تفسير الآيات

1، 2- (الشمس وضحاها)، حلف بالنيّر الكبير الذي له دور هام في استقرار الحياة على الأرض وهو مصدر للنور والحرارة، إلى غير ذلك من

المعطيات، وهو سلطان منظومتنا، وله حركة انتقالية وحركة وضعية، ويعجز البيان واللسان عن بيان ماله من الأهمية، ويكفيك هذا الأثر انّه ينتج في كلّ دقيقة 240 ميليون وحدة طاقة، ولم تزل ترفد بهذا العطاء على الرغم من أنّ عمرها يتجاوز الخمسة آلاف ميليون سنة.

هذه الشمس التي ما زالت أسرارها في الخفاء، هي محور نظامنا السيّاري ومصدر حياتنا أيضًا، هذه الشمس التي كلّ ما يكتشف عنها يزيدها غموضًا، ولم تزح يد العلم بعد النقاب عن كلّ ما يجب أن نعلمه عن الشمس، هذه الشمس التي تفقد أربعة ملايين طن من وزنها في الثانية من احتراقها، ولم تزل تجدّد وزنها وحجمها، والتي تبعث إلى العالم الخارجي طاقة تعادل خمسة آلاف بليون قنبلة ذرية في كلّ ثانية، وهي آية من آيات الخالق، وإن هي إلاّ آية صغيرة تزخر السماء بملايين من النجوم أضخم منها حجمًا وأكبر سرعة وأكثر تألّقًا(1).

كما حلف بضحى الشمس، وهو انبساط الشمس وامتداد النهار، والأولى أن يقال الضحى هو انبساط نورها وضوئها، فانّ لضوئها أثرًا خاصًا في نشوء الحياة وبقائها والفتك بالأمراض وزوالها.

3- (والْقَمَر إذا تَلاها) حلف بالقمر إذا تلا الشمس في الليالي البيض من الليلة الثالثة عشرة من الشهر إلى السادسة عشرة منه، وقت امتلائه أو قربه من الامتلاء حين يضيىَ الليل كلّه من غروب الشمس إلى الفجر.

وفي الحقيقة هذا حلف بالقمر وضوئه فانّ ضوء القمر إنّما ينتشر، إذا تلا الشمس وظهر بعد غروبها.

وربما يقال بأنّ المراد تبعية القمر للشمس في تمام الشهر، لأنّ نوره مأخوذ من نور الشمس فهو يتبعها في جميع الأزمان، ولكن المعنى الأوّل هو اللائح.

4- (والنّهار إذا جَلاّها) التجلي من الجلو بمعنى الكشف الظاهر، يقال: أجليت القوم عن منازلهم فجلوا عنها أي أبرزتهم عنها، وعلى ذلك فحلف سبحانه بالنهار إذا جلا الأرض وأظهرها، والضمير يعود إلى الأرض المفهوم من سياق الآية، ويحتمل أن يرجع الضمير إلى الشمس، فانّ النهار كلّما كان أجلى ظهورًا كانت الشمس أكمل وضوحًا، أي احلف بالنهار إذا جلّ-ى الشمس وأظهرها.

ولكن المعنى الأوّل هو الظاهر، لأنّ الشمس هي المظهرة للنهار، دون العكس.

5- (واللَّيلِ إذا يَغْشاها) حلف بالليل إذا غطّى الأرض وسترها في مقابل الشمس إذا جلا الأرض وأظهرها، وربما يتصوّر أنّ الضمير يرجع إلى الشمس، فحلف سبحانه بالليل إذا غطّى الشمس وهو بعيد، فانّ الليل أدون من أن يغطي الشمس وإنّما يغطي الأرض و من عليها.

والأفعال الواردة في الآيات السابقة كلها وردت بصيغة الماضي، (تلاها، جلاّها) وإلاّ في هذه الآية فقد وردت بصورة المضارع (يغشاها) فما هو الوجه؟

ذكر السيد الطباطبائي وجهًا استحسانيًا وقال: والتعبير عن غشيان الليل الأرض بالمضارع بخلاف تجلية النهار لها حيث قيل: (والنَّهار إذا جَلاّها * واللَّيل إذا يَغْشاها) للدلالة على الحال، ليكون فيه إيماء إلى غشيان الفجور الأرضَ في الزمن الحاضر الذي هو أوائل ظهور الدعوة الإسلامية(2).

