البلد الأمين

وقد ذكر لفظ البلد في دعاء إبراهيم، حيث قال: (وإذ ْقالَ إبْراهيم رَبِّ اجْعَل هذا بَلَدًا آمِنًا وارزُق أهْلهُ مِنَ الثَّمراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ واليَومِ الآخر)(1) وقال أيضًا: (رَبِّ اجْعَل هذا البلد آمنًا واجْنُبْني وبَنيّ أن نَعْبُد الأصْنام)(2).

وقد أمر سبحانه نبيّه الخاتم، أن يقول: (إنَّما أُمرت أن أعبُدَ ربَّ هذه البَلْدة الّذي حرّمها ولَهُ كُلّ شيء وأُمرت أن أكون من المُسلمين)(3).

وقد جاء ذكر البلد في بعض الآيات كناية، قال سبحانه: (انَّ الّذي فَرَضَ عَلَيْكَ القُرآن لَرادّكَ إلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أعْلَم مَنْ جاءَ بِالهُدى ومَنْ هُو في ضَلالٍ مُبين)(4).

والمراد من قوله (إلى معاد) هو موطنه الذي نشأ فيه.

وقد روى المفسرون في تفسير الآية انّه لما نزل النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" بالجحفة في مسيره إلى المدينة لما هاجر إليها اشتاق إلى مكة فأتاه جبرئيل (عليه السلام)، فقال: أتشتاق إلى بلدك ومولدك، فقال: نعم.

قال جبرئيل: فإنّ اللّه، يقول: (إنَّ الّذي فَرَضَ عَلَيْكَ القُرآن لَرادّكَ إلى مَعاد) يعني مكة ظاهرًا عليها، فنزلت الآية بالجحفة، وليست بمكية ولا مدنية، وسمّيت مكة معادًا لعوده إليها. عن ابن عباس(5).

كما ذكر أيضًا في آية أُخرى بوصفه وقال: (أو لَمْ يَرَوا انّا جَعَلْنا حَرمًا آمِنًا ويُتَخَطَّف النّاسُ منْ حَولهِم أفَبالباطِل يُؤمِنُونَ وبِنِعْمَةِ اللّه يكْفُرون)(6).

وقد وصف سبحانه البلد بالأمن وأصل الأمن طمأنينة النفس وزوال الخوف، وقد جعله وصفًا في بعض الآيات للحرم، قال سبحانه: (أو لَمْ نُمَكِّن لَهُمْ حَرمًا آمنًا يجبى إليهِ ثَمرات كلّ شَيْءٍ رِزْقًا من لَدُنّا ولكِنّ أكثَرهم لا يَعْلَمُون)(7).

وفي آية أُخرى يقول: (أؤ لَمْ يَرَوا أنّا جَعَلْنا حَرَمًا آمنًا ويُتَخَطَّف النّاسُ من حَولهِمْ أفَبالباطل يؤمنون وبنعمة اللّه يكفرون)(8).

والمراد من هذا الأمن هو الأمن التشريعي، بمعنى أنّه سبحانه حرم فيه القتل والحرب حتى قطع الأشجار والنباتات إلاّ بعض الأنواع مما تحتاج إليه الناس، والذي يوضح أنّ المراد من الأمن هو الأمن التشريعي لا التكويني قوله سبحانه: (إنَّ أؤلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذي بِبَكّة مُباركًا وهُدىً لِلْعالَمين * فِيه آياتٌ بَيِّنات مَقامُ إبراهيم ومَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِنًا وللّه عَلى النّاسِ حِجُّ الْبَيْت مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبيلاً ومَنْ كَفَرَ فإنَّ اللّه غَنِيٌّ عَن الْعالَمين)(9).

فالآية الأولى تحكي عن تشريع خاص، وهو أنّ الكعبة أوّل بيت وضعت لعبادة الناس، ويدل على ذلك أنّ فيه مقام إبراهيم، كما أنّ الآية الثانية تبيّن تشريعًا آخر، وهو وجوب حجّ البيت لمن استطاع إليه، وبين هذين التشريعين جاء قوله: (ومَنْ دَخَلَهُ كان َآمِنًا) وهذا دليل على أنّ المراد من الأمن هو الأمن التشريعي لا التكويني، ولذلك كان الطغاة يسلبون الأمن عن هذا البلد بين آونة وأُخرى.

ويشير إلى الأمن بقوله سبحانه: (جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الحَرام قِيامًا لِلنّاسِ والشَّهْرَ الحَرامَ)(10) وصف البيت بالحرام، حيث حرّم في مكانه القتال، وجعل الناس فيه في أمن من حيث دمائهم وأعراضهم وأموالهم.

فهذه الآيات تشير إلى مكانة البلد الذي احتضن البيت الحرام، ذلك المكان المقدس الذي حاز على أهمية بالغة عند المسلمين على اختلاف نحلهم، فإليه يوجِّه الناس وجوههم في صلواتهم وفي ذبائحهم وعند احتضار أمواتهم.

وفضلاً عن ذلك فانّه يعد ملتقىً عباديًا وسياسيًا لحشود كبيرة من المسلمين، وما يترتب عليه من نتائج بناءة على صعيد مدِّ جسور الثقة بين كافة النحل الإسلامية.

وبتبعه حاز البلد على مكانة مقدسة جعلته صالحًا للقسم به.


1 - البقرة: 126

2 - إبراهيم: 35

3 - النمل: 91

4 - القصص: 85

5 - مجمع البيان: 7|268.

6 - العنكبوت: 67

7 - القصص: 57

8 - العنكبوت: 67

9 - آل عمران: 96- 97

10 - المائدة: 97