تفسير الآيات

أشار سبحانه إلى الحلف الأوّل، أي الحلف بالكواكب بحالاتها الثلاث بقوله: الخُنَّس، الجوار، الكنس.

كما أشار إلى الحلف بالليل إذا أدبر، بقوله: (واللَّيْل ِإذا عَسْعَس).

وإلى الثالث أي الصبح المتنفس بقوله: (والصُّبْحِ إذا تَنَفَّس).

وجاء جواب القسم في قوله: (إنَّهُ لَقَولُ رَسُولٍ كَريم) فوصف الرسول بصفات خمس: كريم، ذي قوة، عند ذي العرش مكين، مطاع، ثم أمين.

فلنرجع إلى إيضاح الأقسام الثلاثة ثمّ نعرج إلى بيان الرابطة بين المقسم به والمقسم عليه.

أمّا الحلف الأوّل فهو رهن تفسير الألفاظ الثلاثة.

فقد ذكر سبحانه أوصافًا ثلاثة:

الأوّل: الخنس: وهو جمع خانس كالطُلَّب جمع طالب، فقد فسره الراغب في مفراداته بالمنقبض، قال سبحانه: (مِنْ شَرِّ الْوسْواسِ الخَنّاس) أي الشيطان الذي يخنس، أي ينقبض إذا ذكر اللّه تعالى.

وقال تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّس) أي بالكواكب التي تخنس بالنهار.

وقيل: الخنس من زحل والمشتري والمريخ، لأنّها تخنس في مجراها أي ترجع، واخنست عنه حقه أي أخرته(1).

فاللفظ هنا بمعنى الانقباض أو التأخر، ولعلهما يرجعان إلى معنى واحد، فانّ لازم التأخر هو الانقباض.

الثاني: الجوار: جمع جارية، والجري السير السريع مستعار من جري الماء.

قال الراغب: الجري، المرّ السريع، وأصله كمرِّ الماء.

قال سبحانه: (ومِنْ آياتِهِ الجوارِ فِي البَحْرِ كَالأعلام)(2) أي السفينة التي تجري في البحر.

الثالث: الكنس: جمع كانس والكنوس دخول الوحش كالظبي والطير كناسه أي بيته الذي اتخذه لنفسه واستقراره فيه، وهو كناية عن الاختفاء.

فالمقسم به في الواقع هي الجواري بما لها من الوصفين: الخنوس والكنوس، وكأنّه قال: فلا أقسم بالجوار الخنس والكنس، فقد ذهب أكثر المفسرين أنّ المراد من الجواري التي لها هذان الوصفان هي الكواكب الخمسة السيارة التي في منظومتنا الشمسية، والتي يمكن رؤيتها بالعين المجردة، وهي عطارد، الزهرة، المريخ، المشتري، زحل و يطلق عليها السيارات المتغيرة.

وتسمية هذه الخمسة بالسيارات والبواقي بالثابتات لا يعني نفي الجري والحركة عن غيرها، إذ لاشك انّ الكواكب جميعها متحركات، ولكن الفواصل والثوابت بين النجوم لو كانت ثابتة غير متغيرة فتطلق عليها الثابتات، ولو كانت متغيرة فتطلق عليها السيارات، فهذه السيارات الخمسة تتغير فواصلها عن سائر الكواكب.

إذا عرفت ذلك: فهذه الجواري الخمس لها خنوس وكنوس، وقد فسرا بأحد وجهين:

الأوّل: أنّها تختفي بالنهار، وهو المراد من الخنّس، وتظهر بالليل وهو المراد من الكنّس.

يلاحظ عليه: أنّ تفسير خنس بالاختفاء لا يناسب معناها اللغوي، أعني: الانقباض والتأخر إلاّ أن يكون كناية عن الاختفاء.

كما أنّ تفسير الكنس بالظهور خلاف ما عليه أهل اللغة في تفسيره بالاختفاء، وما ربما يقال: من أنّ-ها تظهر في أفلاكها كما تظهر الظبـاء في كنسها(3) لا يخلو من إشكال، فأنّ الظباء لا تظهر في كنسها بل تختفي فيها.

ولو سلمنا ذلك فالأولى أن يفسر الجواري بمطلق الكواكب لا الخمسة المتغيرة.

الثاني: أن يقال: انّ خنوسها وانقباضها كناية عن قرب فواصلها ثمّ هي تجري وتستمر في مجاريها، وكنوسها عبارة عن قربها و تراجعها.

قال في اللسان: "وكنست النجوم كنسًا، كنوسًا: استمرت من مجاريها ثم انصرفت راجعة(4).

وعلى ذلك فاللّه سبحانه يحلف بهذه الأنجم الخمسة بحالاتها الثلاث المترتبة في الليل، وهي انّها على أحوال ثلاثة.

