امثالها في تبيين روعة القرآن، وجمال عبارته، ودقة بلاغته.
ولست هنا في مجال الحديث عن الكشاف إلا إجمالا، ومن خلال هذا الإجمال، أضع نموذجين لتحقيقه المجازي بين يدي البحث: الأول، تعقيبه على قوله تعالى ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ (طه/5)، فهو يبحثها بلاغيا في ضوء ما تستعمله العرب مجازا أو كناية في معنى العرش والأستواء، ويضرب لذلك الأشباه والنظائر من القرآن الكريم والموروث العربي، فيقول:
"ولما كان الأستواء على العرش، وهو سرير الملك مما يردف الملك، جعلوه كناية عن الملك فقالوا: استوى فلان على العرش، يريدون ملك، وإن لم يقعد على السرير البتة. وقالوا أيضا - لشهرته في ذلك المعنى ومساواته -: ملك، في مؤداه وإن كان أشرح وأبسط أدل على صورة الأمر، ونحوه قولك: يد فلان مبسوطة ويد فلان مغلولة، بمعنى أنه جواد أو بخيل لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت: حتى أن من لم يبسط يده بالنوال قط، أو لم تكن له يد رأسا، قيل فيه: يده مبسوطة لمساواته عندهم قولهم هو جواد. ومنه قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ (المائدة/64)، أي هو بخيل ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ (المائدة/64)، أي هو جواد من غير تصور يد، ولا غل، ولا بسط. والتفسير بالنغمة، والتمحل للتثنية من ضيق العطف، والمسافرة عن علم البيان مسيرة أعوام "(37).
الثاني: تعقيبه على قوله تعالى: ﴿فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾ (البقرة/16)، قال: "فإن قلت: كيف أسند الخسران الى التجارة وهو لأصحابها؟ قلت: هو من الإسناد المجازي، وهو أن يسند الفعل الى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له كما تلبست التجارة بالمشترين.. فإن قلت: هب أن شراء الضلالة بالهدى وقع مجازا في معنى الاستبدال، فما معنى ذكر الربح والتجارة كأن تم مبايعة على الحقيقة؟ قلت: هذا من الصنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا، وهو أن تنساق كلمة مساق المجاز ثم تقفى بأشكال لها وأخوات إذا تلاحقن لم تر كلاما أحسن منه ديباجة، وأكثر ماءً ورونقا وهو المجاز المرشح... فكذلك لما ذكر سبحانه الشراء ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾ (البقرة/16)، أتبعه بما يشاكله ويواخيه، وما يكتمل ويتم بانضمامه إليه، تمثيلا لخسارهم وتصويرا لحقيقته ".
وفيما عدا الزمخشري بتوسعه في ذكر مجازات القرآن، بمعانيها الاصطلاحية فيما يبدوا لي، فإننا لا نجد نظيرا لهذا التفسير من هذا الوجه فحسب. نعم هناك شذرات مجازية في الجزء الخامس من " حقائق التأويل " للشريف الرضي (ت: 406 هـ) أشرنا إليها ضمن البحث فيما يأتي، ولو وصلنا حقائق التأويل كاملا لحصلنا على علم كثير.
وهناك لمحات مجازية عند السيد المرتضى (ت: 436 هـ) في أماليه (غرر الفوائد ودرر القلائد) وعند أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ت: 406 هـ) في التبيان، وعند أبي علي الطبرسي (ت: 548 هـ) في مجمع البيان، وعند فخر الدين الرازي (ت: 606 هـ) في مفاتيح الغيب، وعند أمثالهم من الأكابر، ولكنها لا تشكل عملا مجازيا تكامليا كما هي الحال في الكشاف.
وأما الحديث عن ابن رشيق (ت: 463 هـ) في العمدة، وابن سنان (ت: 466 هـ) في سر الفصاحة، وابن الزملكاني (ت: 651 هـ) في كل من البرهان والتبيان، وابن أبي الأصبع (ت: 654 هـ) في بديع القرآن، وابن الأثير (ت: 637 هـ) في المثل السائر، وسليمان بن علي الطوفي البغدادي (ت: 716 هـ) في الأكسير في علم التفسير، وشهاب الدين محمود الحلبي (ت: 725 هـ) في حسن التوسل، ويحيى بن حمزة العلوي (ت: 749 هـ) في الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز، وبدر الدين الزركشي (ت: 794 هـ) في البرهان، وجلال الدين السيوطي (ت: 911 هـ) في الاتقان. وأمثالهم من فطاحل البلاغيين والنقاد القدامى والتراثيين، فلهم في المجاز نظرات متفاوتة، إلا أن الملحظ لديهم الاستناد على أساس متين منه وهو مجاز القرآن، ولكنهم لم يكتبوا فيه كتابا قائما بذاته، أو جهدا موسوعيا كمن أسلفنا، بل جاء جزءا من كل، وتقاطيع في أبواب، لذا أشرنا إليهم، وستجد جملة من آراء بعضهم في الكتاب.
