تفسير الآيات
حلف فيها سبحانه بمكة المكرمة كما حلف بالنبي "صلى الله عليه وآله وسلم" الحالِّ فيها، ومقتضى التناسب بين الأقسام أن يكون المراد من الوالد والولد، هو إبراهيم وإسماعيل اللذان بنيا البيت، ودعا إبراهيم كلّ راكب وراحل إلى زيارته.
أمّا الحلف الأوّل فواضح، لأنّ البيت مركز للتوحيد ولعبادة اللّه سبحانه، وهو مطاف أنبياء اللّه العظام وأوليائه، فقد بلغ من المكانة مرتبة صلح أن يحلف به سبحانه، كيف وقد قال سبحانه في حق البيت: (إنَّ أؤلَ بَيْتٍ وُضِعَ للنّاسِ لَلَّذي بِبَكَةَ مُباركًا وهُدًى لِلْعالَمين)(1).
قال سبحانه: (وإذْ جَعَلْنَا الْبَيْت مثابَةً لِلنّاسِ وأمْنًا)(2) وقال: (جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَة الْبَيْتَ الحَرامَ قِيامًا لِلنّاسِ)(3) فلو حلف بالبلد، فإنّما لأجل احتضانه أشرف بيوت اللّه، ويزيد على شرفه انّ النبي الخاتم، قطين هذا البلد، ونزيله، فزاده شرفًا على شرف، والحل هو الساكن.
وبذلك يعلم أنّ ذكره (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا النحو هو في الواقع حلف ضمنيّ به.
وهذا التفسير مبني على أنّ المراد من الحلِّ هو نزول النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" بهذا البلد، ولكن ربما يفسر بالمستحلّ، أي من استحلت حرمته وهتكت كرامته، وعند ذلك ينقلب معنى الآية إلى شيء آخر، ويكون معناها هو: لا أُقسم بهذا البلد المقدّس حال انّك مهتوك الحرمة والكرامة، ويكون توبيخًا وتقريعًا لكفّار قريش حيث إنّهم يحترمون البلد، ولا يحترمون من حلَّ فيه أشرف الخليقة.
وعلى ذلك فيكون "لا" في (لا أُقسمُ) بمعنى النفي لا الزيادة، ولا بمعنى نفي شيء آخر على ما قدمناه في تفسير سورة الواقعة.
يقول الزمخشري: أقسم سبحانه بالبلد الحرام وما بعده على أنّ الإنسان خلق مغمورًا في مكابدة المشاق والشدائد، واعترض بين القسم والمقسم عليه بقوله: (وأنْتَ حِلٌّ بِهذا الْبَلَد) يعني: ومن المكابدة أنّمثلك على عظم حرمتك يُستحل بهذا البلد الحرام، كما يُستحلّ الصيد في غير الحرم، عن شرحبيل يحرّمون أن يقتلوا بها صيدًا ويعضدوا بها شجرة ويستحلون إخراجك وقتلك، وفيه تثبيت من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة وتعجيب من حالهم في عداوته(4).
وقال الطبرسي: معناه لا أقسم بهذا البلد وأنت حلّفيه منتهك الحرمة
مستباح العرض لا تحترم، فلم يبق للبلد حرمة حيث هتكت حرمتك، قال وهو المروي عن أبي مسلم كما روي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)، قال: كانت قريش تعظم البلد وتستحل محمدًا فيه، فقال: لا أُقسم بهذا البلد وأنت حلّ بهذا البلد يريد انّهم استحلوك فكذبوك وشتموك، وكان لا يأخذ الرجل منهم قاتل أبيه فيه ويتقلدون لحاء شجر الحرم فيأمنون بتقليده إيّاه فاستحلوا من رسول اللّه ما لم يستحلوا من غيره فعاب اللّه ذلك عليهم(5).
ثمّ حلف بوالد وما ولد وللمفسرين في تفسيره أقوال أوضحها بأنّ الوالد هو إبراهيم الخليل والولد إسماعيل الذبيح وهذا يتناسب مع القسم بمكة، لأنّ الوالد والولد هما رفعا قواعد البيت.
وأمّا تفسيرها بآدم وذريته، أو آدم والأنبياء، أو آدم وكلّ من ولد عبر القرون تفسير بعيد.
هذا كلّه حول القسم، وأمّا المقسم عليه، فقوله سبحانه: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسانَ في كَبَد)(6).
