المقسم عليه

المقسم عليه للأقسام الأربعة - أعني: التين، الزيتون، طور سينين، البلد الأمين - هو قوله سبحانه: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسانَ في أحْسَنِ تَقْويم * ثُمَّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلين) فيقع الكلام في أمرين:

أ- ما هو المراد من خلق الإنسان في أحسن تقويم ثمّ ردّه إلى أسفل سافلين؟

بـ ما هي الصلة بين الأقسام الأربعة وهاتين الآيتين اللتين هما المقسم عليه للأقسام الأربعة.

أمّا الأوّل فربّما يقال: انّ المراد من خلق الإنسان في أحسن تقويم هو جودة خلقه واستقامة وجوده من صباه إلى شبابه إلى كماله فيتمتع بكمال الصورة وجمال الهيئة وشدة القوة، فلم يزل على تلك الحال حتى يواجه بالنزول أي رده إلى الهرم والشيخوخة والكهولة فتأخذ قواه الظاهرة والباطنة بالضعف، وتنكس خلقته، قال سبحانه: (ومَن ْنُعَمِّرهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخَلْقِ أفَلا يَعْقِلُونَ)(1) لكن هذا التفسير لا يناسبه الاستثناء الوارد بعده قال سبحانه: (إلاّ الّذينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَلَهُمْ أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون) أي غير مقطوع.

فلو كان المراد من الآية ما جرت عليه سنّة اللّه تعالى في خلق الإنسان فهي سنّة عامة تعم المؤمن والكافر والصالح والطالح، مع أنّه يستثني المؤمن الصالح من تلك الضابطة.

فالأولى تفسير الآيتين بالتقويم المعنوي، وردّه إلى أسفل سافلين هو انحطاطه إلى الشقاء والخسران بأن يقال: انّ التقويم جعل الشيء ذا قوام، وقوام الشيء ما يقوم به ويثبت، فالإنسان بما هو إنسان صالح حسب الخلقة للعروج إلى الرفيق الأعلى، والفوز بحياة خالدة عند ربه سعيدة لا شقوة فيها، قال سبحانه: (ونَفْسٍ وما سَوّاها * فَألْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها)(2) فإذا آمن بما علم ومارس صالح الأعمال رفعه اللّه إليه، كما قال: (إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ والْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ)(3) يس، وقال عزّ اسمه: (يَرفَعِ اللّهُ الّذين َآمَنُوا مِنْكُمْ والَّذينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجات)(4)، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ارتفاع مقام الإنسان وارتقائه بالإيمان والعمل الصالح مقامًا عاليًا ذا عطاء من اللّه غير مجذوذ، وقد أشار في آخر هذه السورة إلى العطاء الدائم، بقوله: (فَلَهُمْ أجْرٌ غَيرُ مَمْنُون).

وعلى ذلك يكون المراد من أسفل سافلين هو تردّي الإنسان إلى الشقوة والخسران(5).

وأمّا وجه الصلة فلو قلنا بأنّ المراد من التين الجبل الذي عليه دمشق، وبالزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس وهما مبعثا جمّ غفير من الأنبياء، فالصلة واضحة، لأنّ هذه الأراضي أراضي الوحي والنبوة فقد أوحى اللّه سبحانه إلى أنبيائه في هذه الأمكنة ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى أحسن تقويم، ويصدهم عن التردي إلى أسفل سافلين.

وبعبارة أُخرى: إنّ هذه الأماكن مبعث الأنبياء ومهبط الوحي، فهؤلاء بفضل الوحي يهدون المجتمع الإنساني إلى الرقي والسعادة التي يعبر عنها القرآن بأحسن تقويم، ويحذرونه من الانحطاط والسقوط في الهاوية التي يعبر عنها سبحانه بـ(أسْفَلَ سافِلين).

إنّما الكلام فيما إذا كان المراد من التين والزيتون، الفاكهتان المعروفتان اللتين أقسم اللّه بهما لما فيهما من الفوائد الجمّة والخواص النافعة، فعندئذٍ لا تخلو الصلة من غموض، فليتدبر.

ولا يخفى انّ كلّ المخلوقات، من حيوان ونبات توحي بالجلال و الاحترام لها وبالجمال وكمال الخلق، وهي تبدو مبرمجة أو مخلوقة هكذا لا تحيد عن ذلك، فهل رأيت طيرًا لا يبني عشه أو لا يُطعمُ فراخه؟ أم رأيت حيوانًا لم يهبه اللّه الذكاء والمقدرة على تحصيل رزقه، أو الدفاع عن نفسه؟ حقًا انّ هذه المخلوقات لا تعرف الهزل، فهي جدّيّة ولكن في وداعة، غريبة ولكن في جمال، وبسيطة ولكن في جلال آسر.

إن كلاً منها تسير على الطريق التي اختطها الخالق لها طائعة ملبّية، وهي تسبّح بحمد ربـها كلّها.

إنّها لا تعرف الكذب أو المصانعة، بل هي متّسقة مع نفسها ومع ما حولها، بل و مع الكون جميعًا.

في تناغم عجيب وجمال بديع.

فتعالى اللّه الظاهر بعجائب تدبيره للناظرين والباطن بجلال عزّته عن فكرة المتوهمين(6).


1 - يس: 68

2 - الشمس: 7- 8

3 - فاطر: 10

4 - المجادلة: 11

5 - الميزان: 20|319- 320.

6 - أسرار الكون في القرآن: 283.