6، 7- (والسَّماء ومابَناها)، فحلف بالسماء وبانيها، بناء على أنّ "ما" موصولة، وليست مصدرية، بقرينة الآية التالية حيث يحلف فيها بالنفس وخالقها ومسوِّيها، وغلبة الاستعمال على "ما" الموصولة في غير العاقل لم يمنع من استعمالها في العاقل أيضًا، قال سبحانه: (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِن َالنِّساءِ)(3).

ولعلّ استعمال "ما" مكان "من" لأجل أنّ الخطاب كان موجهًا إلى قوم لا يعرفون اللّه بجليل صفاته، وكان القصد منه أن ينزلوا في هذا الكون منزلة من يطلب للأثر مؤثرًا فينتقل من ذلك إلى معرفة اللّه تعالى، فعبّر عن نفسه بلفظة "ما" التي هي الغاية في الإبهام(4).

وفي ذكر السماء وبنيانها إلماع إلى أنّه يمتنع أن يكون رهن الصدفة، بل لا يتحقق إلاّبصانع حكيم قد أحكم وضعها وأجاد بناءها، خصوصًا بناء الكواكب التي ترتبط أجزاؤها البعض بالبعض، ولولا هذا الترابط لما كان لها تماسك.

8، 9- (والأرْض وما طَحاها) حلف بالأرض وطاحيها والطحو كالدحو، وهو البسط، وإبدال الطاء من الدال جائز، والمعنى وسَّعها.

وقد أشار إلى وصف الأرض في آية أُخرى وقال: (الّذي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِراشًا والسَّماءَ بِناءً)(5) فحلف سبحانه بالأرض وبما جعلها لنا فراشًا.

والأرض كوكب من الكواكب التي تدور حول الشمس وتتبعها في سيرها أينما سارت، وهي الكوكب الخامس من حيث الحجم، والثالث من حيث القرب من بين الكواكب التسعة التي تتكون منها المجموعة الشمسية.

والأرض تكاد تكون كرة، إلاّ أنّها منبعجة قليلاً عند خط الاستواء ومفلطحة عند القطبين(6).

10، 11- (ونَفْسٍ وما سَوّاها)، فالمراد من النفس هي الروح، قال سبحانه: (أخْرِجُوا أنفُسكُمْ)(7) وقال: (واعْلَمُوا أنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما في أنْفُسكُمْ فَاحْذَرُوهُ)(8)

وقال: (تَعْلَمُ ما في نَفْسِي ولا أعْلَمُ ما في نَفْسِكَ)(9).

فاذًا المراد من تسويتها إعطاؤها القوى الكثيرة الظاهرة والباطنة، فتسوية النفس هو تعديل قواها من الظاهرة والباطنة، ولو أُريد من النفس الروح والجسم فتسوية الجسم هو إيجادها بصورة متكاملة.

وأمّا تنكير النفس، فلأنّه أراد كل ّنفس من النفوس من دون أن يختص بنفس دون نفس، وربما يحتمل أن يكون التنكير إشارة إلى نفس خاصة، وهي نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمعنى الأوّل هو الأوضح بقرينة انّه أخذ يحلف بالكائنات الحيّة وغير الحيّة.

إلى هنا تمّ بيان الحلف بأحد عشر أمرًا، وهذه الآيات تشتمل على أكثر الأقسام الواردة في القرآن الكريم.

ثمّ إنّبعض من ينكمش من الحلف بغير اللّه سبحانه يرى نفسه أمام هذه الآيات، ويحس عجزًا في المنطق، ويقول: المراد هو ربّ الشمس والقمر وهكذا، ولكنّه غافل انّه لا يمكن تقديره في الآيتين الأخيرتين أي: (والسَّماء وما بَناها * والأرض وما طَحاها) إذ ينقلب معنى الآيتين أقسم بربّ السماء وربّ ما بناها أي ربّ بانيها، وهكذا الحلف بربّ الأرض وما طحاها، أي ربّ طاحيها.

