تفسير الآيات
1- حلف سبحانه بالقلم، وقال: (والقلم وما يسطرون) وهل المراد منه جنس القلم الذي يكتب به من في السماء ومن في الأرض، قال تعالى: (وربُّكَ الأكْرَم * الَّذي عَلَّمَ بِالقَلَم * عَلَّمَ الإنْسانَ ما لَمْ يَعْلَم)(1).
فمنّ سبحانه وتعالى بتيسير الكتابة بالقلم، كما منَّ بالنطق، وقال: (خَلَقَ الإنْسان * عَلَّمَهُ البَيان)(2).
فالقلم والبيان نعمتان كبيرتان، فبالبيان يخاطب الحاضرين، كما أنّه بالقلم يخاطب الغائبين فتمكن بهما تعريف القريب والبعيد بما في قرارة ذهنه.
وربما قيل: إنّ المراد هو القلم المعهود الذي جاء في الخبر: "إنّ أوّل ما خلق اللّه هو القلم" ولكنّه تفسير بعيد عن أذهان المخاطبين في صدر الإسلام الذين لم يكونوا عارفين بأوّل ما خلق اللّه ولا بآخره.
ثمّ إنّه سبحانه حلف بـ (ما يسطرون)، فلو كانت "ما" مصدرية يكون المراد "وسطرهم" فيكون القسم بنفس الكتابة، كما يحتمل أن يكون المراد
المسطور والمكتوب، وعلى ذلك حلف سبحانه بجنس القلم وبجنس الكتابة، أو بجنس المكتوب، كأنّه قيل: "أحلف بالقلم وسطرهم أو مسطوراتهم".
ثمّ إنّ في الحلف بالقلم والكتابة والمكتوب إلماعًا إلى مكانة القلم والكتابة في الإسلام، كما أنّ في قوله سبحانه: (علّم بالْقَلم) إشارة إلى ذلك، والعجب أنّ القرآن الكريم نزل وسط مجتمع ساده التخلّف والجهل والأميّة، وكان من يجيد القراءة والكتابة في العصر الجاهلي لا يتجاوز عدد الأصابع، وقد سرد البلاذري في كتابه "فتوح البلدان" أسماء سبعة شر رجلاً في مكة، وأحد عشر من يثرب.(3)
وهذا ابن خلدون يحكي في مقدمته: أنّ عهد قريش بالكتابة لم يكن بعيدًا، بل كان حديثًا وقريبًا بعهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)(4).
ومع ذلك يعود القرآن ليؤكد بالحلف بالقلم على مكانة القلم والكتابة في الحضارة الإسلامية، وجعل في ظل هذا التعليم أمة متحضرة احتلّت مكانتها بين الحضارات.
وليس هذه الآية وحيد نسجها في الدعوة إلى القلم والكتابة بل ثمة آية أُخرى هي أكبر آية في الكتاب العزيز، يقول سبحانه: (يا أيُّهَا الَّذين َآمنُوا إذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسمّىً فَاكْتُبُوهُ ولْيَكْتُب بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالعَدْلِ ولا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمهُ اللّهُ فَلْيَكْتُب...)(5).
كما أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حثّ على كتابة حديثه الذي هو المصدر الثاني بعد القرآن الكريم:
1- أخرج أبو داود في سننه، عن عبد اللّه بن عمرو، قال: كنت أكتب كلّ شيء أسمعه من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، أريد حفظه فنهتني قريش، وقالوا: أتكتب كلّ شيء تسمعه ورسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فأومأ باصبعه إلى فيه، وقال: " اكتب، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلاّ حقًّا"(6).
2- أخرج الترمذي في سننه عن أبي هريرة، قال: كان رجل من الأنصار يجلس إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيسمع من النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" الحديث فيعجبه ولا يحفظه، فشكا ذلك إلى النبي "صلى الله عليه وآله وسلم"، فقال: يا رسول اللّه إنّي أسمع منك الحديث فيعجبني ولا أحفظه، فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): "استعن بيمينك" وأومأ بيده للخط(7).
3- أخرج الخطيب البغدادي عن رافع بن خديج، قال: مرّ علينا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يومًا، ونحن نتحدّث، فقال: "ما تحدّثون؟"
فقلنا: نتحدّث عنك يا رسول اللّه.
قال: "تحدّثوا، وليتبوّأ من كذّب عليّ مقعدًا من جهنم".
ومضى (صلى الله عليه وآله وسلم) بحاجته، ونكس القوم رؤوسهم...قال: "ما شأنكم؟ ألا تحدّثون؟".
قالوا: الذي سمعنا منك، يا رسول اللّه.
قال: "إنّي لم أرد ذلك، إنّما أردت من تعمّد ذلك" قال: فتحدثنا.
قال: قلت: يا رسول اللّه: إنّا نسمع منك أشياء، فنكتبها.