وهنا يجب أن نشير الى حقيقة مؤكدة هي أن كلا من أبي يعقوب السكاكي (ت: 626 هـ) والخطيب القزويني (ت: 739 هـ) وسعد الدين التفتازاني (ت: 791 هـ) وأضرابهم من علماء البلاغة كالسبكي والطيبي، قد كرسوا جهودهم التطبيقية في الحديث عن المجاز في البيان العربي على التمثل والاستشهاد والتنظير أولا بأول - بآيات المجاز في القرآن، فكان ذلك دون شك: سراجهم الهادي ودليلهم الأمين.
ولا بد لي من الإشارة الهادفة الى ما قدمه أبو حيان، أثير الدين، محمد بن يوسف الأندلسي (ت: 754 هـ) في تفسيره: (البحر المحيط) من جهد متميز يقتفي فيه آثار الشريف الرضي والزمخشري في تتبع اللمسات البلاغية في القرآن، والتأكيد على المجاز فنا بيانيا، وبذلك فهو مشارك مشاركة جيدة في هذا المضمار دون ابتكار أو تزيد فيما يبدوا لي.
1ظ: ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن.
2ظ: ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن.
3ظ: ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن: 15.
4المصدر نفسه: 78.
5المصدر نفسه: 101.
6طبع مستقلا بتحقيق محمد عبده، وطبع بشرح ابن أبي الحديد بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.
7حققه الأستاد محمد عبد الغني حسن، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1955.
8ظ: بدوي طبانة، البيان العربي: 30.
9الشريف الرضي: تلخيص البيان: 113.
10محمد عبد الغني حسن، مقدمة تلخيص البيان: 30.
11الشريف الرضي: تلخيص البيان: 118.
12الشريف الرضي، تلخيص البيان: 121.
13الشريف الرضي، تلخيص البيان: 162.
14الشريف الرضي، تلخيص البيان: 318.
15الشريف الرضي، تلخيص البيان: 330.
16الشريف الرضي، تلخيص البيان: 232 - 233.
17الشريف الرضي، تلخيص البيان: 237.
18الشريف الرضي، تلخيص البيان: 330.
19محمد عبد الغني حسن، مقدمة تلخيص البيان: 48.
20المؤلف، أصول البيان العربي، رؤية بلاغية معاصرة: 18.
21حققه لأول مرة كل من الأستاذ محمد عبدة، ومحمد محمود الشنقيطي. القاهرة، 1921 وصدرت مؤخرا طبعة منقحة، بتحقيق محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة 1984.
22حققه، وخرج آياته، وضبطه ضبطا علميا فريدا الأستاذ الدكتور هلموت ريتر، مطبعة المعارف، استانبول، 1954م.
23عبد القاهر، دلائل الإعجاز: 4.
24ظ: عبد القاهر، أسرار البلاغة: 376.
25المصدر نفسه: 356.
26ظ: المصدر نفسه: 344.
27ظ: فتحي أحمد عامر، فكرة النظم بين وجوه الإعجاز: 123.
28ظ: الرازي، نهاية الإيجاز: 48.
29ظ: السكاكي، مفتاح العلوم: 194 - 198.
30ظ: عبد القاهر، دلائل الإعجاز: 293 وما بعدها، تحقيق: محمود شاكر.
31ظ: عبد القاهر، دلائل الإعجاز: 462 تحقيق: محمود شاكر.
32عبد القاهر، أسرار البلاغة: 356 - 357.
33ظ: أمين الخولي: أساس البلاغة بين المعجم، تعريف بالكتاب في أوله.
34ظ: الزمخشري، أساس البلاغة، مقدمة المؤلف.
35الزمخشري، الكشاف: 1/191 وما بعدها.
36أمين الخولي، فن القول: 8 وما بعدها.
37ظ: كامل سعفان في كتابه: أمين الخولي، 113 وما بعدها وانظر مصادره.