إلى هنا تمّ الحلف بهذه الموجودات السماوية والأرضية والحية وغير الحية.

أخبر سبحانه بأنّه بعد ما خلق النفس وسوّاها واكتملت خلقتها ظاهرًا وباطنًا، علّمها سبحانه التقوى والفجور، وفهم من صحيح الذات ما هو الحسن والقبيح، وقد تعلّم ذلك في منهج الفطرة، وقد استعمل كلمة "ألهم" لأنّه بمعنى إلقاء الشيء في روع الإنسان من دون أن يعلم الملهم من أين أتى، والإنسان يعلم من صميم ذاته الحسن والسيّء من دون أن يتعلّم عند أحد.

وقد أشار سبحانه إلى هذا النوع من الهداية الباطنية في آيات أُخرى، وقال: (وهَدَيْناهُ النَّجْدَين)(10).

ولما حلف بالموجودات السماوية والأرضية غير الحيّة والحيّة، وانّه قد ألهم النفس الإنسانية طرق الصلاح والفلاح، أو طرق الشر والضلال، أتى بجواب القسم، وهو قوله: (قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكّاها * وقَدْ خابَ مَنْ دَسّاها)، فجعل "زكاها" مقابل "دساها" فيعلم معنى الثاني من الأوّل، فقال: (وقَدْ خابَ مَنْ دَسّاها).

والتزكية هو التطهير من الآثام، مقابل التدسيس، وهي إخفاء الرذائل والذنوب.

انّ قوله: (دسّاها) مشتق من التدسيس، وهو إخفاء الشيء من الشيء، والتدسيس مصدر دسّس، وهو من دسس يدسس تدسيسًا، ومعنى الآية فالإنسان

هو فاعل التزكية والتدسية ومتوليهما، والتزكية هي الإتمام والإعلاء بالتقوى، لأنّ لازم التطهير هو الإنماء كما أنّ التدسية النقص والإخفاء بالفجور.

والمقسم عليه: هو قوله: (قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكّاها * وقَدْ خابَ مَنْ دَسّاها)، وربّما يتصوّر أنّ جواب القسم محذوف.

قال الزمخشري: إنّ جوابه محذوف تقديره ليدمدمنّ اللّه على أهل مكة لتكذيبهم رسول اللّه كما دمدم على ثمود لأنّهم قد كذبوا صالحًا.

وأمّا قوله: (قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكّاها) فكلام تابع لقوله: (فَألْهَمَها فُجُورَها ؤتَقْواها) على سبيل الاستطراد، وليس من جواب القسم في شيء(11).

يلاحظ عليه: أنّه لو كان جواب القسم هو ما قدّره، يفقد الجواب الصلة اللازمة بينه و بين الأقسام الكثيرة الواردة في سورة الشمس، ولا مانع من أن يكون قوله: (قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكّاها) جواب القسم، بأن يكون تابعًا لقوله: (فَألْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها).

وعلى ما ذكرنا فالصلة بين الأمرين واضحة، وهي أنّه سبحانه يذكر نعمه الهائلة في هذه الآيات التي لو فقد البشر واحدًا منها لتوقفت عجلة الحياة عن السير نحو الأمام، فمقتضى إفاضة هذه النعم وإنارة الروح بإلهام الفجور والتقوى هو المشي على درب الطاعة، وتزكية النفس دون الولوج في طريق الفجور وإخفاء الدسائس الشيطانية.


1 - اللّه والعلم الحديث: 30

2 - الميزان: 20|297.

3 - النساء: 3

4 - تفسير المراغي: 30|167

5 - البقرة: 22

6 - اللّه والعلم الحديث: 25

7 - الأنعام: 93

8 - البقرة: 235

9 - المائدة: 116

10 - البلد: 10

11 - الكشاف: 3|342.