والكبد في اللغة شدّة الأمر ومنه تكبد البلد إذا غلظ واشتد، ومنه الكبد للإنسان، لأنّه دم يغلظ ويشتد، وتكبّد البلد: إذا صار كالكبد، ومعنى الآية واضح، فانّ الإنسان منذ خلق إلى أن أدرج في أكفانه لم يزل يكابد أمرًا فأمرًا، فمن حمله وولادته ورضاعه وفطامه وشبابه وكماله وهرمه كلّ ذلك محفوف بالتعب والوصب، يقول الشاعر:
يا خاطب الدنيا الدَّني- * -ة إنّها شَ-رَكُ الرَّدى
دارٌ متى ما أضحكت * في يومها أبكت غدا
وإذا أظلَّ سحابها * لم ينتقع منه صدى
غاراتُها ما تنقضى * وأسيرها لا يُفتدى(7)
ويرثي التهامي ولده في قصيدة معروفة مبتدئًا بوصف الدنيا، ويقول:
حكم المنية في البرية جار * ما هذه الدنيا بدار قرار
بينا يُرى الإنسان فيها مخبرًا * حتى يرى خبرًا من الاخبار
طُبعتْ على كدر وأنت تريدها * صفوا من الاقدار والاكدار
ومكلِّف الأيام ضدَّ طباعها * متطلب في الماء جذوةَ نار
وإذا رجوت المستحيل فإنّما * تبني الرجاء على شفير هار
فالعيش نوم والمنية يقظة * والمرء بينهما خيال سار(8)
رحم اللّه شيخنا الوالد آية اللّه الشيخ محمد حسين السبحاني (1299-1392هـ) فقد كان في أواخر أيام عمره طريح الفراش فزارته ابنته "فاطمة" وكنت أرافقها فسألناه عن حاله فأنشدَ بيتًا من لامية العجم للطغرائي وقال:
ترجو البقاء بدار لا ثبـات لها * فهل سمعت بظل غير منتقل
أمّا الكلام حول الدنيا ومصاعبها وما احتضنت من التعب والوصب، فيكفي في ذلك قراءة خطب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، ننقل منها هذه الشذرات: "أمّا بعد، فإنّي أُحذركم الدنيا، فإنّها حلوة خضرة، حفّت بالشهوات، وتحبّبت بالعاجلة. وراقت بالقليل، وتحلّت بالآمال، وتزيّنت بالغرور، لا تدوم حبرتها، ولا تؤمن فجعتها، غرّارة ضرّارة، حائلة زائلة، نافدة بائدة، أكّالة غوّالة، لا تعدو - إذا تناهت إلى أُمنية أهل الرغبة فيها والرضاء (الرضى) بها - أن تكون كما قال اللّه تعالى سبحانه: (كَماءٍ أنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْض فَأصْبَحَ هَشيمًا تَذروهُ الرياح وكانَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيءٍ مُقتدرًا)(9) لم يكن امرؤ ومنها في حبرة إلاّ أعقبته بعدها عبرة، ولم يلق في سرّائها بطنًا، إلاّمنحته من ضرّائها ظهرًا.(10)
أو قال (عليه السلام) في خطبة أُخرى: "ألا وإنّ الدنيا قد تصرَّمت، وآذنت بانقضاء، وتنكَّر معروفها، وأدبرت حذّاء، فهي تحفز بالفناء سكّانها(ساكنيها)، وتحدو بالموت جيرانها، وقد أمرّ فيها ما كان حلوًا، وكدر منها ما كان صفوًا، فلم يبق (تبق) منها إلاّ سملة كسملة الإداوة أو جرعة كجرعة المقلة، لو تمزّزها الصّديان لم ينقع. فأزمعوا عباد اللّه الرحيل عن هذه الدار المقدور على أهلها الزّوال، ولا يغلبنّكم فيها الأمل، ولا يطولنّ عليكم فيها الأمد"(11).
يقول العلاّمة الطباطبائي: فليس يقصد نعمة من نعم الدنيا إلاّ خالصة في طيبها، محضة في هنائها، ولا ينال شيئًا منها إلاّ مشوبة بما ينغص العيش مقرونة بمقاساة ومكابدة، مضافًا إلى ما يصيبه من نوائب الدهر ويفاجئه من طوارق الحدثان(12).
وربّما ينظر الإنسان إلى من هو فوقه لا سيما الذين يتمتعون بالغنى والرفاه، فيخطر على باله أنّ حياة هؤلاء غير مشوبة بالكد والتعب، ولكنّ هذا التصوّر غير صائب إذ أنّ تعبهم وكدَّهم أكثر بمراتب من الذين هم دونهم.
وأمّا الصلة بين المقسم به (والد وما ولد) والمقسم عليه (لقد خلقنا الإنسان في كبد)، واضحة، إذ لم تزل حياة إبراهيم وولده مقرونة بالتعب والوصب، إذ ولد وقد أمضى صباه في الغاب خوفًا من بطش الجهاز الحاكم، وبعد ما خرج منها وله من العمر 13 سنة أخذ يكافح الوثنيين وعبّاد الأجرام السماوية، إلى ان حكم عليه بالرمي في النار والإحراق، فنجّاه اللّه سبحانه، فلم يجد بدًا من مغادرة الوطن والهجرة إلى فلسطين ولم يزل بها حتى أُمر بإيداع زوجه وابنه في بيداء قاحلة لا ماء فيها ولا زرع، يحكي سبحانه تلك الحالة عن لسان إبراهيم (عليه السلام) ويقول: (رَبَّنا إنّي أسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتي بِوادٍ غَيْر ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرّمِ رَبَّنا لِيُقيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَل ْأفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)(13).
1 - آل عمران: 96
2 - البقرة: 125
3 - المائدة: 97
4 - الكشاف: 3|338.
5 - مجمع البيان: 5|493.
6 - البلد: 4
7 - مقامات الحريري: 225، المقامة الثالثة والعشرون الشعرية.
8 - شهداء الفضيلة: 26
9 - الكهف: 45
10 - نهج البلاغة، الخطبة: 111
11 - نهج البلاغة، الخطبة: 52
12 - الميزان: 20|291.
13 - إبراهيم: 37.