تفسير الآيات

قوله: (بما تبصرون ومالا تبصرون) يعم ما سوى اللّه لأنّه لا يخرج عن قسمين مبصر وغير مبصر، فيشمل الدنيا والآخرة والأجسام والأرواح والإنس والجن والنعم الظاهرة والباطنة، كما يشمل الخالق والمخلوق، فانّ الخالق داخل في قوله: ومالا تبصرون، وعلى هذا الوجه فقد حلف سبحانه بعالم الوجود وصحيفته.

ولكن استبعده السيد الطباطبائي، قائلاً: بأنّه من البعيد من أدب القرآن أن يجمع الخالق والمخلوق في صف واحد ويعظمه تعالى وما صنع تعظيمًا مشتركًا في عرض واحد(1).

ولكن يلاحظ عليه: بأنّه سبحانه ربّما جمع بين نفسه والرسول، وقال: (وما نَقَمُوا إلاّ أن أغناهُمُ اللّهُ ورَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ)(2) وقوله سبحانه: (وقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى اللّهُ عَمَلَكُمْ ورَسُولُهُ والْمُؤمِنُون(3))، إلى غير ذلك من الآيات فلاحظ.

وأمّا المراد من قوله: "لا " فقد سبق كلام المفسرين في توجيهه، وقد اخترنا انّقوله: "لا " رد لكلام مسبوق أو مقدر، ثمّ يبتدأ بقوله أقسم.

لقد أقسم سبحانه بشيء يخص البصر دون سائر الحواس، وقال: (فلا أُقسم بِما تبصرون وما لا تبصرون) هو أقسم بما نبصر وما أقله، وأقسم بما لا نبصر وما أكثره وأعظم خطره.

أقسم الحقُّ سبحانه هذا القسم العظيم بما له علاقة بالبصر ولم يُقسم بغيره مما هو محسوس، ذلك لأنّه رغم كونه يعطينا أوسع إحساس وأبعده وأسرعه بما يحيط بنا فانّه رغم ذلك لا يصلنا منه إلاّ أقل القليل.

هذا كلّه حول المقسم به، وأمّا المقسم عليه، فهو قوله: (إنَّهُ لَقَولُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وما هُؤ بِقَولِ شاعِرٍ قَليلاً ما تُؤمِنُونَ * ولا بِقَولِ كاهِنٍ قَليلاً ما تَذكَّرون * تنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمين)، فالمقسم عليه مركب من أُمور إيجابية أعني كونه: قول رسول كريم وانّه تنزيل من ربّ العالمين، وسلبية وهو أنّ القرآن ليس بقول شاعر ولا كاهن.

إنّما الكلام في ما هو المراد من قوله: (رسول كريم)، وقد ذُكر هذا أيضًا في سورة التكوير، قال سبحانه: (إنَّهُ لَقولُ رَسُولٍ كَريم * ذي قُوةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرشِ مَكِين * مُطاعٍ ثَمَّ أمين * وما صاحِبكُم ْبِمَجْنُون * ولَقد رَآهُ بِالأفُقِ المُبِين * وما هُو عَلى الغَيْبِ بِضَنِين * وما هُو بِقَولِ شَيْطانٍ رَجِيم)(4) ولا شكّ انّ المراد من

رسول في سورة التكوير هو أمين الوحي جبرئيل، بشهادة وصفه بقوله: (ذي قُوّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكين).

مضافًا إلى قوله: (ولَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبين) فانّ الضمير يرجع إلى رسول كريم، كما أنّ قوله: (وما هُو بِقَولِ شَيطانٍ رَجيم) معناه إنّما هو قول الملك، فانّ الشيطان يقابل الملك.

وأمّا المقام فيحتمل أن يراد منه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك لأنّه وصفه بقوله: لَيْسَ بِقَولِ شاعِرٍ ؤلا كاهن والقوم كانوا يصفون محمدًا بالشعر والكهانة ولا يصفون جبرئيل بهما.

والغرض المتوخّى من عزو القرآن إلى رسول كريم هو نفي كونه كلام شاعر أو كاهن، ولا ينافي ذلك أن يكون القرآن كلامه سبحانه، وفي الوقت نفسه كلام أمين الوحي وكلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لصحّة الإضافة إلى الجميع، فالقرآن كلامه سبحانه لأنّه فعله، وهو الذي أنشأه، وكلام جبرئيل، لأنّه هو الذي أنزله من جانبه سبحانه على قلب سيد المرسلين، وفي الوقت نفسه كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّه أظهره وبيّنه للناس، ويكفي في النسبة أدنى مناسبة.