قال: "اكتبوا ولا حرج"(8).
وبعد هذه الأهمية البالغة التي أولاها الكتاب العزيز والنبي للكتابة، أفهل من المعقول أن ينسب إليه انّه منع من كتابة الحديث؟! مع أنّها أحاديث آحاد تضاد الكتاب العزيز والسنّة والسيرة المتواترة ونجلُّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الحيلولة دون كتابة السنّة.
هذا والكلام ذو شجون وقد أسهبنا البحث حوله في كتاب "الحديث النبوي بين الرواية والدراية"(9).
هذا كلّه حول المقسم به.
وأمّا المقسم عليه: فقد جاء في قوله سبحانه: (ما أنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون) والمراد من النعمة النبوّة والإيمان، والباء للسببية أي لست أنت بسبب هذه النعمة بمجنون، ردًا على من جعل نبوّته ونزول القرآن عليه دليلاً على جنونه، قال سبحانه: (وإنْ يَكادُ الَّذينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأبْصارِهِمْ لَمّا سمِعُوا الذِّكْرَ ويَقُولُونَ إنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وما هُو إلاّ ذِكْرٌ لِلْعالَمين)(10).
ويحتمل أن يكون المراد من النعمة كلّما تفضل عليه سبحانه من النعم وراء الإيمان والنبوّة كفصاحته وبلاغته وعقله الكامل وخلقه الممتاز، فانّ هذه الصفات تنافي حصول الجنون.
واحتمل الرازي أن يكون جملة (بِنعْمة رَبّك) مقطوعة عمّا قبله و ما بعده، وانّ وزانها وزان بحمد اللّه في الجمل التالية:
أنت - بحمد اللّه - عاقل.
أنت - بحمد اللّه - لست بمجنون.
أنت - بنعمة اللّه - فهيم.
أنت - بنعمة اللّه - لست بفقير.
وعلى هذا التقدير يكون معنى الآية "ما أنت - في ظل نعمة ربّك - بمجنون.(11)
وهناك احتمال ثالث وهو نفس هذا الاحتمال، وجعل الباء حرف القسم، وعلى ذلك يكون الحلف مقرونًا بالدليل، وهو: انّ من أنعم اللّه عليه بهذه النعم الإلهية كيف يتهمونه بالجنون، مضافًا إلى أنّ لك في الآخرة لأجرًا غير ممنون، كما قال سبحانه: (وإنَّ لَكَ لأجْرًا غير مَمنون) والممنون مشتق من مادة "منّ" بمعنى القطع أي الجزاء المتواصل إلى الأبد.
ثمّ إنّه سبحانه يستدل بدليل آخر على نزاهته من هذه التهمة، وهي قوله سبحانه: (وإنَّكَ لَعلى خُلقٍ عَظيم) فمن كان على خلق يعترف به القريب والبعيد فكيف يكون مجنونًا؟!
فقد تجسَّم في شخصية الرسول العطف والحنان إلى القريب والبعيد، والصبر والاستقامة في طريق الهدف، والعفو عن المتجاوز بعد التمكن والقدرة، والتجافي عن الدنيا وغرورها، إلى غير ذلك من محاسن الأخلاق، وبذلك ظهر انّ الحلف صار مقرونًا بالدليل.
وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه، فهو انّ القلم والكتابة آية العقل
والدراية، فحلف به لغاية نفي الجنون عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
يقول المراغي: أقسم ربّنا بالقلم وما يسطر به من الكتب: انّ محمّدًا الذي أنعم اللّه عليه بنعمة النبوّة ليس بمجنون كما تدّعون، وكيف يكون مجنونًا والكتب والأقلام أعدت لكتابة ما ينزل عليه من الوحي؟!(12).
ونختم البحث بحديث رواه الشيخ يحيى البحراني عن النبي في كتابه "الشهاب في الحكم والآداب": قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "ثلاثة تخرق الحجب وتنتهي إلى ما بين يدي اللّه:
1- صرير أقلام العلماء.
2- وطء أقدام المجاهدين.
3- صوت مغازل المحسنات"(13).
1 - العلق: 3 - 5
2 - الرحمن: 3 - 4
3 - فتوح البلدان : 457.
4 - مقدمة ابن خلدون: 418.
5 - البقرة: 282
6 - سنن أبي داود: 3|318، برقم 3646، باب في كتابة العلم؛ مسند أحمد: 2|162؛سننالدارمي: 1|125، باب من رخص في كتابة العلم.
7 - سنن الترمذي: 5|39، برقم 2666.
8 - تقييد العلم: 72و73.
9 - انظر صفحة 12- 32 من نفس الكتاب.
10 - القلم: 51- 52
11 - تفسير الفخر الرازي: 29|79.
12 - تفسير المراغي: 29|27.
13 - الشهاب في الحكم والآداب: 22.