منقبضات حينما تقرب فواصلها ثمّ إنّها بالجري يبتعد بعضها عن بعض، ثمّ ترجع بالتدريج إلى حالتها الأولى فهي بين الانقباض والابتعاد بالجري ثمّ الرجوع إلى حالتها الأولى.

(واللّيل إذا عَسْعَس): وقد فسر عسعس بإدبار الليل وإقباله، فإقبالها في أوّله وإدبارها في آخره.

والظاهر انّ المراد هو إقبالها.

قال الزجاج: عسعس الليل إذا أقبل وعسعس إذا أدبر، ولعل المراد هو الثاني بقرينة الحلف الثالث أعني (والصُّبح إذا تَنَفَّس)، والمراد من تنفس الصبح هو انبساط ضوئه على الأفق ودفعه الظلمة التي غشيته، وكأنّ الصبح موجود حيوي يغشاه السواد عند قبض النفس ويعلوه الضوء والانبساط عند التنفس قال الشاعر:

حتى إذا الصبـح لهـا تنفس-ا * وانجاب عنها ليلها وعسعسا

هذا كلّه حول المقسم به، وأمّا المقسم عليه فهو قوله: (إنَّهُ لَقَولُ رَسُولٍ كَريم).

الضمير في قوله: (إنَّهُ لَقَولُ رَسُولٍ كَريم) يرجع إلى القرآن بدليل قوله: (لقولُ رَسُولٍ) والمراد من "رسول هو جبرئيل وكون القرآن قوله لا ينافي كونه قول اللّه إذ يكفي في النسبة أدنى مناسبة وهي انّه أنزله على قلب سيد المرسلين.

قال سبحانه: (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْريلَ فَإنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإذْنِ اللّه)(5) وقال: (نَزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِين)(6).

ثمّ إنّه سبحانه وصفه بصفات ست:

1- رسول: يدل على وساطته في نزول الوحي إلى النبي.

2- كريم: عزيز بإعزاز اللّه.

3- ذي قوة: "ذي قدرة وشدة بالغة، كما قال سبحانه: (عَلَّمَهُ شَديدُ القُوى * ذُو مِرّةٍ فَاسْتَوى)(7).

4- (عِنْدَ ذِي الْعَرش مَكين): أي صاحب مكانة ومنزلة عند اللّه، وهي كونه مقربًا عند اللّه.مطاع: عند الملائكة فله أعوان يأمرهم وينهاهم.

5- أمين: لا يخون بما أمر بتبليغه ما تحمّل من الوحي.

وعطف على جواب القسم قوله: (وما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُون)(8) والمراد هو نبيّنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكأنّ صاحبه حلف بما حلف، للتأكيد على أمرين:

أ- القرآن نزل به جبرئيل.

بـ انّ محمّدًا ليس بمجنون.

ثمّ إنّ الصلة بين المقسم به والمقسم عليه: هو انّ القرآن - المقسم عليه - حاله كحال هذه الكواكب الثوابت لديكم، فكما أنّ لهذه الكواكب، انقباض وجري، وتراجع، فهكذا حال الناس مع هذا القرآن فهم بين منقبض من سماع القرآن، وجار وسار مع هداه، ومدبر عن هديه إلى العصر الجاهلي.

ثمّ إنّ القرآن أمام المستعدّين للهداية كالصبح في إسفاره، فهو لهم نور وهداية، كما أنّ للمدبرين عنه، كالليل المظلم، وهو عليهم عمى، واللّه العالم.

ثمّ إنّ في اتهام أمين الوحي بالخيانة، والنبي الأعظم بالجنون، دلالة واضحة على بلوغ القوم القسوة والشقاء حتى سوّغت لهم أنفسهم هذا العمل، فزين لهم الشيطان أعمالهم.

وأخيرًا نود الإشارة إلى كلمة قيمة لأحد علماء الفلك تكشف من خلالها عظمة تلك الكواكب والنجوم، حيث يقول: لا يستطيع المرء أن يرفع بصره نحو السماوات العلى إلاّ ويغضي إجلالاً ووقارًا، إذ يرى ملايين من النجوم الزاهرة الساطعة، ويراقب سيرها في أفلاكها وتنقلها في أبراجها، وكل ّنجم و أي كوكب، وكل سديم وأي سيار، إنّما هو دنيًا قائمة بذاتها، أكبر من الأرض وما فيها وما عليها وما حولها(9).


1 - مفردات الراغب: مادة خنس.

2 - الشورى: 32

3 - تفسير المراغي: 30|57.

4 - لسان العرب: مادة كنس.

5 - البقرة: 97

6 - الشعراء: 193 - 194

7 - النجم: 5 - 6

8 - التكوير: 22

9 - اللّه والعلم الحديث: 25