وأمّا الصلة فقد بيّنها السيد الطباطبائي بالنحو التالي، وقال: وفي اختيار ما يبصرون ومالا يبصرون للأقسام به على حقّية القرآن ما لا يخفى من المناسبة، فانّ النظام الواحد المتشابك أجزاؤه الجاري في مجموع العالم يقضي بتوحّده تعالى، ومصير الكل إليه، وما يترتب عليه من بعث الرسل وإنزال الكتب، والقرآن خير كتاب سماوي يهدي إلى الحق ّفي جميع ذلك وإلى طريق مستقيم(5).

وبتعبير آخر: انّه سبحانه تبارك وتعالى حلف بعالم الغيب والشهادة - أي بمجموع الخليقة والنظام السائد على الوجود الإمكاني - على وجود هدف مشترك لهذا النظام، وهو صيرورة الإنسان في هذا الكوكب إنسانًا كاملاً مظهرًا لأسمائه وصفاته، ولا يتم تحقيق ذلك الهدف إلاّ من خلال بعث الرسل وإنزال الكتب، والقرآن كتاب سماوي أُنزل إلى الإنسان.

ثمّإنّه سبحانه دعم حلفه بالبرهان على المقسم عليه، فانّ المقسم عليه عبارة عن كون القرآن كلام رسول كريم أخذه من أمين الوحي، وهو من اللّه سبحانه وليس من مبدعاته ومتقوّلاته وإلاّ لعمّه العذاب فورًا، قال سبحانه: (ولَوْ تَقَولَ عَلَيْنا بعْضَ الأقاوِيلِ * لأخَذْنا مِنْهُ بِالْيمِينِ *ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْه الوتيِنَ * فَما مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ عَنْهُ حاجِزِين)(6).

فإذا حالف الرسول النجاح في الدعوة إلى رسالته والتفت حوله طوائف كثيرة فهو أوضح دليل على أنّه غير كاذب في دعوته وصادق في عزوها إلى اللّه وإلاّ لما أمهله اللّه سبحانه هذا المقدار من الزمان.

وثمة سؤال يثار، وهو انّ هذه الآيات توعد المتنبىَ الكاذب على اللّه سبحانه بالهلاك، فلو كان هذا مفاد الآية لزم تصديق كلّمن ادّعى النبوّة ولم يشمله العذاب و الهلاك، إذ لو كان كاذبًا لأخذه سبحانه باليمين، وقطع منه الوتين، فإذا لم يفعل، فهذا دليل على صدق كلامه وفعاله مع أنّه أمر لا يمكن الالتزام به؟

والجواب: انّ القرآن الكريم ليس بصدد بيان أنّ كلّ من تقؤل على اللّه سوف يعمّه العذاب والهلاك، وإنّما هو بصدد بيان بعض الفئات المتقوّلة التي تدعي صلتها باللّه سبحانه خلال معجزة قاهرة خلابة للعقول، فهذا النوع من

التقوّل يدخل تحت هذه القاعدة، كما في ادّعاء رسول اللّه "صلى الله عليه وآله وسلم" الرسالة التي أرفقها بمعجزة أبهرت العقول وأدهشت الألباب، فخضع له العرب والعجم في ظل هذه المعجزة، فلو تقوّل - والعياذ باللّه - يعمّه العذاب، لأنّه من القبيح أن تقع المعجزة على يد الكاذب، فسيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) ومضيه قدمًا في الدعوة إلى ربّه حتّى وافته المنية أوضح دليل على أنّه صادق في رسالته، وانّ كلامه كلام ربّه، وانّه ليس بكاهن ولا شاعر.

وأمّا قوله سبحانه: (لأخذْنا منهُ بالْيَمين) ففيه وجوه أربعة:

1- أخذنا بيمينه كما يؤخذ المجرم بيده.

2- أو سلبنا عنه القوة، فان ّاليد اليمنى شارة القوة.

3- أو لقطعنا منه يده اليمنى.

4- أو لانتقمنا منه بقوة.

والآية بمنزلة قوله سبحانه: (ولَولا أن ثَبَّتْناكَ لَقَد كِدتَ تَركَنُ إلَيهِمْ شَيئًا قَليلاً * إذًَا لأذَقْناكَ ضِعْفَ الحَياةِ وضِعْفَ المَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصيرًا)(7).


1 - الميزان: 19|403.

2 - التوبة: 74

3 - التوبة: 105

4 - التكوير: 19- 25

5 - الميزان: 19|403.

6 - الحاقة: 44- 47

7 - الإسراء: 74-75